فراس أبو مصلح
كانت سياسات الحماية الاجتماعية ضحية سياسات التقشف والتكيّف الهيكلي»، رغم ذلك، تتجاهل النقاشات الجارية في المؤسسات الدولية الأسباب الحقيقية لفشل وصفاتها للتنمية، ولا يزال مضمون هذه الوصفات هو نفسه، رغم تغيّر الخطاب. هذا ما أكده زياد عبد الصمد، مدير شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية، أول من أمس في اجتماع للمجموعة العاملة على إعداد تقرير «راصد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في البلدان العربية»، وموضوعه «الحماية الاجتماعية»، التي يصفها عبد الصمد بإحدى أهم مرتكزات النموذج التنموي المبتغى.
يشرح الأستاذ الجامعي عزام محجوب أن الحماية الاجتماعية تعني التضامن أو التكافل الاجتماعي، عبر نظام الاشتراكات التي تدفعها مجموعة ما لصندوق تعاضدي تنشئه، أو النظام الشامل الذي يغطي جميع المواطنين، وتموله الدولة عبر الضرائب، مؤكداً أن التضامن في أساس العدالة الاجتماعية والمساواتية وإعادة توزيع الدخل، وأن العدالة الاجتماعية ركيزة أساسية لأي نمط تنموي سليم. «الحماية الاجتماعية حق إنساني»، يقول محجوب، داعياً لأن تكون «المقاربة حقوقية في الأساس»، بحيث يُحدد «كل من هو مقصي من هذا الحق، أو كل من لا يتمتع به بالشكل الكافي». يجزم محجوب أن «الأنظمة العربية مُقصية لكافة المواطنين»، لمصلحة فئة محظية منهم، وتحاول التعويض عن ذلك أو التخفيف من آثاره بانتهاج «سياسات غير مجدية، عبارة عن مسكنات».
بحسب محجوب، «يُعتبر الحق في الحماية الاجتماعية من أول الحقوق المعترف بها للإنسان، وقد كرس العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عام 1966 الحق في الحماية الاجتماعية؛ صادق على العهد المذكور 162 بلداً، منها 16 بلداً عربياً، ولم تصادق عليه بعد السعودية والإمارات وقطر وعمان واليمن والصومال». ويشير محجوب إلى بنود في «أهداف الألفية للتنمية» وثيقة الصلة بمبدأ الحماية الاجتماعية، وهي «القضاء على الفقر المدقع والجوع»، والحق في المأوى وحماية الأمومة والطفولة، وتعميم التعليم الابتدائي، وتوفير العمل اللائق للجميع؛ وكذلك تعريف «الأرضيات الوطنية للحماية الاجتماعية» وفقاً لتوصية منظمة العمل الدولية عام 2012 بـ«مجموعات من ضمانات أساسية، ينبغي أن تكفل حداً أدنى وطوال الحياة، لجميع المحتاجين إمكانية الحصول على الرعاية الصحية الأساسية وأمن الدخل الأساسي، الذين يضمنان معاً الحصول الفعال على السلع والخدمات المعرّفة على أنها ضرورية على المستوى الوطني». كذلك يشير محجوب إلى توصية مؤتمر العمل الدولي عام 2008 بـ«توسيع الضمان الاجتماعي ليشمل الجميع، وتكييف نطاقه وتغطيته لتلبية الاحتياجات الجديدة، وتأمين ظروف عمل صحية وآمنة، وانتهاج سياسات أجور ومكاسب وظروف عمل تمكن الجميع من الحصول على قسط عادل من ثمار التقدم».
لكن واقع الحال أمر مختلف تماماً، فوفق التقرير العالمي حول الحماية الاجتماعية للعام الجاري، فإن «الحق الإنساني في الضمان يبقى غير متحقق للغالبية الواسعة من سكان المعمورة، إذ لا ينتفع بتغطية اجتماعية شاملة سوى 27% من مجمل سكان العالم»، خصوصاً حيث الفقر وانعدام الأمان الاقتصادي واللامساواة. ينقل محجوب عن التقرير المذكور أن الدول تخصص في المعدل 0.4% من ناتجها المحلي الإجمالي لحماية الطفولة والأسرة (2.2% في أوروبا و0.8% في الشرق الأوسط و0.2% في أفريقيا)، وأن 3 بلدان عربية فقط ، هي الجزائر وتونس والبحرين، تؤمّن ضد مخاطر البطالة، وبنسب تغطية ضعيفة، هي 9.8% و8.8% و3% على التوالي. وبحسب التقرير نفسه، يؤمّن 20 بلداً عربياً إجازات أمومة، تتراوح بين 4 أسابيع في تونس و17 أسبوعاً في سورية، وبنسبة من الأجر تتراوح بين النصف والأجر الكامل، في حين تصل مدة الإجازة إلى 56 أسبوعاً في أوكرانيا و45 أسبوعاً في النروج. أما نسبة المساهمين في نظام التقاعد من مجمل قوة العمل، فتترواح بين 86.6% في الجزائر و79% في تونس و3.9% فقط في قطر، ويتراوح مستوى التغطية الصحية بين 6% في موريتانيا، و100% في الكويت وليبيا والإمارات والبحرين وقطر، ودائماً بحسب التقرير. بالمجمل، يلاحظ محجوب تباينات كبيرة في مستويات الحماية الاجتماعية في البلدان العربية، ويقول إن الحالة الغالبة هي عدم المصادقة على الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، وإن التشريعات حيث وجدت هي «جزئية ولا تتلاءم مع المعايير الدولية في عديد الأحيان»، في ظل «غياب استراتيجيات وطنية واضحة المعالم والأهداف لتوسيع التغطية» التي تتوفر «شاملة» في الجزائر وتونس فقط، و«نصف شاملة» في مصر والمغرب، أما في باقي البلدان العربية، فهي «محدودة، أو محدودة جداً».
بحسب محجوب، «فعالية أنظمة الضمان الاجتماعي تعتبر في وضع خطير في عديد من البلدان، بفعل سياسات المالية العمومية». وعن السياسات تلك وملهمها، تحدث محمد السعدي، الأستاذ جامعي والوزير سابق في المغرب، مؤكداً أن عوامل سياسية أساساً تكمن وراء انتقاء صندوق النقد الدولي لدول معينة للتدخل في سياساتها الاجتماعية، ما يؤدي إلى «نتائج وخيمة لسياسات التقشف والتكيّف الهيكلي، كما في مصر والمغرب». «لا تغيير في مقاربة صندوق النقد لمشاكلنا، رغم الحراك العربي»، يجزم السعدي، داعياً إلى «مساءلة التدخلات (التي تفرض) تهميش الحماية الاجتماعية باعتبارها تكلفة تعيق تنافسية المقاولات، (والتي تضغط لإلغاء) التحويلات ودعم المواد الأساسية، باعتبار أنها تذهب لغير مستحقيها، وتثقل كاهل الموازنة». يجزم السعدي أن دعم الأجور هو تعزيز للقدرة الشرائية في إطار الاقتصاد الكلي، وليس تكلفة، مضيفاً أن «المغرب في طور متقدم من تحرير أسعار الطاقة، ما يمثل ضربة قوية للقدرة الشرائية للفئات المتوسطة الدخل»، والتي لا تعوضها بأي شكل التقديمات المالية للفئات الأكثر فقراً. يدعو السعدي لمقاربة الدعم من منظور العدالة الاجتماعية الأكثر شمولية، والتي «تنطلق من مبدأ الملكية الاجتماعية للقطاعات الاستراتيجية«كالصحة والتعليم والنقل، رافضاً «الاستمرار بالخصخصة، والاكتفاء بالدعم» كإجراء تخفيفي أو ربما تخديري. «العدالة الضريبية في الصميم من مسألة العدالة الاجتماعية»، يقول السعدي، داعياً إلى وضع نظام ضريبي عادل ومحفز لقطاعات الإنتاج الحقيقي، «الفلاحي والصناعي».
تلجأ البلدان العربية للاستدانة من البنك وصندوق النقد الدوليين، فتخضع لشروطهما ووصفاتهما الهدامة، فيما توظف الثروات النفطية العربية الهائلة في الأصول العقارية والبورصات وأسواق المال الغربية خصوصاً، أو تُنفق لتمويل الحروب الأطلسية والصناعات العسكرية الأطلسية، أو تُبدّد في عبثية الإنفاق الاستهلاكي والظهوري الفاحش لحكام الخليج.
في «الصناديق السيادية» للدول الخليجية 2.3 تريليون دولار، ما نسبته 36% من مجموع الثروة العالمية؛ أي أن حكام الخليج يملكون أموالاً تكفي لحل كثير من المشاكل الاجتماعية للبلاد العربية قاطبة، في حين يوظفون جانب مهم منها «في مختلف بقاع الأرض»، ما يفرض الحاجة «لرقابة تشريعية ومجتمعية وإعلامية» على الثروات السيادية، يقول الباحث في الاقتصاد والتمويل جاسم حسين، متحدثاً عن بعض أوجه الاستثمارات الخليجية: فقد اشترت قطر مثلاً متاجر هارودز في لندن، بالإضافة إلى فنادق ومنتجعات في فرنسا وسويسرا، و«نسب مؤثرة» من أسهم الشركات الصناعية في المانيا، واكتتبت بقيمة 2.8 مليار دولار في بنك الاستثمار الزراعي الصيني، واستحوذت على 5% من أسهم «بنكو استاندرد» البرازيلي، وأنقذت مصرف باركليز بشراء 6% من أسهمه، واستأجرت جزراً يونانية كاملة! يتحدث حسين عن «التوظيف السياسي» لريوع النفط الخليجية، كتمويل الكويت للحرب الأطلسية الأولى على العراق بين عامي 1990 و1991، و«المساعدة» السعودية-الإماراتية-الكويتية لمصر بقيمة 12 مليار دولار «بعد سقوط الرئيس محمد مرسي» العام الماضي، و«الهبة» التي قدمتها السعودية للصناعات العسكرية الفرنسية لتسليح الجيش اللبناني، وتمويل الإمارات لأوليمبياد لندن عام 2012. أموال النفط «للمجتمع وأجياله المقبلة»، فلا يحق للسلطة الانفراد بقرار توظيفها (أو تبذيرها)، يقول حسين، منوهاً بأن الكويت تمثل «استثناء» وحيداً من حيث وجود نقاش للسياسات العامة في الصحافة والجمعيات والبرلمان، وأن النروج على سبيل المثال تحترم حق الأجيال المقبلة بادخار جزء من ريعها النفطي كإجراء آلي.
تعقيباً على توظيفات «الصناديق السيادية» الخليجية في البلاد العربية، ينفي السعدي أن تكون السياحة رافداً فعلياً للتنمية الاجتماعية، سائلاً عن نسبة التوظيف فيها من مجمل القوى العاملة، وأثرها في القطاعات الاقتصادية الأخرى، مقارنةً بالصناعة التي «تخلق روابط اقتصادية أفقية وعامودية». دعا السعدي لامتلاك قرار التوظيف القطاعي، عوضاً عن تركه «رأس المال الخليجي الكبير»، مؤكداً أن «الأمن الغذائي والتصنيع العمود الفقري للتنمية». «تتجنب المؤسسات الدولية الحديث عن عملية النمو (المشوه) نفسها، وكيف تنتج الفقر»، تقول ريم عبد الحليم، من «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية»، في السياق نفسه، معتبرة أن «التغيّر الطفيف في اللغة الدولية» مردّه استحالة «إنكار» الأثر السلبي للوصفات النيوليبرالية. أما دعاية «الحقوق» التي تلوكها الأدبيات الدولية، فهي «أمر ثانوي نسبة لمنوال (نمط) التنمية» ولمنظومة التبادل التجاري المتمثلة بمنظمة التجارة العالمية وشروطها بين البلدان العربية أو الجنوب بشكل عام، ودول الغرب أو دول الشمال، بحسب سعاد التريكي.
لفت عبد الجليل بدوي لضرورة «التمييز بين ما قبل «الإصلاح الهيكلي» وما بعده، أي على تغيّر موقع المسألة الاجتماعية من حقبة إلى أخرى»، شارحاً أن «الانتقال إلى اقتصاد السوق عنى اكتساح التسليع لكل مجالات الحياة»، قبل أن تؤدي حقبة «الانتقال الديمقراطي» الراهنة إلى تسيّب الدولة وإضعاف المؤسسات العامة، خصوصاً مؤسسات الرعاية الاجتماعية.