مع تحسن سوق السندات من جديد وعودة النمو الاقتصادي ببطء رغم تباينه من دولة لأخرى في منطقة اليورو أصبحت السياسة لا الاقتصاد تمثل الخطر الأكبر على قدرة العملة الأوروبية الموحدة على البقاء.
فالأصوات المناهضة للوحدة الأوروبية في انتخابات البرلمان الاوروبي في الشهر الماضي ستزيد من الصعوبات التي تواجهها الكثير من الحكومات في مواصلة السعي لخفض العجز وتنفيذ اصلاحات اقتصادية هيكلية أو تعميق التكامل بين دول منطقة اليورو البالغ عددها 18 دولة.
وفي ألمانيا صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا ربما تجعل المعارضة الشعبية من المستحيل على البنك المركزي الاوروبي أن يتجاوز ما أعلن الاسبوع الماضي من تدابير تهدف للتيسير النقدي وينفذ عمليات أكثر جرأة مثل شراء الأوراق المالية على غرار ما فعلته الولايات المتحدة إذا استمر التضخم منخفضا أو ازداد سوءا.
وتحجم برلين عن استخدام وضعها المالي القوي للاستثمار على نحو أكبر في البنية الأساسية أو حفز الطلب المحلي بتخفيضات ضريبية يمكن أن تسهم في موازنة التعديل الاقتصادي في أوروبا.
وقد بذل قادة الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي جهودا كبيرة لاستعادة ثقة الأسواق مرحليا بتزويد منطقة اليورو بصندوق للانقاذ المالي وتشديد قواعد الانضباط المالي وتوحيد جهة الإشراف المصرفي.
لكن الارادة السياسية لاستكمال الوحدة الاقتصادية والنقدية تبدو أضعف لاسيما إذا تطلب الامر الحصول على موافقة شعبية على تغييرات للمعاهدات الأساسية للاتحاد الأوروبي.
وفي كتاب نشر قبل الانتخابات بعنوان “أزمة اليورو وآثارها” جادل الاقتصادي الفرنسي جان بيساني فيري بأن القادة الأوروبيين رفضوا منح بروكسل المزيد من السلطات وسعوا لتجنب الجدل بشأن تعميق التكامل الأوروبي.
وكتب يقول “ثبت أن التصدي لأزمة اليورو كان مثيرا للخلاف على المستوى الداخلي. كلما قل أخذهم بزمام المبادرة قلت مجازفتهم بمشاكل سياسية على المستوى المحلي.”
والآن بعد أن انقضى وقت الحاجة الشديدة للتحرك العملي سيؤدي ارتفاع التأييد للمتشككين في الوحدة الأوروبية والأحزاب المناهضة للمؤسسة الأوروبية في الانتخابات التي جرت يوم 25 مايو آيار إلى تعزيز هذا القصور الذاتي.
حتى المنتقدين الذين تنبأوا بأن منطقة اليورو قد تتفتت مثل الاقتصادي الأمريكي نوريل روبيني يسلمون بأن الكثير قد تحسن في العامين الأخيرين.
وقال في مؤتمر صحفي بمؤسسة موريس آليه فاونديشن في باريس “من المؤكد أن أمورا كثيرة في منطقة اليورو تتحرك في الاتجاه الصحيح.”
واستشهد في هذا الصدد بتحسن السياسات المالية واصلاحات أسواق العمل ومعاشات التقاعد ونظم الرعاية الاجتماعية وتحسن القدرات التنافسية من حيث التكاليف في عدد من الدول.
*الاقتصاد في تحسن
وقد استعادت دول حصلت على مساعدات لاقالتها من عثرتها قدرتها على الحصول على تمويل من الأسواق بالكامل باستثناء اليونان وقبرص. بل إن أثينا أصدرت سندات خمسية للمرة الاولى.
ومع عودة المستثمرين إلى أوروبا أصبحت عوائد السندات الحكومية الاسبانية لأجل عشر سنوات مساوية تقريبا الان لنظيراتها في الولايات المتحدة وبريطانيا بعد ثلاث سنوات من احتياج مدريد لخطة انقاذ أوروبية قيمتها 58.7 مليار دولار لاعادة هيكلة بنوكها.
وكانت أربعة من الدول التي تلقت مساعدات هي اليونان وايرلندا والبرتغال وأسبانيا بين الدول الخمس التي تصدرت قائمة تحسن القدرة التنافسية في أحدث تقرير بعنوان “الاتجاه للنمو” أصدرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
وحققت الدول كلها خفضا كبيرا في تكاليف تشغيل الأيدي العاملة وقضت على العجز الكبير في ميزان المعاملات الجارية وقلصت أجور القطاع العام وأحرزت تقدما في موازنة ميزانياتها.
أما النقطة السوداء العملاقة فتكمن في البطالة التي لا تزال أعلى من 25 في المئة في أسبانيا واليونان وأكثر من نصف الشباب.
كذلك فإن هذه الدول كلها تخرج من أزمة محملة بأثقال أكبر من الديون رغم أن ثقل خدمة الدين يخفف منه تأجيل طويل قبل أن تضطر الدول لسداد القروض لصندق الانقاذ الأوروبي بل ومن المرجح أن يتم تمديد الأجل من جديد لليونان.
لكن المتفائلين من مسؤولي الاتحاد الاوروبي يقولون إن الدول التي تلقت مساعدات للتغلب على أزمات في منطقة اليورو ستكون أكثر دينامية من غيرها في السنوات المقبلة بالمقارنة مع نجاح الدواء المر الذي تجرعته كوريا الجنوبية واندونيسيا بعد الأزمة المالية الاسيوية في التسعينات.
ويتحول التركيز الآن إلى فرنسا وايطاليا ثاني وثالث أكبر اقتصادين في منطقة اليورو. وقد طبق البلدان إصلاحات أقل ولم يتطلب أي منهما خطة انقاذ.
وخالف رئيس الوزراء الايطالي ماتيو رينتسي الاتجاه السائد في انتخابات البرلمان الاوروبي وفاز بتفويض قوي لمتابعة الاصلاحات في النظم السياسية وأسواق العمل.
غير أنه مازال يواجه عقبات شديدة في ضوء عدم الاستقرار السياسي المتوطن في ايطاليا ومراكز القوي التي يمكنها عرقلته وضعف النظام القضائي.
ربما يكون التحدي الأكبر في فرنسا حيث أضعف فوز الجبهة الوطنية بزعامة مارين لو بان في الانتخابات الأوروبية الحكومة الاشتراكية للرئيس فرانسوا أولاند وهي تتأهب أخيرا لتخفيف الأعباء الضريبية والتنظيمية على الشركات.
وربما يجد أولاند نفسه محروما من السلطة اللازمة لإجراء اصلاحات ضرورية لانعاش الاستثمارات وخلق الوظائف في فرنسا بسبب انخفاض شعبيته وهزائمه المتكررة في الانتخابات البلدية ثم الانتخابات الاوروبية.
كذلك فإن الضغوط الحمائية من القوميين المناهضين للوحدة الاوروبية في حزب لوبان واليسار بما في ذلك المتمردين في الحزب الاشتراكي قد تدفع باريس إلى عرقلة مفاوضات أوروبية أمريكية للتوصل إلى اتفاق للتجارة الحرة.
وقد أثارت المكاسب الانتخابية للأحزاب اليسارية المناهضة للتقشف في اليونان وإلى حد أقل في أسبانيا الضغوط لتقليل تخفيضات الإنفاق العام والاصلاحات الاقتصادية غير الشعبية.
ويأمل رينتسي استخدام شهر العسل السياسي في وضع خطة أوروبية جديدة يتم فيها تكييف قواعد العجز في الميزانية للسماح بمزيد من الاستثمار العام في الدول التي تطبق اصلاحات هيكلية أوصى بها الاتحاد الأوروبي.
لكن حتى إذا تمكن القادة الاوروبيون من الاتفاق على تعديل سياساتهم الاقتصادية بعض الشيء من التقشف إلى التوسع فإن التغييرات المطلوبة على مستوى المؤسسات لتدعيم الوحدة النقدية الاوروبي تبدو أصعب من ذي قبل