وصلت مرحلة التغيير الديموغرافي في لبنان من جراء عملية النزوح السوري اليومية إلى مرحلة لم يعد من الممكن ترك العامل السكاني يسير دون ضوابط ونواظم وسياسات تحد من تأثيراته السلبية المرهقة لعمليات التنمية، حيث أنها لا تساهم ايجابا في الإستثمار الأمثل لما هو متاح من الموارد الطبيعية بأنواعها المختلفة المتجددة أو بطيئة التجدد أو الآيلة للنضوب.
وغني عن البيان أن النسبة السكانية الحالية المرتفعة هي نتيجة لحركة النزوح السوري إلى لبنان بسبب العمليات العسكرية وإنعكاساتها على الوضع الداخلي، وبالتالي فإن السلوك الديموغرافي للأجيال الحالية هو الذي سيرسم الصورة المستقبلية للواقع السكاني في لبنان في المرحلة المقبلة.
وإذا إستطاع لبنان أن يستوعب الزيادة السنوية لحجم السكان فيه بسبب الأزمة السورية وتفاقم عدد النازحين الذي تجاوز المليونين واستطاع هذا البلد الصغير أن يمتص المشاكل السكانية المرافقة لهذه الزيادة المطردة لأسباب عديدة لا مجال لذكرها الآن، فإن جميع المؤشرات الإقتصادية والإجتماعية تشير إلى أن ذلك سوف يكون متعذراً في المرحلة القادمة في حال إستمرت الإتجاهات التصاعدية لوتائر النمو السكاني دون تدخل أو ضبط فعّال عبر مجموعة من الإجراءات الكميّة والنوعية المتكاملة في ما بينها، والمؤثرة في إتجاهات النمو السكاني وفي نوعية الخصائص السكانية بما يسهم في تحويل تحديات المسألة السكانية من مخاطر إلى فرص تنموية بدل من أن يتحّول هذا التحدي السكاني إلى مشكلة سكانية عصية على الحل، لا سيما عندما تتفرع إلى مشكلات إجتماعية وإقتصادية ناجمة عن الضغط على الطاقة والمياه والموارد والخدمات وما يستتبع ذلك من إزدياد أو تفاقم في كل المظاهرالإجتماعية كالفقر والبطالة والهجرة..الخ.
ويعد التحسن في مستوى رفاهية السكان أحد الجوانب المهمة لعملية التنمية الإقتصادية أو ما تعرف بالتنمية المستدامة، لإن هذا لا ينطوي فقط على مجرد الزيادة في الإنتاجية، ولكن أيضا على زيادة قدرة الناس على الإستهلاك بشكل أكبر، سواء كانت تلك السلع المستهلكة مشتراة بواسطتهم أو مقدمة اليهم بشكل مجاني لتحسين مستوى معيشتهم. كذلك يدخل ضمن قائمة التحسين في الناتج الزيادة في الدخل، وأيضا تحقيق فرص العمل والإستقرار الوظيفي، وتعليم أفضل، ومستويات مقبولة من الصحة والتغذية، وسكن يوفي الحاجات، وزيادة في الخدمات العامة المقدمة مثل الماء، والطاقة والنقل، ووسائل المتعة والرفاهية، وزيادة في خدمات الشرطة والأمن. ومثل هذا التحسن في الرفاهية البشرية لا شك أنه سوف يساعد على زيادة الإنتاجية الإقتصادية.
تتوافق كل الآراء الإقتصادية في الدول المتقدمة مع النظرية القائلة بأن النمو السكاني يعد عاملا معوقا للتنمية الإقتصادية. فبغض النظر عن السبب المبدئي للنمو الإقتصادي، فإن هذا النمو لن ينعكس في شكل تنمية مستدامة إلا إذا تم التحكم في عامل النمو السكاني. فالزيادة في السكان تعني أعباء إضافية على الفرد وخاصة في مسألة توفير الغذاء والكساء والمأوى ونفقات التعليم، وإذا لم يتزايد الناتج القومي بالقدر الذي يكفي لمواجهه هذه الأعباء فإن المستويات المعيشية للسكان لن تتحسن وسوف تكون في إنحدار دائم.
إن نقطة البدء في التنمية الإقتصادية هي الإستثمار الرأسمالي، والرأس المال يمثل رصيد السلع التي تستخدم في إنتاج السلع الأخرى أي أنها تستهلك بشكل مباشر، وبهذا الشكل فإن رأس المال هو الأموال التي ننفقها اليوم لكي نحصل على مدخول إضافي في المستقبل، وهو ما يعني أن رأس المال لا يشمل فقط الإنفاق على الآلات او الإنفاق على الإنشاءات أو جزء من الإستثمارات المالية، بل يشمل الرأس المال البشري، أي الإنفاق على التعليم والصحة، وبشكل عام فهو الإنفاق التراكمي لإستخدام العلم والمعرفة في صالح الإقتصاد الوطني. ولكي ينمو إقتصاد ما، فإن مستوى الإنفاق الرأسمالي لابد وأن يتزايد بوتيرة مقبولة، ومن الواضح أنه كلما زاد معدل نمو السكان فإن مستوى الإنفاق الرأسمالي لابد وأن يلحق هذا التزايد. وأذا زاد النمو السكاني بمعدلات تقترب من معدلات الإستثمار فإن الإقتصاد سوف ينحصر في دائرة الفقر، وكذلك النمو الإقتصادي في هذه الحالة لن يكون قادرا على إنتشال الإقتصاد من حالة العجز التي سوف توّلد مزيدا من حالات الفقر التي سوف تنشأ بوتيرة سريعة ومتفاقمة.
إن هذه المشكلة الاقتصادية واضحة مثل عين الشمس, خاصة إذا علمنا أن الوضع الحالي في لبنان يواجه إرتفاعا في معدلات النمو السكاني ويقارب مستويات مرتفعة من حالات الفقر ومن البطالة في صفوف الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين ال21 عاما وال40 وهي تشكل نسبة تفوق 27%. وهذه الصورة أصبحت ظاهرة لأي مراقب من كثرة المعوزين على الطرقات والأرصفة والضغط على مالية الدولة من جراء الكلفة الإجتماعية لتغطية حاجات هؤلاء النازحين التي ستحول دون قدرة الدولة على إدخار الأموال اللازمة لدفع الإستثمارات الى مستويات كفيلة برفع الإقتصاد نحو نمو سريع يساعد على سد العجز ويرفد الخزينة العامة بأموال تساعد في تخفيض إجمالي الدين العام الذي أصبح يهدد كيان الدولة.
إن المجتمع الذي ينمو فيه السكان بصورة سريعة سوف يكوّن جيلا ناشئا, بمعنى أن نسبة كبيرة من السكان سوف تكون عند أعمار صغيرة، وسوف يترتب على ذلك نتيجتان مهمتان لهذا الهيكل، الأولى معدل الإعالة المطلوب الذي سوف يكون مرتفعا، والثانية أنه سوف يضع ضغوطا حادة على الإقتصاد لتوليد مدخرات مالية سريعة للقيام بالإستثمارات اللازمة في قطاعات مغيبة مثل الصناعة, لكي يتم توفير الوظائف لهذا الجيل الجديد من المواطنين في السوق العمل الوطني. إن حالة نمو السكان بمعدلات مرتفعة يعني إن على كل عامل أن يقوم بإنتاج عدد أكبر من السلع أي أن يعمل أكثر لمجرد الحفاظ على مستوى معيشي مقبول لكل فرد من أفراد المجتمع ومقبولة ولأسرته. ومن ناحية أخرى سنجد أن معظم المجتمعات المتقدمة تعتمد ولو بصورة جزئية على المدخرات المحلية لإنفاقها على الإستثمارات الرأسمالية اللازمة ولتوسيع دائرة الإقتصاد الوطني، بغض النظر عن طبيعة النظام الإقتصادي السائد وهذا غير متوفر في لبنان بسبب الدين العام المرتفع. وحينما يكون هيكل السكان هيكلا مؤلفا من صغار السن فإن ذلك يعني أن جانبا كبيرا من الدخل سوف يوجه الى الإنفاق الرعوي لتوفير الضروريات لهم بدلا من إدخار هذه الأموال وإستثمارها في مشاريع ريعية. ولكي تحدث التنمية الإقتصادية فلابد وأن يكون عدد الوظائف الجديدة على الأقل مساويا لعدد السكان الذين يبحثون عنها. وعملية خلق الوظائف ترتبط بالنمو الإقتصادي والذي يجب أن يعتمد على الإستثمار المنتج والذي يخلق فرص عمل، وحينما يكون الهيكل العمري صغيرا يصبح من الصعب توليد القدر اللازم من هذه الإستثمارات.
وبهذا الشرح المبسط يتبين لنا بأن الإقتصاد الوطني اللبناني سوف يواجه مشاكل جمة بسبب حالة التغيير الديموغرافي الذي طرأ عليه وبسبب الأزمة السورية الجارية منذ ثلاث سنوات والتي هي مرشحة على زيادة في حال تفاقمت الأزمات العسكرية في الداخل السوري, مما سوف يضعف مقدرة الإقتصاد الوطني على خلق فرص عمل جديدة من جهة, ومن جهة ثانية فرض عامل المزاحمة والتنافس على العمل والوظائف من قبل السوريين النازحين والمقيمين الذين هم على إستعداد من قبول أي راتب شهري دون الحد الأدنى والذي سوف يرفع من مؤشر البطالة الوطنية لدى اللبنانيين ويضعهم في خانة التهميش الإجتماعي خاصة وأن الدولة بعيدة كل البعد عن معالجة الأزمات الإجتماعية والإقتصادية التي سوف تتوالد بسبب هذه الحالة الإقتصادية الشاذة التي لم يوضع لها أي خطة طوارئ للحد من مفاعيلها السلبية على الإقتصاد الوطني في المدى المنظور. فعلى رأي المثل الشعبي, إذا كان المال السايب يعلم السرقة, فالإجراءات السهلة سوف تشكل تسيّبا أداريا وماليا ومزاجية في مفهوم عبارة فضفاضة عن «حالات إنسانية» والتي تختلف معاييرها من شخص إلى آخر، ورغم التأكيدات الرسمية بأن هنالك ضوابط لموضوع صرف المساعدات المالية للنازحين. فما هي إذا تلك الضوابط أمام مشهد يوم الأثنين الفائت لهذا الحشد المتسارع للإنتخابات الرئاسية السورية والذي يؤكد بأن الحضور ليس بنازح بل بمحتل؟ وكأن المطلوب من المواطن اللبناني أن يتحمل دائما أوزار غيره على أرضه وعلى حساب كرامته وعلى نفقته الخاصة!!
المصدر: اللواء