بروفسور جاسم عجاقة
في خطوة إيجابية، قام وزير المال بتسليم مشروع موازنة 2014 إلى مجلس الوزراء للبحث فيه وإقراره (الجمهورية 7 حزيران 2014). لكن تحليل هذا المشروع يُظهر أنه، على مثال المشاريع السابقة، بعيد من الواقع ويزيد العجز العام، وبالتالي الدين العام بشكل دراماتيكي.
الموازنة العامّة هي عبارة عن قانون يتضمن لائحة بالواردات والنفقات المتوقعة للسنة المالية التي تلي تاريخ طرحها. وبحسب المادة 83 من الدستور اللبناني، «كل سنة في بدء عقد تشرين الأول تقدّم الحكومة لمجلس النواب موازنة تشمل نفقات الدولة ودخلها عن السنة القادمة، ويقترع على الموازنة بنداً بنداً».
تُعد الموازنة العامة مؤشراً رئيسياً لقياس الأداء العام للسلطة التنفيذية والسلطة الشريعية والرقابية، فمن جهة تُجسّد هذه الموازنة قدرة السلطة التنفيذية على توقع المستقبل، وضع خطة إقتصادية-إجتماعية تنعكس في مشروع الموازنة، وتنفيذها.
ويأتي دور السلطة الرقابية (مجلس النواب) في الموافقة على اقتراح مشروع الموازنة و/أو تعديله ضمن القيود المفروضة في الدستور، كما ومراقبة التنفيذ من خلال «قطع الحساب». وتنصّ المادة 87 من الدستور اللبناني على «انّ حسابات الدارة المالية النهائية لكلّ سنة يجب أن تعرض على المجلس ليوافق عليها قبل نشر موازنة السنة التالية التي تلي تلك السنة».
تعتبر الموازانات عنصراً مهماً في اقتصادات الدول من ناحية أنّ دور الدولة تغيّر من دور مراقب إلى دور لاعب إقتصادي رئيسي يُشارك في الأنشطة الإقتصادية. وتؤثر هذه الموازنات على الإقتصاد عبر: الإستثمارات والسياسة الضريبية والعجز.
وأهمية الموازنة العامة تظهر في ترقّب السوق لمشروع الموازنة، وخصوصاً العجز فيها، حيث أنّ هذا العجز يُموّل من إصدارات خزينة في السوق، والتي تتنافس مع القطاع الخاص.
من هنا نرى أنّ للموازنة عدة مفاهيم يمكن تلخيصها بالمفهوم القانوني والإقتصادي والحسابي.
على الصعيد القانوني، نرى أنّ هناك مخالفة واضحة للدستور اللبناني وخصوصاً المواد 83 و87 من ناحية عدم التزام الحكومات إرسال الموازنات في مواعيدها ومن ناحية عدم تقديم «قطع حساب» عن السنة المالية المنصرمة.
أمّا على الصعيد الإقتصادي، فنرى أن الموازنات التي تُشكّل ترجمة للخطة الإقتصادية المُعلن عنها في البيان الوزاري لا تحتوي على أيّ ترجمة لالتزامات الحكومة الواردة فيه. فمثلاً ينصّ البيان الوزاري لحكومة المصلحة الوطنية على «انّ الحكومة تدرك مشاكل المالية العامة للدولة، وهي ستعمل على معالجتها وستتخذ كل الإجراءات الممكنة لتحريك القطاعات الاقتصادية الرئيسية…». إلّا أنّ هذا الواقع غير مُترجم في موازنة 2014.
على الصعيد الحسابي، نرى أنّ الموازنة تحتوي على أرقام تُبيّن الواردات والنفقات، إلّا أن هذه الأخيرة تفوق الواردات وتُنتج عجزاً بقيمة 7,669 مليار ليرة لبنانية بحسب تصريح وزير المال. وهذا يعني أنه حسابياً لم يتم مطابقة الواردات والنفقات.
ويُمكن القبول علمياً بعجز في الموازنة إذا ما كان هذا العجز بهدف نفقات استثماراية على أساس أنّ هذه الإستثمارات تُعطي الدولة دخلاً مستقبلياً يسمح بسدّ هذا العجز وفوائده. إلّا أنه وبالنظر إلى موازنة العام 2014، نرى أنّ العجز ناتج بالدرجة الأولى عن نفقات جارية.
الخطة الإقتصادية هي الأساس
يتمّ تحضير الموازنات العامة على أساس خطة إقتصادية تُجسد رؤية مستقبلية للإقتصاد، مع الأخذ بعين الإعتبار لعوامل إقتصادية عامة (Macroeconomics) كالدورة الإقتصادية وتوقعات النمو والتضخم وغيرها من العوامل التي تؤثر في الإيرادات.
ولهذا، يتمّ وضع خطة اقتصادية تقوم على تحليل الواقع الإقتصادي الحالي لكلّ قطاع مع تحديد حاجات كل قطاع من استثمارات وإصلاحات. ثم تقوم الوزارات المختلفة بالتعاون مع القطاع الخاص بتحديد سلسلة الأولويات لهذه الحاجات.
كما ويؤخذ بعين الاعتبار الوضع المالي للسنة المالية السابقة ومستوى الدين العام ويتمّ على أساسه وضع خطة اقتصادية قد تمتد على عدة سنين بهدف النهوض بالإقتصاد. وتقوم عندها وزارة المال، بمساعدة الوزارات المعنية، بترجمة هذه الخطة إلى مشروع موازنة.
إلّا أنّ هذه المنهجية لم يتمّ اتّباعها في تحضير موازنة العام 2014. فبالنظر إلى الأرقام، وخصوصاً الزيادات في النفقات، نرى أنها لا تعكس أيّ خطة اقتصادية وتُغطي بمعظمها النفقات التشغيلية، والأجور وخدمة الدين العام. كما ونلاحظ غياب التقشّف في النفقات التشغيلية كما لو أن الاقتصاد على أحسن حال.
إنتحار مالي
إنّ مشروع موازنة 2014 يلحظ ارتفاعاً كبيراً في النفقات نسبة إلى العام 2012. وقد يتساءل المرء عن سبب المقارنة مع موازنة العام 2012، إلّا أنه وللتذكير تمّ سَحب مشروع موازنة 2013 بعد رفضه من قبل حكومة الرئيس ميقاتي. لذا، لا يُمكن المقارنة مع مشروع لا وجود له. لكنّ مشروع موازنة 2014 قام بالمقارنة مع مشروع موازنة 2013 ولا نعرف مدى جديّة هذه المقارنة وقانونيتها.
وتمّ استحداث بند في موازنة العام 2014 إسمه «الخدمات المشتركة». وهذا البند يضمّ بحسب تحليلنا «الديون المتوجّبة الاداء»، «معاشات التقاعد وتعويضات نهاية الخدمة»، و»دعم المؤسسات العامة». وهذا البند ارتفع من 6,42 ألف مليار ليرة لبنانية إلى 10,9 ألف مليار ليرة لبنانية بين موازنة 2012 وموازنة 2014.
وفي مقابل ارتفاع النفقات، نرى في مشروع موازنة 2014 أنّ هناك انخفاضاً في الإيرادات الضريبية من 12,29 ألف مليار ليرة لبنانية إلى 10,83 مليار ليرة لبنانية يقابله زيادة في القروض الداخلية (أي من المصارف ومصرف لبنان) من 4,84 ألف مليار ليرة لبنانية إلى 7,32 ألف مليار ليرة.
كلّ هذا في ظلّ دين عام بلغ حتى الساعة 65,1 مليار دولار، ومن دون الأخذ بعين الاعتبار الـ 800 مليون دولار فوائد على خدمة الدين العام التي تستحق في الأول من تموز 2014 ولا العجز الذي سينتج عن تلبية المطالب الإجتماعية والتي من الممكن أن تتخطى الـ 4 مليار دولار أميركي. ما يعني أنه وعلى هذا النحو قد يصِل الدين العام في لبنان في نهاية هذه السنة إلى حدود الـ 75 مليار دولار.
التقشّف والإصلاحات
كلّنا نتذكر المشاكل المالية التي واجهت دول أوروبا الغربية وعلى رأسها إيرلندا، اليونان، البرتغال، إسبانيا وقبرص. والإجراء المشترك الذي اتّبعته حكومات كل هذه الدول هو التقشّف.
التقشّف هو مفتاح لضبط الإنفاق الجاري ولا يُمكن أن نكون على الطريق الصحيح إذا لم نتّبع خطة تقشفية. لذا، من الضروري أن تعمد وزارة المال إلى استرداد مشروع موازنة 2014 والعمل على ترشيد الإنفاق في كل الوزارات وعلى صعيد كل أنواع الإنفاق، باستثناء الإنفاق الإستثماري.
كما وأنّ هناك فرض سلطة الدولة المالية على المرافئ العامة وعلى الحدود، ففي ذلك توفير لهدر يفوق الملياري دولار سنوياً على الأقل. أيضاً يُمكن لهذه الحكومة «حكومة المصلحة الوطنية» أن تعمد، باسم المصلحة الوطنية، إلى بتّ موضوع الأملاك البحرية والنهرية وجباية الضرائب والفواتير المُستحقة.
وفي الختام، نُشدد على أنه وفي غياب خطة اقتصادية مبنية على منهجية علمية، لن تستطيع هذه الموازنة الذهاب بعيداً خصوصاً في ضبط المالية العامة، وبالتالي الدين العام، وستحصل على لقب «موازنة الإنتحار المالي».