فراس أبو مصلح
التقت المصارف اللبنانية وصندوق النقد الدولي على تدفيع محدودي الدخل ثمن مطالبتهم بتصحيح الأجور، وذلك عبر إلغاء دعم سعر الكهرباء، والإمعان في «ترشيق» القطاع العام، الذي تعاني إداراته نسبة شغور تناهز 70%، وإلغاء المزيد من القوانين الناظمة لعمل القطاع الخاص، ومنح الأخير المزيد من الإعفاءات والامتيازات، وذلك تحت شعار «الإصلاحات الهيكلية»
استضاف مصرف لبنان أمس مؤتمرا لعرض تقرير «الأفق الاقتصادي الإقليمي: الشرق الأوسط ووسط آسيا»، الصادر عن صندوق النقد الدولي، حيث تمنى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن تترافق الزيادات على الرواتب في القطاع العام مع «إصلاحات» ترمي الى التكيّف الهيكلي، مشيراً إلى أن الضرائب وحدها لا تستطيع حمل عبء تصحيح الأجور، في ظل «تدهور الموازنة» وانعدام الفائض الأولي، ما يعني «وجوب إعادة هيكلة المالية العامة». ومن جهته، رأى مدير المركز الإقليمي للمساعدة الفنية للشرق الأوسط في صندوق النقد الدولي، محمد الحاج، أن الدعم وزيادة الأجور «إنفاق جارٍ غير منتج»، يأتي من باب «تنفيس الضغط» الاجتماعي، ويؤدي إلى ارتفاع كبير في عجز الموازنة، ورفع نسبة الدين إلى الناتج المحلي، وتقليص هامش السياسة المالية، وتقليص الاستثمارات العامة والخاصة، ما يؤدي إلى نمو أقل مستقبلاً، في ظل تنامي عدد السكان!
بحسب التقرير المذكور، كان النمو عام 2013 مدفوعاً بالطلب المحلي في الأساس؛ وبالرغم من استمرار البطالة المرتفعة، بقي الاستهلاك دون تغيير، مرتكزاً على التدفقات الكبيرة من العاملين في الخارج، ودعم السلع، والإنفاق على أجور القطاع العام. يتوقع التقرير أن يظل النمو الاقتصادي مكبوحاً عام 2014، «لكن مصادره ستشهد اتساعاً»، فبالرغم من أن الاستهلاك سيظل المحرك الرئيسي للنمو، من المتوقع أن يزداد الاستثمار للمرة الأولى منذ بداية الصحوة العربية؛ كما يُتوقع أن يتحسن أداء التصدير والسياحة بسبب ارتفاع الطلب عند الشركاء التجاريين، وخاصة أوروبا ودول مجلس التعاون الخليجي، وبسبب ارتفاع الاستثمار العام «بفضل تمويل المانحين وإصلاحات الدعم»، وكذلك الاستثمار الخاص الذي سيكون «رهن تنفيذ الإصلاحات وتحسن مستوى الثقة».
ظل النمو محدوداً في البلدان المستوردة للنفط في منطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا، إذ استقر حول معدل 3% العام الماضي، وهو معدل بعيد عن المتوسط التاريخي البالغ حوالى 5%، علماً أن المعدل الأخير غير كافٍ للحد من البطالة المرتفعة على نحو مزمن وتحسين مستويات المعيشة في المنطقة، ما يستوجب تحقيق طفرة كبيرة في النمو، الأمر الذي يحتاج بدوره إلى تحفيز الاستثمارات التي تخلق فرص العمل الوافرة، «على أساس من التغييرات الهيكلية الداعمة للنمو الممكن»، بحسب التقرير. يرى الحاج أن الأردن والمغرب يمثلان استثناءً لنمط النمو المنخفض وارتفاع البطالة في المنطقة، وذلك لأنهما يطبقان برنامج صندوق النقد الدولي لـ«الإصلاح»! «الفقراء ليسوا هم المستفيدين من الدعم المعمم generalized subsidies»، يقول الحاج، داعياً إلى إعادة توجيه الإنفاق العام من الدعم إلى الاستثمار، ولا سيما في قطاعات الصحة والتعليم، وإلى إلغاء دعم كهرباء لبنان، واستثمار المليارَي دولار المخصصة لهذه الغرض سنوياً في مشاريع منتجة (أليست الكهرباء من مدخلات الإنتاج الأساسية!؟). «لا يمكن تجاهل الإصلاح الهيكلي»، الذي يجب أن يكون «شاملاً بالضرورة»، يجزم الحاج.
يلحظ التقرير أن «القلاقل الاجتماعية» (أي الاحتجاجات المطلبية)، فضلاً عن العوامل الأمنية والسياسية، تعوق زيادة ثقة المستثمرين في اقتصادات البلدان المستوردة للنفط. «المشكلات الهيكلية المزمنة» وقضايا الفساد عوامل ضاغطة على مناخ الأعمال، تؤدي في بعض البلدان إلى عرقلة تحقيق المكاسب الكاملة، التي يمكن أن تعود على الصادرات والسياحة والاستثمار الأجنبي المباشر، عقب تحسن النمو لدى الشركاء التجاريين، يقول التقرير، طارحاً «الإصلاحات الهيكلية المكثفة» خياراً أوحد لـ«دعم الثقة» وتحقيق النمو. يؤكد التقرير مراراً أن شرط التعافي والنمو يكمن في «معالجة العقبات الهيكلية أمام النشاط الاقتصادي الخاص»، وذلك عبر تهيئة ظروف أفضل لريادة الأعمال الصغيرة والمتوسطة خصوصاً، وإلغاء دعم أسعار الطاقة الذي «يشوه الإنتاج لمصلحة الصناعات الكثيفة الاستخدام للطاقة، التي لا تشجع على توفير فرص العمل». أما «المعوقات الأكثر تأثيراً» بحسب التقرير، فهي «عدم كفاءة الجهاز البيروقراطي، والفساد، والنظم الضريبية التي لا تدعم التنافسية، وتنظيمات العمل التي لا تدعم إنشاء فرص عمل جديدة». بعض الإصلاحات يتطلب وقتاً طويلاً، غير أنه يمكن البدء فوراً بالبعض الآخر منها، كـ«تعميق التكامل التجاري» و«تبسيط القواعد المنظمة للأعمال»، يقول التقرير، مقترحاً دخول الحكومات في «شراكات مع كبار المستثمرين في القطاع الخاص»، سبيلاً لمعالجة البطالة المزمنة وتحسين الإنتاجية، كما يتحدث التقرير عن ضرورة توفير البيئة الاقتصادية الكلية الداعمة للتحولات الهيكلية، وذلك بضبط أوضاع المالية العامة، وضمان مرونة سعر الصرف للحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي، و«بث الثقة» بالاقتصاد، وزيادة الائتمان المصرفي المتاح لتمويل الاستثمارات الخاصة، ورفع مستوى التنافسية، واستقطاب التمويل الخارجي. بمقدور «المجتمع الدولي» تقديم الدعم لتطبيق «الإصلاحات الهيكلية»، يقول التقرير، وذلك عبر «المشورة الفنية وغيرها من مبادرات بناء القدرات، وإتاحة المزيد من الفرص أمام منتجات المنطقة وخدماتها للنفاذ إلى أسواق التصدير»!
يقف «الإصلاح الهيكلي الشامل بالضرورة»، على حد تعبير الحاج، على أعتاب السياسة النقدية اللبنانية ومهندسها، مصرف لبنان. لم تؤثر الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت عام 2008 في الاقتصاد اللبناني بسبب «النموذج المصرفي» فيه، أكد سلامة. سياسات مصرف لبنان صلّبت القطاع المصرفي، وقرار مصرف لبنان الفصل بين العمل المصرفي الاستثماري والتجاري كان «هدفاً أساسياً»، فتوظيف مصارف تجارية في أعمال استثمارية أدى إلى «قتل السيولة وخلق الأزمة عام 2008»، شرح سلامة، منوهاً بحفاظ مصرف لبنان على السيولة بفرض الاحتفاظ بنسبة 30% منها على المصارف، ما سمح للأخيرة بالاستغناء عن سوق الإقراض ما بين المصارف، وكذلك الاستغناء عن الاقتراض من مصرف لبنان، ما أدى إلى تعزيز الثقة لدى السوق اللبنانية «المعزولة» تماماً عن الأزمات عالمياً، وذلك بسبب الرقابة والضوابط التي يفرضها المصرف المركزي على المؤسسات المالية العاملة في الأسواق العالمية: أزمة كبرى حصلت حتى في قبرص، غير أن المصارف اللبنانية زادت ربحيتها، وازداد إقراضها عوضاً عن أن ينخفض؛ فجرى إقراض 53 مليار دولار للقطاع الخاص و50 مليار للقطاع العام، ما يحفز على النمو، على عكس المنحى السائد قبل عام 2009، حيث كان الإقراض للقطاع العام هو الأعلى.
بحسب سلامة، أدت التدفقات الكبيرة للرساميل إلى انخفاض الفوائد وتعزيز قدرة مصرف لبنان على الحفاظ على الاستقرار النقدي، برغم تداعيات ما يُسمى الربيع العربي والحرب في سورية، التي أدت إلى انخفاض معدل النمو من 8% إلى 2.5%، وأثرت سلباً في العديد من المؤشرات التي باتت أقل جاذبية للمستثمرين؛ لكن النمو ظل إيجابياً بالنسبة إلى الاقتصاد اللبناني بمعدل نمو حقيقي حوالى 2% بين عامي 2011 و2013، على العكس من سائر اقتصادات الدول العربية غير المصدرة للنفط. يتحدث سلامة عن تدفقات رساميل قوية واحتياطي عملات أجنبية يبلغ 36 مليار دولار، ما يعني وضعا نقديا «مريحا»، واستقرارا لسعر صرف الليرة وانخفاضا في معدل الفوائد. ينوه سلامة بـ«رزم التحفيز» التي أطلقها مصرف لبنان، أي زيادة القروض الميسرة لقطاعات السكن والطاقة البديلة وغيرها، والبالغة قيمتها 1.4 مليار دولار، لها الفضل بنسبة50% من النمو المحقق العام الماضي، مضيفاً أن نجاح الرزمة تلك واستهلاك القروض كلها حفز المصرف المركزي لتقديم الرزمة نفسها العام الجاري. الميزانية المتينة لمصرف لبنان تؤهله لأداء دور في زيادة التوظيف، عبر دعم المؤسسات الناشئة، وخاصة في قطاع اقتصاد المعرفة، يقول سلامة، لافتاً أن الاستمرار في هذه السياسة لا يعني خرق قاعدة حماية الليرة والمصارف الخاصة من المخاطر!