يقولون إن لبنان في حاجة الى رئيس قوي. ونحن ايضا نقول ذلك؛ بل نقول، هذا أقل ما نريد. لأن القوة وحدها لا تكفي. فهي قد تكون ويلاً ان لم تروضها الحكمة، وقد تكون ضعفاً ان لم تحط بالمعرفة؛ كما قد تكون ظلماً ان لم تنحن بالتواضع. وكم جاء الى هذا العالم اقوياء، وخربوهّ! كان هتلر رجلاً قوياً الا انه قاد بلاده وشعبه الى الدمار والموت. وهل نريد نحن دماراً وموتاً أكثر؟ لذا نقول، إن لبنان في حاجة الى رئيس قائد أكثر مما هو في حاجة الى رئيس قوي. فالقوي ليس بالضرورة قائداً، أما القائد فهو بالضرورة قوي. القيادة هي كل شيء. بها تصل الى الرؤيا. دونها لا تصل الى مكان.
ان لب المشكلة في لبنان هو عدم وجود قيادة سياسية تليق به. قيادة تصهر جميع “الشعوب” اللبنانية في شعب واحد، وتصهر جميع الطوائف في طائفة واحدة اسمها لبنان. قيادة تبلور رؤيا جديدة وواحدة للبنان الذي نريد، وتضع استراتيجية للوصول الى هذه الرؤيا. منذ الاستقلال الى يومنا هذا لم تقم الدولة. من يقول اليوم ان الدولة لا تقوم بوجود الدويلات فهو على حق. كذلك على حق أيضا من يقول الدولة لم تقم يوم لم تكن هناك دويلات. لم تكن الدولة دولة قبل الحروب التي قتلتنا وشتتتنا. ولم تكن الدولة دولة قبل المقاومة الفلسطينية، ولم تكن الدولة دولة قبل المقاومة الاسلامية. إن عدم قيام الدولة لم يكن نتيجة لقيام الدويلات فحسب بل كان ايضا سبباً لوجودها. وعبثاً نحاول اليوم بناء الدولة ان لم نتمكن من صنع قيادات سياسية قادرة على الارتقاء بنا الى الوطن. وأول ما نريده اليوم انتخاب رئيس جديد للجمهورية يكون رئيساً قائداً لا رئيساً توافقياً، رئيساً لبنانياً لا رئيساً مسيحياً، رئيساً رؤيوياً لا رئيساً تقليدياً. نحن في حاجة الى رئيس بحجم نلسون مانديلا. فهل هناك بين اللبنانيين واحد على شبهه؟
وحده رئيس بحجم مانديلا قادر على انزال لبنان عن الصليب. لم يكن مانديلا رجلاً عظيماً لأنه كان رجل سلطة بل لأنه وضع السلطة في خدمة شعبه. ولم يكن رئيساً تاريخياً لأنه كان رجلاً قوياً، بل لانه وضع قوته، كل قوته في سبيل تحرير بلاده. ولم يكن رئيس دولة بل كان اكبر من ذلك. كان نموذجاً للقيادة. فهو لم ينحدر الى الحقد والثأر بل ارتفع الى الغفران، فعامل اعداءه كما عامل أصدقاءه. كل ذلك في سبيل خلاص بلاده. وهو لم يطلب شيئاً لشخصه، بل تنازل عن شخصيه في سبيل الوصول الى السلام في ارضه.
وكم نحن اليوم في حاجة الى مانديلا لبناني. قائد يرتفع بنا فوق الصغائر، يرتفع بنا فوق السياسة. يرتفع بنا الى لبنان. قائد يحررنا من قشورنا ويأخذنا الى العظمة. وحدها العظمة تليق بلبنان. ولا يكون هذا القائد عظيماً ان لم يكن ولاؤه للأرض مطلقاً، وان لم يعبد “لبنان بعد الله”. ولن نتحدث اليوم عن عدم الولاء للبنان. ولن نتحدث عن الفساد، بل نريد رئيساً يعتبر الفساد وعدم الولاء للوطن عدوين أكبر من اعدائنا.
والمطلوب من الرئيس الجديد، العودة بالجميع الى حضن الدولة، الى لبنان. ولربما كان الجميع قد تعبوا وهم يريدون العودة، الا انهم قد يتوقون الى رؤية دولة ما أولاً، ووجود قائد ما يغمرهم بالثقة والاطمئنان. ويقولون، كيف العودة الى الدولة وهناك مقاومة مسلحة، وسلاحها خارج الدولة؟ الجواب هو ان القيادة الحكيمة والخلاقة قادرة على تحويل ما هو غير ممكن اليوم الى ما هو ممكن غداً. كما هي قادرة على نقل القرار السياسي من يد الذي يمتلك القوة العسكرية الى يد الذي يمتلك قوة الحق.
نحن ندعم اعلان بعبدا، كما ندعم مبدأ الحياد، الاّ اننا نؤمن بأن هذه المبادئ تبقى رهينة القوى السياسية ان لم تحررها، وتفعلها الديبلوماسية الذكية والفاعلة. في السنوات الاخيرة، كانت قمة الديبلوماسية اللبنانية هي سياسة النأي بالنفس، فكانت نتيجتها تدفق مليون لاجئ سوري الى لبنان. ان “النأي بالنفس” ليس سياسة بقدر ما هو موقف. السياسة تتطلب وضع استراتيجية للحياد. ذلك الحياد الذي لا يقود فقط الى تحييد لبنان عن حروب الآخرين بل يقود كذلك الى حماية لبنان من دفع ثمن هذه الحروب. من فلسطين الى سوريا، ولبنان يستورد اللاجئين، الا انه، على رغم كل حروبه، لم يصدّر يوماً لاجئاً لبنانياً واحداً.
ويبقى ان المشكلة لا تنتهي بانتخاب رئيس للجمهورية. فهي اعمق من ذلك. المشكلة هي في مفهومنا الخاطىء لعلاقة المواطن بالوطن، وفي عدم وجود ثقافة المواطنة. لذا قامت الدويلات ولم تقم الدولة. وحدها الدولة المدنية تلغي كل هذه الدويلات وترتقي بنا من رعايا الى مواطنين. كانت هذه رؤيا الثورات العربية قبل ان تضلّ هذه الثورات الطريق.
وتعالوا نفتش عن رئيس بحجم مانديلا ليكون بحجم لبنان واذا كانت جنوب افريقيا قادرة على صنع رجل مثل مانديلا، فلماذا لا يقدر لبنان؟ وأين آلام جنوب افريقيا من آلامنا؟ نريد رئيساً يعرف معنى الألم.