بروفسور جاسم عجاقة
لم يعد سراً، أنّ لبنان تخلى عن فكرة إعادة بناء مصافي تكرير النفط في طرابلس في الشمال والزهراني في الجنوب. وتوقيف العمل في هذه المصافي التي كانت تدرّ على لبنان أرباحاً كبيرة، يُعتبر خطأً إستراتيجياً ترتكبه الدولة اللبنانية بحق شعبها.
بدأ لبنان بإستيراد النفط وتخزينه في ثلاثينات القرن الماضي. وتطورت عملية إستيراد النفط عبر مدّ أنابيب من العراق في العام 1935 وترافقت هذه العملية مع إنشاء مصفاة طرابلس. وفي العام 1949، قامت السعودية بمدّ أنابيب نفط لضخّه إلى مصفاة الزهراني. في ذلك الوقت كانت هذه الأنابيب تدرّ أموالاً على خزينة الدولة بمعدل 11 سنتاً للبرميل.
وخلال الحرب الأهلية التي عصفت في لبنان بين سبعينات وتسعينات القرن الماضي، توقف العمل في المصافي وأصبح لبنان يستورد النفط بواسطة البواخر ما زاد الكلفة نتيجة ضرائب الميليشيات وحصة المافيات النفطية. وفي أيام الوصاية السورية، كان النفط يُعرض في لبنان على السعر العالمي زائداً 19 دولاراً، في حين أنّ في سوريا كان السعر المعروض هو السعر العالمي زائداً 11 دولاراً.
وبتقييمٍ بسيط للوضع بعد ثلاثين عاماً من وقف العمل بالمصافي، نرى أنّ النتيجة كارثية. فسعر صفحية البنزين في لبنان يحتل المرتبة الرابعة إقليمياً من ناحية الغلاء، كما أنّ شركة كهرباء لبنان تُسجل عجزاً سنوياً يُقارب المليارَي دولار أميركي ناتج بنسبة 65% عن كلفة الفيول المستورد (أنظر إلى المستند Policy Paper for the Electricity Sector الصادر عن وزارة الطاقة والمياه). ولا يُخفى على أحد التلوث البيئي الناتج عن المنشآت النفطية كمعمل الذوق الحراري الذي يُعتبر «المركز الوطني لبث مرض السرطان».
الحاجة إلى مصافي نفط…
لا أحد يعرف سبب عدم إقرار السلطات اللبنانية لخطة تسمح بإعادة العمل بمصافي طرابلس والزهراني. وإذا كان لا جدوى من إعادة تأهيل هذه المصافي بطاقتها الحالية لأنّ إحتياجات السوق المحلي تتجاوز اليوم 120 ألف برميل يومياً أيْ أكثر بكثير مما تستطيع هذه المصافي إنتاجه، إلّا أنّ إعادة بناء هذه المصافي من جديد مع القدرة على تكرير أنواع عدة من النفط هو أساسي.
وعدم إقرار مثل هذه الخطة على الرغم من الكلفة، هو خطأ إستراتيجي سيحرم لبنان من عشرات مليارات الدولارات على المدى المتوسط إلى البعيد:
– إنّ مصافي التكرير سمحت للبنان في الماضي بتأمين حاجة السوق المحلي إضافةً إلى تصدير الفائض إلى الأسواق العالمية. وهذا ما سمح بتوفير الكلفة على الإقتصاد اللبناني برمّته نتيجة سعر النفط المنخفض. إضافة إلى تأمين مدخول مهم ناتج عن التكرير (11 سنتاً للبرميل حين كان سعر البرميل ما دون العشرين دولاراً) وroyalties على أنابيب النفط التي كانت تعبر الأراضي اللبنانية وتُصدّر إلى الخارج. اليوم ومع غياب هذه المصافي تبلغ كلفة إستيراد المشتقات النفطية 5 مليارات دولار سنوياً إضافة إلى فقدان المردود الناتج عن التكرير وعن الـ royalties.
– إنّ حاجة العالم لمصافي التكرير هي بديهية بالنظر إلى التوزيع العالمي لمصافي التكرير وقدرتها الإنتاجية. فمنطقة الشرق الأوسط التي تُنتج 32% من النفط العالمي الخام لها قدرة تكرير لا تُغطّي إلّا 11 مليون برميل في النهار. في حين أنّ أوروبا التي تُنتج أقل من 4% من النفط الخام العالمي، لها قدرة تكرير تتجاوز الـ مليون برميل في النهار.
وإذا كانت أميركا قد نجحت في فرض عقوبات على إيران، فالفضل بنسبة كبيرة يعود إلى عدم وجود مصافي كافية في إيران لتأمين حاجة السوق المحلي ما يفرض عليها إستيراد المشتقات النفطية (تحتل إيران الرتبة السادسة من ناحية إنتاج الخام عالمياً). فإيران تحوي على 15 مصفاة نفط بقدرة تكرير تبلغ 3 مليون برميل في النهار.
كما أنّ الدول العربية وعلى الرغم من إحتوائها على 45 مصفاة تكرير، إلّا أنها لا تستطيع تكرير أكثر من 8.3 ملايين برميل في اليوم وهذا لا يُغطي إنتاجها البالغ 21 مليوناً يومياً، ما يعني أنّ هذه الدول بحاجة إلى تكرير نفطها لكي تستطيع تصديره بسعر أعلى.
– إنّ الثروة النفطية والغازية في لبنان والتي سيتم إستخراجها في فترة لا تتجاوز الـ 15 عاماً إذا ما تم كل شيء على خير، ستحتاج إلى مصافي تكرير لتلبية الطلب الداخلي كما وتصدير المشتقات النفطية بسعرٍ عال. وعدم إنشاء مصافي تكرير يعني أنّ الدولة اللبنانية ستُصدّر النفط الخام وستستمر بإستيراد المشتقات النفطية. وكأنّ شيئاً لم يتغير، فكلفة الإستيراد على الإقتصاد اللبناني ستبقى على حالها بسبب وجود كارتيلات النفط.
– لا يُخفى على أحد أنّ الدول الخليجية تخشى بلا شك زيادة النفوذ الفارسي في المنطقة خصوصاً السيطرة العسكرية والمعنوية لإيران على مضيق هرمز. لذا تحتاج هذه الدول إلى منفذ لبترولها عبر البر إلى البحر المتوسط.
وإذا كان عدم الثبات السياسي والأمني في المنطقة يمنع هذا الأمر حالياً إلّا أنّ هذه الحاجة يُمكن ترجمتها عبر إتفاقات إقتصادية تعود بالفائدة على الكل. وللتذكير، في عزّ عدائها لإسرائيل، إستطاعت مصر أن تؤمّن لها الغاز على الرغم من معارضة الرأي العام العربي والمصري.
قوة كارتيلات النفط في لبنان…
لفهم الدافع وراء معارضة «كارتيل» النفط اللبناني إنشاءَ مصافٍ للنفط، يكفي معرفة أنه إذا ما تمّ إنشاء هذه المصافي، فسيتوقف عمل شركات النفط. من هنا أخذت هذه الشركات بتعطيل مشاريع بناء مصافي نفط وذلك بفضل قوتها العظيمة التي تنخر في جهاز الدولة السياسي الى درجة انّ ايّ بحث في إعادة تأهيل مصافي النفط او إقامة مشاريع جديدة سيصطدم بممانعة السياسيين الداعمين لهذا «الكارتيل»، وليس هناك دليلٌ أسطع من إفشال المشروع القطري الذي انتقل الى تونس حيث بدأ إنشاء مصفاة بالقرب من مرفأ السوقيرة على البحر الأبيض المتوسط.
هذا المشروع الذي تبلغ قيمة الاستثمارات فيه نحو مليارَي دولار، تمّ عرضه على لبنان في عام 2006، وجرى توقيع مذكّرة تفاهم في شأنه مع وزير الطاقة والمياه في ذلك الوقت محمد فنيش، وكان يهدف الى تكرير نحو 150 ألف برميل يومياً من المكثّفات القطرية… إلّا أنّ الحكومة لم تمضِ بالمشروع.
وللختام يجب التأكيد على أنّ بناء مصافي نفط جديدة في طرابلس والزهراني مع قدرة إنتاجية تفوق الـ 200 ألف برميل في النهار وقدرة تكرير عدة أنواع من النفط، يؤدي حتماً إلى تثبيت سعر المشتقات النفطية في السوق المحلي، وإرساء ثبات إقتصادي، ويؤدي إلى تطوير القطاع الفني والصناعي والجامعي أو الثقافي والتقني. فتنمية القدرات الفنية وتأمين فرص عمل لإختصاصات فنية وتقنية تسمح بتأمين أكثر من 5000 فرصة عمل على الأقل.