لا أناقش مسألة استخراج النفط، إلا للتنبيه إلى أنه لا يجوز اعتبار النفط الدواء الشافي لكل العلل. على العكس، وفق ما حذرنا منه العديد من الخبراء، يمكن النفط، إذا تعاملنا معه بوصفه حلاً سحرياً، أن يدمر ما تبقى من نشاطنا الاقتصادي المنتج.
خلال تحضير هذه الكلمة، كان عليّ أن أقاوم اليأس، لأنني عندما أنظر إلى الخيارات والسياسات التي يتبعها لبنان، والتي تعزز باستمرار اقتصاد الريع، لا أرى أي مستقبل للصناعة في لبنان، وحتماً لأي صناعة ذات مستوى عالمي، ربما باستثناء صناعات تكون محمية بطبيعتها من المنافسة العالمية وتقدم سلعها للمستهلك بأسعار مرتفعة.
يهمني أن أنقل إليكم تجربتي الخاصة. اتصلت بنا أحدى كبريات الشركات الدولية للتعاون من أجل إنشاء وحدة إنتاجية ذات مستوى عالمي في مجال الصناعات الغذائية توظف 1000 عامل. بعد دراسة المشروع بتأنّ، تبيّن أنه غير نافع بسبب ارتفاع أسعار الأراضي الزراعية التي تفوق من 10 إلى 20 ضعفاً أسعار مثيلاتها في العالم. لم يكن ممكناً تأمين عائد على الاستثمار لإطلاق مشروع تنافسي على المستوى العالمي.
أعمل حالياً على مشروع آخر، إذ نحتاج إلى ما بين 150 و200 ألف متر مربع لإقامة منشأة صناعية. لكن توافر الأرض متعذر وأسعارها مرتفعة بشكل يهدد الاستمرار بالمشروع.
ارتفاع أسعار الأرض هو النتيجة المباشرة لسياسة الاقتصاد الريعي المتبعة والتي تؤدي اصطناعياً إلى توليد أسعار مرتفعة لا تبرير اقتصادياً لها. من يصدق أن إنتاجيتنا تفوق من 10 إلى 20 ضعفاً الإنتاجية في أماكن أخرى لتبرير الفارق. فالأرض في النهاية ليست سوى جزء من الكلفة الرأسمالية لمشروع زراعي أو صناعي. والأمر ذاته يصح في مجال السياحة، فارتفاع أسعار الأراضي يلقي بعبئه على أسعار الغرف الفندقية ويبعد لبنان عن السوق العالمية للسياحة. كل شيء تصبح أسعاره مرتفعة بسبب فائض في السيولة لا يجد أي مجال للتوظيف المجدي إلا في تضخيم ودائع المصارف أو شراء العقارات.
في المقابل، لا يترتب على حيازة العقارات أي كلفة، فالشخص يمكنه الاحتفاظ بقطعة أرض لثلاثين أو أربعين سنة من دون أن يدفع أي رسم خلال هذه المدة، ثم يبيعها مع ربح هائل من دون أن يدفع أية ضريبة، بينما المستثمر في الاقتصاد الحقيقي يتحمل مخاطر عديدة ويشغل الناس. وإذا ربح يخضع للضريبة على الأرباح أولاً، وثانياً على التوزيع. فهل هذا عدل؟ هل هذا يشجع الاستثمار المنتج؟
إذا أضفنا إلى ذلك الكلفة الهائلة للطاقة التي يواجهها الصناعي (وكل واحد) في لبنان، نفهم كيف يؤدي الوضع إلى إقفال المعامل واحداً تلو الآخر أو إلى نقلها إلى الخارج.
كلفة الطاقة مرتفعة لأننا لم نرسم سياسة عاقلة للطاقة في البلد، بل تحوّلنا إلى أسرى لجدال عقيم يستمر منذ أكثر من عقد حول الخصخصة المزعومة، والتي ليست برأيي إلا مسألة منح امتيازات سوف تؤدي إلى كلفة بنيوية إضافية على المدى الطويل، يرجح أن تزيد حتى على الكلفة الباهظة الحالية بالنظر إلى سياسة المحروقات (أو غياب هكذا سياسة) التي اعتمدناها منذ أكثر من 15 سنة، والتي لا نزال نتبعها بعناد، وهي تشكل السبب الرئيسي للعجز السنوي غير المعقول الذي نشهده، ولجزء كبير من الدين العام.
لأي سبب غامض لا نتعلم من أخطائنا ونصرّ على الاستمرار عليها؟
أنا أعمل في القطاع الخاص وتعلمت في معهد هارفرد للأعمال، رمز الاقتصاد الحر، وأظن من الصعب اتهامي بأنني يساري ماركسي.
عندما تسلمت وزارة الطاقة والمياه، ظننت أيضاً في البداية أن المشكلة تعود إلى كون القطاع العام قليل الفاعلية، إلى أن قمت بتحليل معمق. ما تعلمناه في هارفرد هو أن نحلل، كنا نحلل 13 حالة أسبوعياً خلال سنتين، فدرسنا أكثر من 900 حالة. لذا رحت أحلل وضعية الكهرباء ووجدت أن القسم الأكبر من الكلفة، أكثر من 90% منها بحسب أسعار النفط الحالية، يتمثل بالمحروقات. وهذا الأمر يبقى قائماً، سواء كان الإنتاج في يد القطاع العام أو القطاع الخاص.
ما هي المسألة إذاً؟ المسألة أن المحروقات التي نستخدمها بالغة الكلفة. نستورد، قطاعاً عاماً وخاصاً، محروقات لإنتاج الكهرباء بقيمة تفوق 3.5 مليارات دولار سنوياً، في حين يمكن إنتاج الكمية ذاتها من الكهرباء باستخدام الفحم النفطي (petcoke) وفق الشروط البيئية اللازمة، وتوفير ما يفوق 2.5مليار دولار سنوياً وإنتاج الكيلو واط ساعة بكلفة بين 5 و7 سنتات.
ليس الحل بالتأكيد برفع أسعار الكهرباء لتغطية كلفة الإنتاج الحالية. القيام بذلك يعني تقليص القدرة الشرائية للمستهلكين وتحميلهم أعباء عدم فاعلية مصانع الإنتاج، وبالتالي تقليص طلبهم على سائر السلع والخدمات، وصولاً إلى انكماش الاقتصاد بأكمله.
انتظار الحل من اكتشاف الغاز الطبيعي تحت البحر ليس هو الآخر موقفاً منطقياً في المجال الاقتصادي. وبالنظر إلى وتيرة تقدم الأمور، سوف يستلزم ذلك 10 سنين ولسنا متأكدين من حجم المخزون ولا من كلفة الاستخراج. إذا اعتبرنا بتفاؤل أن الغاز سوف يتوفر بأسعار مناسبة بعد 10 سنوات، علماً بأن بناء مصنع يعمل على الفحم النفطي يتطلب 5 سنوات، فإننا سوف نوفر 12 مليار دولار خلال هذه الفترة، أي أكثر من كلفة بناء المصنع. وهذا يسمح باقتصاد كمية من الغاز، متى استخرج، واستخدامه للصناعات البتروكيمائية بدل حرقه وتبديده لتوليد الكهرباء.
المسألة الأخرى هي التمويل. كلفة تمويل القطاع الخاص أعلى بكثير من كلفة تمويل الدولة، وهذا ليس مجرد رأي، فالبنك الدولي نفسه عبر عن ذلك في أحد تقاريره. ويسهل فهم ذلك. فالمستثمر الخاص الذي يدخل في عملية شراكة مع القطاع العام في منطقة غير مستقرة من العالم يفترض تحقيق كلفة مثقلة وسطية على رأس المال (WACC) في حدود 15% إلى 20%. في المقابل تقترض الدولة اللبنانية لتمويل مشاريع البنى التحتية بأقل من 5%، وتتدنى الكلفة أحياناً إلى 1 أو 1.5%. هذا يعني أن كلفة تمويل القطاع الخاص أعلى بـ 15%. إذا اعتمدنا بشكل تبسيطي أن كل إنتاج الكهرباء مموّل من القطاع الخاص وأن الاستثمار الإجمالي بحدود 10 مليارات دولار، عندها يكون العبء الإضافي الناتج من خيار القطاع الخاص 1.5 مليار دولار سنوياً، يضاف إلى تبعات عدم اختيار الوقود المناسب.
تمت مواجهتي بالقول إن لبنان لا يستطيع تحمل مزيد من الديون، وهو بالتالي مضطر للجوء إلى القطاع الخاص. هذه مزحة. ما الفرق بين سند يوجب دفع فائدة سنوية والتزام بشراء الخدمة التي ينتجها شريك خاص سنوياً لمدة 15 أو 20 سنة؟ لست أرى أي فرق. الحجة التي قدمت لي أن العقد مع الشريك الخاص لا تظهر مترتباته ضمن الدين العام ولا تؤثر بالتالي على التصنيف الائتماني للدولة. إن كان ذلك صحيحاً على قياس مشروع شراكة صغير، أشك كثيراً بأن وكالات التصنيف والمستثمرين سوف يطنشون عن التزامات سنوية هائلة من خارج الميزانية، تصل إلى مئات ملايين الدولارات. لن توصلنا الحيل الصغيرة إلى مكان.
الحل يمر عبر شراكة بين القطاعين العام والخاص (وهي لا تحتاج إلى قانون لأننا نطبقها حالياً) حيث تقوم الدولة بالاستثمار وتحتفظ بالملكية، بينما يقوم القطاع الخاص ببناء المصنع وتشغيله، فنستفيد من الميزات النسبية لكل منهما. وفي الواقع اليوم، يتم إنتاج أكثر من 60% من كهرباء مؤسسة كهرباء لبنان بالشراكة مع القطاع الخاص. فمعملا البداوي والزهراني أديرا وشغلا، منذ إنشائهما، من قبل القطاع الخاص وكانت التجربة ناجحة بامتياز، إذ وفرت نسبة تشغيل تفوق 95%، وهذا هو النموذج الذي أحبّذ.
والاقتصاد الريعي هو أيضاً المسؤول المباشر عن هجرة شبابنا. لماذا يغادرون؟ الجواب بسيط: الاقتصاد اللبناني لا يوفر فرص عمل ذات قيمة مضافة كافية لتستخدم طاقات الشباب المتعلم الذي ننتجه، فندفع شبابنا إلى الهجرة ليحصلوا على ظروف حياة أفضل وليرسلوا لنا الأموال لدعم أسرهم. في المقابل، نستورد عمالاً بأجور متدنية للقيام بأعمال بسيطة، وهم أيضاً يحولون جزءاً كبيراً من مداخيلهم إلى بلدانهم بدل المساهمة في اقتصادنا المحلي.
هذا النموذج غير قابل للاستدامة. الفقاعة سوف تنفجر يوماً والاقتصاد سوف ينهار في وقت ما، ويكون ذلك على الأرجح نتيجة أحداث خارجية لا قدرة لدينا للتأثير عليها.
قد تسألون: لكننا شهدنا نمواً مرتفعاً لعدة سنوات بعد حرب 2006، فما هي المشكلة؟ نعم استطعنا أن نستفيد لثماني سنوات، إنما بسبب تضافر مجموعة من الأسباب الظرفية.
مرت علينا حرب ولدت دماراً واسعاً، وكان علينا إعادة الإعمار، واستفدنا من ضخ أموال خارجية، فارتفع الاستهلاك. في الوقت نفسه، ارتفعت أسعار النفط، فتحسّنت مداخيل المغتربين اللبنانيين، ما زاد من حجم تحويلاتهم إلى لبنان. طبعاً ارتفعت فاتورة الطاقة صاروخياً، لكن المال كان متوافراً لتسديدها بفضل تحويلات المغتربين. واستفدنا أيضاً من أزمة الديون العالمية سنة 2008 التي خفضت الفوائد إلى الصفر في الاقتصادات الكبرى، فتراجعت كلفة استدانتنا وازداد مع ذلك تدفق الرساميل. بنهاية هذا التعداد، يجب أن ننتبه إلى أن كل هذه العوامل طارئة وغير متكررة.
آن الأوان لنستفيد من ظروف كهذه لإعادة هيكلة اقتصادنا وتدعيمه.
إذا افترضنا أن أسعار الطاقة باقية على مستواها المرتفع، وإذا بقيت التحويلات من المغتربين كبيرة، يصبح السؤال الذي يفرض نفسه: ماذا يحصل متى عادت معدلات الفوائد للارتفاع، كما يرجح، خلال بضع سنوات؟ كيف تتعامل المصارف مع القروض المتعثرة في ظل ارتفاع الفوائد، وماذا يكون مصير القروض إلى القطاع العقاري أو تلك المغطاة بضمانات عقارية، وهي بالذات التي ولدت نمواً اصطناعياً في اقتصادنا، وما هو أخطر، كيف نموّل عجز موازنتنا الذي سوف يرتفع إلى 7 مليارات دولار أو أكثر؟
هذا ما سوف نواجهه طالما لم نُعِد توجيه بنيتنا الاقتصادية.