ما جرى في أوروبا ما بين ٢٢ و٢٥ أيار الماضي خير دليل على انّ الديمقراطيات في صناديق الإقتراع تتكلم إذ إنّ اكثر من ٣٠٠ مليون ناخب اختاروا حوالى ٧٥١ ممثلاً عنهم في البرلمان الأوروبي، وجاءت النتائج على حدّ قول رئيس الوزراء الفرنسي Vals، «زلزالاً» ما دفع بفرنسوا هولاند للدعوة الى ما سمي «اجتماع أزمة» ولا سميا بعد الإنتصار التاريخي الذي حققه اليمين المتطرّف بزعامة «لوبان».
كذلك جاء التصويت في الدنمارك واليونان والمملكة المتحدة داعماً للمشككين الذين يعارضون الإتحاد الأوروبي، لذلك يمكن القول إنّ الإنتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة ادخلت نوعاً من الديناميكية المقلقة للسياسة الأوروبية مع تنامي اليمين واليسار المتطرّف والمشككين في الإتحاد، ما خلق نوعاً من الصدمة الجماعية على الرغم من استطلاعات الرأي الأخيرة والتي أشارت بوضوح الى هذا الإحتمال.
وهذه الثورة بدأت بالفعل مع تنامي مجموعةٍ ساخطة، سواء من اليمين او من اليسار، من سياسات التقشف التي أعلنها الإتحاد الأوروبي ومن سياسات المركزي الأوروبي في عمليات إنقاذ متناقضة اتخذها ولا سيما بعد الأزمة المالية العالمية في العام ٢٠٠٨، كذلك الأصرار الألماني على سياسة «العيش ضمن الوسائل المتاحة» كلها ساعدت ليس فقط في زيادة السخط ضمن المجموعة الأوروبية كذلك في جعل الإنتعاش الإقتصادي يزداد صعوبة.
والسؤال الموضوع على المحك، ما هي الإستراتيجية الإقتصادية التي سوف تُعتمد في السنوات المقبلة؟ واذا ما كانت هذه الإنتخابات الأخيرة رسالة الى الحكومات الوطنية بإعطاء الأولوية للنموّ الإقتصادي وفرص العمل؟ والجواب على ذلك قد لا يكون كاملاً إلّا أنه وجب القول إنّ النتائج أتت رسالة الى اللجنة ورؤساء الحكومات ووزراء المال في الدول أجمع (دول الإتحاد).
ويبقى أنّ المحك هو الاستراتيجية الإقتصادية المقبلة علماً انّ التقشف وزيادة البطالة والرد على أزمة الديون أفضى الى هذه النتائج. أمّا الخطوات التالية فغير مكفولة خصوصاً وأنّ كلمات دراغي السحرية «سوف تفعل كلّ ما يمكن….» لم تأتِ لغايته بالنتائج المرجوة، والصورة الآن والتي لا شك فيها أنّ اقتصاد أوروبا وسياستها معاً هما في فوضى قد لا تكون «خلّاقة» على حد تعبير وزيرة الخارجية الأميركية السابقة.
ونجد أوروبا اليوم امام تحديات على جميع المستويات وهذه التحديات ليست فقط لصانعي القرار الإقتصادي إنما للسياسيين الذين رأوا أحلامهم تتدهور امام بروز أحزاب متطرفة، مشككة لطالما سعت الى أخذ دولها الى خيارات قد لا تكون أوروبية صافية.
وهذا التطوّر جعل بعض المعلّقين، وبالتأكيد بعض السياسيين عبر القارة، يشعر بالقلق حول مدى استقرار ونجاح المشروع الأوروبي. والجدير ذكره هو أنّ هذه الإنتخابات كانت فرصة إضافية للناخبين للتعبير عن عدم رضاهم على سياسات التقشف المفرطة المفروضة على عدد من اقتصادات منطقة اليورو وعلى الحكومات التي أساءت إدارة المالية العامة، وعرّضت للنمط استقرارَ النظام المصرفي وتسببت في ارتفاع الديون والعجز.
ومع هذه الراديكالية التي فازت بحوالى ٣٠٪ من الأصوات والتي لا يمكن تجاهلها على نطاق واسع من القضايا مثل:
– الإدارة الإقتصادية
– الهجرة
– اتفاقيات التجارة الحرة
– طبيعة ونطاق التكامل الأوروبي
وجب القول إنّه سوف يكون لها كلمة ليس فقط في اختيار الرئيس القادم للّجنة المقرر عقدها في نوفمبر المقبل انما على السياسات الإقتصادية في تلك الدول ولا سيما أنّ ألمانيا عازمة على متابعة سياسة ما بعد الحرب والتي ترمي الى تقوية القطاع الصناعي وتثبيت الفائض التجاري، بينما تبقى دول اليورو الأخرى رهينة هذه السياسة خصوصاً فرنسا التي تُعتبر ثاني اكبر اقتصاد في اليورو بعد ألمانيا بحيث لا يمكن تجاهل نتائج انتخاباتها وحصد مارين لوبان ٢٥٪ من الأصوات اي ما يُقدر بـ ٢٥ مقعداً.
وهكذا جاءت الإنتخابات الأوروبية وصناديق الإقتراع تعبيراً واضحاً عن وضعين مختلفين: البلدان التي تتمتع بأداءٍ اقتصادي قوي مثل ألمانيا كانت اكبر المؤيّدين لأوروبا قوية ناهيك عن دول تعاني صعوبات اقتصادية مثل إيطاليا والتي هي حريصة على أوروبا موحدة، خصوصاً وأنّ الأعضاء الأقوى حريصة على مساعدة الأضعف. وهذان البلدان هما على طرفَي نقيض في دعمهما للسلطات المركزية، في حين نرى اليونان على الجانب الآخر وقد أتت نتائج انتخاباتها نقيضاً للوحدة الأوروبية وفوزاً للأحزاب الأوروبية المعادية.
بروفسور غريتا صعب
التغييرات العربية التي بدأت أواخرَ ٢٠١٠ مع تونس وتبعتها مع مصر وليبيا لم تأتِ بالمفعول الجدي مقارنةً بما حصل في هذه الدول وآخرها سوريا. وقد تكون الدروس من هذه التغييرات وما أنتجت من ديمقراطيات عبرة تعلّم منها النظام في سوريا وتأتّى عن ذلك حرب دموية لم تنتهِ بعد. لذلك قد تكون ديمقراطيات صناديق الإقتراع خير دليل على انّ التغيير يجب أن يأتي من قناعة شعبية بالتغيير ومن اقتناع الحكام بإرادة الشعوب في هكذا تغيير.
وبوجهٍ عام يبدو أنّ استمرار الركود الإقتصادي في كثير من دول الإتحاد بحاجة الى تدابير تضخ الحياة مجدّداً للإقتصاد على الرغم من انّ الحكومة الألمانية لا تزال تصرّ على تدابير التقشّف في اكثر المناطق، ملحِقة نوعاً من الألم الذي أدى الى المزيد من التطرّف في نتائج الإنتخابات الأخيرة.
أما مَن انتصر في هذه الإنتخابات فإنّ التحليل الحسابي والمنطقي يشير الى إنجيلا ميركل (فوز اليمين الوسط على اليسار)، أما ما تميزت به هذه الإنتخابات فهو أنّ ربع عدد الناخبين في الإتحاد الأوروبي سجل استياءه العميق من الهجرة والتغيّرات الإجتماعية والإقتصادية مشكّكاً بالطبقة السياسية ما يبقي ميركل المسؤولة الأولى عن أوروبا مع زيادة في السلطة، وكبح جماحها عن سياسة التقشف عملية مضنية وأثرها قد يكون مدمّراً لأوروبا واليورو معاً، إذ إنّ الإنتخابات في الدول نفسها (لوبان حثت هولاند على حلّ البرلمان وإعادة عملية الإنتخاب) سوف تتخذ طابعاً جديداً وقد يكون متغيراً فعلياً في بعض الدول.
هذه هي أوروبا وهكذا أتت نتائج انتخاباتها نتيجةً مدوية لفشل اقتصادي ذريع وفي مختلف المجالات وتراجع في النموّ وزيادة في البطالة، من هنا جاء ربيع أوروبا اقتصادياً بامتياز محوّلاً العبء والضيق الإقتصادي الى صناديق الإقتراع.
وإذا كان ما يواجه ميركل حالياً هو السؤال عمَن يترأس اللجنة الأوروبية، فإنّ لدى العرب وربيعهم تساؤلات حول ما أدى اليه الربيع العربي من ديمقراطيات هزيلة وصناديق اقتراع لم تصوّت يوماً اقتصادياً، إنما جاء تصويتها دائماً لمن يكون أقل ضرراً على الدولة والاقتصاد والكيان بشكل عام.