محمد وهبة
دقّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ناقوس الخطر. نفير الحاكم مبني على مؤشرات ذات أبعاد مقلقة اقتصادياً واجتماعياً: القروض الاستهلاكية تمثّل 50% من مدخول الاسرة، ومديونية القطاع الخاص ارتفعت إلى 100% من الناتج المحلي الإجمالي. درجة القلق في مصرف لبنان وصلت إلى حدّ الكشف علناً عن هذه المؤشرات في منتدى الاقتصاد العربي الذي نظمته مجموعة الاقتصاد والاعمال أمس.
فعلى ما يبدو فإن هذين المؤشرين يقلقان رياض سلامة، مما دفعه إلى التحذير من أن هناك «تحديات شتى تواجه الاقتصاد اللبناني، أهمها خفض مديونية القطاع الخاص».
يتوغّل سلامة في تفسير كلامه بالإشارة إلى أن «مديونية القطاع الخاص قد تعيق الاستثمار، وبالتالي النمو في الاقتصاد، كما تمثل عبئاً على العائلة، ولا سيّما في ما يتعلّق بالقروض الاستهلاكية التي أصبحت تمثل نحو 50% من مدخول العائلة».
ماذا يعني كلام سلامة؟ كيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟ ما هي المعالجات المناسبة؟
ليست كل الإجابات في متناول الجميع. فقد اعتادت المصارف مراقبة سلامة للقيام بالخطوات المقبلة، وبرغم خطورة هذه المؤشرات التي يدركها بعض المصرفيين، إلا أنهم ليسوا مبادرين في اتجاه التكفير عن أخطائهم طالما أنها تحقق لهم أرباحاً. وفي الواقع، فإن كلام سلامة مبني على إحصاءات سوقية موجودة لدى جمعية مصارف لبنان، وهي إحصاءات تستند إلى سلسلة وقائع، أبرزها أن هناك الكثير من الشركات المدينة للمصارف، التي تستمرّ في الاستدانة وتمويل استثماراتها خارج لبنان، وهي لا تستعمل رأس مالها من أجل توظيفه في شركاتها المحلية وتوسيع أعمالها.
وبحسب المعطيات، فإن مصرف لبنان حاول خلال الفترة الماضية أن يشجّع هذه الشركات على توظيف أموالها في لبنان، إلا أنه لم يتمكن من تحفيزها على القيام بذلك. واللافت، أن مصرف لبنان اكتشف أن هذه الشركات لديها ملاءة مالية كبيرة، ولا تمثّل الاستدانة خطراً كبيراً عليها، بل هي تمثّل خطراً على الاقتصاد الوطني عموماً، وخصوصاً أن هذه الشركات في غالبيتها ليست شركات إنتاجية، بل هي شركات تجارة وخدمات ومقاولات وبناء، أي إن أعمالها تتصل بالريع اكثر مما تتصل بالإنتاج.
إذاً، كيف يمكن تشجيع هذه الشركات على استثمار أموالها في لبنان، وهي أموال يحتاج إليها الاقتصاد الوطني من أجل النمو الاقتصادي… السرّ يكمن في هيئة الأسواق المالية، في رأي الحاكم، اذ قال في تصريحه أمس إنه «من هذا المنطلق ننشط، بصفتنا رئيسا لهيئة الأسواق المالية، لتطوير هذه الأسواق، بحيث تتسم بالإدارة الحكيمة والشفافية وتصبح ساحة قابلة لتمويل المؤسسات في القطاع الخاص عن طريق المساهمة، وربما تحويل بعض الدين إلى مساهمة. كذلك، نرمي إلى إيجاد أسواق سائلة لتسنيد القروض الاستهلاكية، وهذا الأمر من شأنه أن يحسّن ملاءة ونوعية المحفظات الائتمانية في القطاع المصرفي».
إذاً، المعالجة في رأي سلامة تكمن في تنشيط هيئة الأسواق المالية وخلق أسواق تعزّز السيولة بين أيدي المصارف والشركات، لكن هل ينجح هذا الأمر بالنسبة إلى المؤشر الثاني، أي قروض الاستهلاك التي تمثّل 50% من مداخيل الأسرة؟
في الواقع، إن هذا المؤشّر يعبّر كثيراً عن مجموعة من حقيقة السوق المصرفية في لبنان. فمن المعروف أن مصرف لبنان يفرض على المصارف ألا تتجاوز استدانة أي زبون ما يوازي ثلث مدخوله الإجمالي، وبالتالي، فإن لا شكّ في أن مصرف لبنان لديه فكرة واضحة عن كيفية ارتفاع نسبة القروض الاستهلاكية إلى 50% من مدخول الأسرة. وبحسب مصادر مصرفية مطلعة، فإن المصارف تخالف القوانين في سياق المنافسة بين بعضها بعضا، من أجل استقطاب الزبائن على أنواع معينة من القروض الاستهلاكية والفردية: قروض البطاقات الائتمانية، القروض الشخصية، قروض السكن، قروض السيارات، قروض التعليم… وكل القروض لغير الشركات. لكل نوع من أنواع هذه القروض طرق في الاحتيال على الأنظمة والإجراءات المفروضة من قبل مصرف لبنان، فعلى سبيل المثال، عدد كبير من المصارف يقدّم تسهيلات إدارية إلى الزبائن، فيسمح لهم بالاستدانة بما يفوق مجموع مداخيلهم، وربما يساعدهم على تخمين عقاراتهم السكنية باكثر من قيمها السوقية للحصول على مبلغ قرض أكبر، وبعض المصارف لا تحتسب قروض البطاقات الائتمانية من ضمن القروض… فضلاً عن أن المصارف تكاد «تتقاتل» مع بعضها بعضا على قروض السيارات وإغراء وكلاء البيع بعمولات مرتفعة… كله على حساب الزبون، الذي لا يعلم عن هذا الواقع شيئاً، بل كل ما يأمله هو أن يحصل على القرض بغض النظر عن قدرته الفعلية على السداد.
هذا هو «الضوء الأصفر» الذي يطلقه مصرف لبنان عن الاستدانة المفرطة، وعن العيش على المديونية في وقت يحتاج فيه الاقتصاد إلى هذه الأموال.