لم يخرج رئيس البنك الدولي في لقاءاته اللبنانية عن أدبيات المؤسسة الدولية التي يمثل. فالرجل الآتي من عالم الطب والعلوم الإنسانية، أظهر انسانيته في وجوده داخل الصفوف الدراسية وتواصله مع الطلاب والإعلام مع الحث على اكتساب المعرفة والحفاظ على الأمل المترافق لكم هائل من الوعود وابداء الألم على معاناة لبنان واللاجئين في آن معاً. ماعدا ذلك، كان الدكتور كيم مبعوثاً أميناً لمؤسسات بريتون وودز وقدومه كان تتمة لمهام سابقة ولم تقتصر زيارته بالتأكيد على ملف اللاجئين. زيارته هذه جاءت تتويجاً لعمل بالغ الاهمية قامت به بعثة صندوق النقد الدولي في منتصف أيار المنصرم والتي كان على رأس توصياتها جملة تحذيرات من مغبة اقرار سلسلة الرتب والرواتب كما هي مطروحة لأنّ النتيجة الحتمية هي تضخم مدمر ومديونية غير محدودة. الدكتور كيم جاء ليطلب من اللبنانيين التروي قبل إقرار السلسلة التي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الواقع الحقيقي للاقتصاد اللبناني والمالية العامة للدولة.
يبدو منطق التروي في الزيادة “منطقياً”. ففي تقرير حول الربع الأول من العام 2014، جاء نمو السيولة النقدية بلغ 6.5 % في العام مقابل نمو اقتصادي متهالك لا يتعدى الـ1% ما أنتج معدل تضخم يقدر بنسبة 4.6 % يواكبه ضعف في عملية دوران الرساميل نتيجة شبه جمود في النشاطات الاقتصادية. وهذا يعني أنّ الزيادة بالسيولة النقدية بالإضافة الى نمو الودائع لا يسيران بطريقة تتوازى مع النشاط الانتاجي في لبنان. وهذا لا يبشر بالخير في حال تمّ ضخ كل هذه السيولة الإضافية الآتية من الزيادة في رواتب الموظفين والأجراء.
بالطبع لم يجروء كيم على التطرق في الإعلام لموضوع السلسلة بكل ما فيها من “شعبوية”، بل ركّز رئيس البنك الدولي في مرات عدة على النقاط التي علق عليها صندوق النقد الدولي، بل وجميع الاتفاقيات الدولية التي اقرت منذ باريس 1 و2 وغيرها، لجهة الإصلاحات في قطاع الطاقة والكهرباء مع تحويل النفقات من مؤسسة كهرباء لبنان إلى المجالين الاستثماري والاجتماعي، ما يعني احتمالات الخصخصة التي أصبحت ربما أمراً لا مناص منه.
وتبقى النقطة التي لم يفاتح بها الدكتور كيم الجمهور اللبناني هي النقض في الشفافية والفساد المستشري بل فضّل احتواء سؤال أحد الطلاب عن مسألة الزبائنية في الوظائف. ما لم يقله كيم أن البنك الدولي لا يستطيع، ولا أي جهة اقتصادية أخرى، تقديم أي نوع من النصح الإقتصادي الفعّال لبلد لا يملك سياسة اقتصادية واضحة المعالم. ولذا كانت توصية صندوق النقد الدولي ضرورة الانتهاء من إعداد الحسابات المالية للدولة أقله حتى العام 2012 من أجل اقرار موازنة شفافة من قبل مجلس النواب تضمن محاسبة محاسبة الحكومة وتطبيق الحوكمة التي باتت الشعار الرئيس للمؤسسات الاقتصادية الدولية بل الشرط الجوهري لمنح القروض والهبات.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، هناك 3 مشاريع قوانين خاصة بمساعدات من المفترض ان يحصل عليها لبنان من البنك الدولي ماتزال عالقة حتى هذه الساعة في مجلس النواب منذ العام 2006. والذريعة المقدمة لتجميدها هي إنها صادرة عن حكومة “مبتورة أو بتراء” حيث تقبع الى جانب هذه المشاريع الثلاث الكثير من الاتفاقيات المرتبطة بالبنك الاوروبي للإستثمار، او الصندوق العربي اوغيرها من المؤسسات التي وقع لبنان معها اتفاقيات لمصلحته بالإضافة إلى مقررات باريس -2. فأي مؤسسات وأي حوكمة وأي شفافية وأي محاربة للفساد ينتظرها البنك الدولي من لبنان؟
في منتصف العام الماضي، وافق البنك الدولي على إقراض الأردن 150 مليون دولار لمساعدته على التعامل مع حوالي نصف مليون من اللاجئين القادمين من سوريا. ومن المعروف أن الحصول على دعم من البنك الدولي، وهو المقرض العالمي للتنمية، يشجع سائر الجهات المانحة على إبداء كرمها في تقديم المساعدات لأنه يمنح الثقة لهذه الجهات. غير أنّ لبنان الذي يرزح تحت وطأة أكثر من مليون نازح، ينتظر أموالا من البنك الدولي تقارب 300 مليون دولار. فهل سيمنحها البنك لدولة لا تطبق كل ما جاء آنفاً وبما لا يتوآم مع سياسة البنك وصندوق النقد الدوليين؟ يبدو ان الانتظار سيطول.