كتب مصطفى العويك في “النهار”:
“انفجار قنبلة في مجرى نهر ابو علي” هكذا، وخلال فترة الجولات السابقة التي شهدتها طرابلس، كان يسمع بالنهر، من دون اي طرح جدي لمشكلته البيئية. اليوم مشهد النهر يصدم الناظر: مياه عذبة تذوب في المياه الآسنة التي تتسلل من قساطل مهترئة، اعدت في الاساس لشبكة الصرف الصحي، او هكذا قال المتعهد، تختلط كليا مع مياه صالحة للشرب. في الوسط، والى يمينك ويسارك، مئات من صناديق الخضر المحطمة والمعبأة بالخضر الفاسدة والمتعفنة، تختلط بالمياه المبتذلة، وتصبح صيداً ثميناً لحشرات وقوارض ما خبرها السكان من قبل.
ابقار ترعى ما تيسر لها من خس وبقدونس مما رماه بائع البسطة على ضفاف النهر. الى جانبها مجموعة من المواشي تتصارع للحصول على وجبة طعام اليوم. روائح لم يعد يجيد أنف من يشمها تمييزها عن رائحة مكب النفايات.
هذا هو واقع نهر ابو علي في طرابلس، النهر الذي يشطر المدينة القديمة (المملوكية) الى نصفين، يتحول بفعل تصرفات بعض الذين لا يراعون بيئة ولا اخلاقا ولا ايمانا مركزاً لتراكم النفايات، ومصدراً لعديد من الاوبئة ومحطة انطلاق لارتال من البرغش. حتى سقفه، الذي استحدث عبر ما يعرف بمشروع الارث الثقافي على طول 300 متر، تحول، بعد ازالة عربات الخضر عنه بأمر من البلدية بعد تحذير من البنك الدولي وجهه اليها (مشروع الارث الثقافي ممول عبر قرض من البنك الدولي)، موقفاً للسيارات.
النهر، الذي فاض العام 1955 وخلف وراءه كارثة اجتماعية وسكنية، وكتبت فيه عشرات الدراسات والكتب التي ركزت على طبيعة الحياة الماضية على ضفافه، وكيف كان يقصده كل اطفال وشباب المدينة للعب والسباحة وملاقاة الاصدقاء، وهو مايعرف بـ”مجتمع النهر”، بات اليوم مصدر قلق وازعاج للمدينة برمتها، بتحوّله كارثة بيئية بكل المقاييس، من دون ان يتقدم احد من المسؤولين الرسميين المعنيين بالملف البيئي في لبنان الى وضع حد لهذا الانتهاك البيئي المتمادي، والتعامل بحزم، ووفقاً للقانون، مع كل من يثبت تورطه في تشويه صورة النهر.
“صرخة نهر”
يمكن القول ان مياه النهر باتت تصرخ بأعلى صوتها وتستغيث “انقذوني مما انا فيه واعيدوني كما كنت سابقاً، مسرحاً للحياة وملتقى للاصحاب وصورة حقيقية عن مدينتي”. هذه الصرخة تلقفها القطاع الاجتماعي في مؤسسة الصفدي، واطلق مشروع “صرخة نهر” الهادف الى “توعية محيط النهر من سكان وتجار وعمال على خطورة استمرارهم بالتعامل معه بهذه الطريقة المأسوية” كما تقول مديرة القطاع سميرة بغدادي للـ”النهار”، مضيفة: “واقع النهر مؤلم جدا، لذلك اطلقنا هذا المشروع واسميناه “صرخة نهر” ليكون فعلا صرخة مدوية نعمل من خلالها على تنمية المحيط وتوعيته، حتى نصل الى مجتمع آمن ومؤمن بيئيا بأهمية النهر وعدم رمي النفايات في مجراه وعلى ضفافه”. والمشروع هذا اختير من بين المشاريع الفائزة في برنامج “منح المحافظة على البيئة 2013، الذي تموله شركة فورد الشرق الاوسط، هو استكمال لمشروعي “النادي البيئي”، و”الشرطي البيئي” اللذين تعمل عليهما المؤسسة، لتوسيع مفهوم المشاركة الفعالة للمجتمع المحلي لتغيير الواقع البيئي من خلال تشكيل مجموعة من السكان وتوعيتهم على حجم الاضرار البيئية والصحية التي ستصيبهم جراء تعاملهم الخاطئ مع النهر.
بدوره رئيس لجنة البيئة في بلدية طرابلس الدكتور جلال حلواني قال للـ”النهار” تعليقا على هذا الامر: “منذ بداية عمل المجلس البلدي اعطينا الاولوية لنهر ابو علي وعملت على اظهاره بحلة جديدة تتماشى مع اهميته البيئية وموقعه التاريخي، واتفقت مع منظمة الصحة العالمية على مشروع صحي –بيئي ضمن برنامج طرابلس “مدينة صحية”. وتم اعداد دراسة اولية لانشاء بحيرة طبيعية على مدخل المدينة بالقرب من “التكية المولوية”، على ان تتم ازالة المباني المخالفة على ضفة النهر وحل مشكلة الصرف الصحي، واستحداث طريق من مسجد الامين الى المولوية مع انارتها وتشجيرها. وتم الاتفاق على ان يطرح هذا الامر في المرحلة الثالثة من مشروع الارث الثقافي، ولكن الحوادث الاليمة التي عرفتها المدينة والتخبط الحاصل في مشروع الارث الثقافي اوقفا مشروع منظمة الصحة ومشروع البحيرة معا”.
ويضيف حلواني “بعدها ازداد الوضع البيئي سوءاً، وخصوصًا أنّ الأهالي لا يدركون نعمة وجود هذا النهر الى جانبهم، وأهميته البيئية وهذا في ذاته مصيبة”. وأوضح أنّ “البلدية تقوم مرتين في السنة بتنظيفه، ورغم وجود حاويات لبقايا الخضر ومخلفات السوق، الا ان الكثير من الباعة المتجولين لا يلتزمون بها”.
ربما يحتاج نهر ابو علي الى اكثر من صرخة ونداء استغاثة حتى ينظر اليه، على أمل ان لا تكون هذه الصرخات في واد والمعنيون بالملف البيئي حكومياً في واد آخر!