من الصعب أن نبالغ في أهمية العراق بالنسبة لصناعة النفط العالمية، فهو سابع أكبر منتج للنفط في العالم، مع احتياطيات مؤكدة تراوح بين 140 مليارا و150 مليار برميل من النفط الخام، يقول محللون إنها من بين أرخص أنواع النفط على هذا الكوكب من حيث التطوير.
لكن هذا ليس كل شيء. العراق هو أيضاً ثاني أكبر منتج في أوبك، بإنتاج يبلغ 3.3 مليون برميل يومياً. وتتوقع وكالة الطاقة الدولية، وهي من أبرز الجهات التي تتنبأ بتوجهات الطاقة، أن يوفر العراق بين الآن وعام 2019 نحو ثلثي النمو في الطاقة الإنتاجية للنفط في أوبك.
لكن مع انزلاق البلاد نحو حرب أهلية، ارتفع سعر برنت، مؤشر النفط العالمي، بشكل متواضع فقط، إذ كسب ما يزيد قليلاً على خمسة دولارات للبرميل ليصل إلى أعلى مستوياته منذ تسعة أشهر، عند 115 دولاراً منذ بدء الهجوم قبل أسبوعين.
ورد الفعل هذا فاجأ كثيراً من مراقبي السوق، بالنظر إلى أن المتمردين على بعد أقل من 65 كيلومتراً من بغداد. ويقول توم نيلسون، مدير المحفظة المشارك في صندوق إنفستك لإدارة أصول الطاقة العالمية: “بالنظر إلى تعطل الإمدادات السابقة وحتى التهديدات في الشرق الأوسط، فإن هذا ينبغي أن يرفع السعر إلى 120 دولاراً”.
وتفسير حركة السعر المقيدة بسيط للغاية، كما يقول المتداولون في النفط؛ إذ لم تتم إضاعة حتى برميل واحد من النفط الخام منذ أن هزمت الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام المعروفة “داعش” قوات الأمن العراقية في شمال البلاد.
وهناك العديد من الأسباب لذلك. الأول، هو أن العراق لم يصدر أي نفط من الشمال منذ آذار (مارس)، عندما قصف المتمردون خط الأنابيب الذي يمتد من كركوك إلى البحر الأبيض المتوسط.
والثاني، مرافق الإنتاج والتصدير الرئيسة في العراق تقع في الجنوب وتعتبر بمنأى عن العنف. وفي الواقع، صادرات البصرة من النفط الخام الخفيف الذي يعتبر الصنف الرئيس في البلاد، يمكن أن تسجل رقماً قياسياً يبلغ 2.7 مليون برميل يومياً في الشهر المقبل، وفقاً لخطط التحميل الأولية التي اطلعت عليها بيوت التداول الكبيرة.
لكن إذا سقطت بغداد في يد المتمردين يمكن أن تبدو الصورة مختلفة بسرعة – ليس فقط لأن أكثر من 75 في المائة من إنتاج النفط العراقي يأتي من منشآت عملاقة في حوض يبعد نحو 150 كيلومتراً إلى الجنوب الشرقي من العاصمة.
ويقول أبهيشيك ديشباندي، المحلل في ناتيكسيس: “إذا كانت داعش ستتقدم نحو بغداد، فإن مسألة أمن النفط في جنوب العراق والمنطقة الكردية قد تتضاءل أهميتها، مقارنة بمسألة انهيار العراق المحتمل ككيان ذي سيادة”.
ريتشارد فينينج، الرئيس التنفيذي لشركة كونترول ريسكس، يوافق ديشباندي الرأي، ويقول: “الأمر لا يدور حول الإنتاج بحد ذاته، لكن حول ما إذا كانت الآليات في وضع مناسب لاستمرار أنظمة الدفع. هل يمكن للبنية التحتية المالية للنفط أن تبقى في وضعها في هذا السيناريو؟”.
في حالة فقدان العالم لجميع الصادرات من العراق، يرجح المتداولون والمحللون أن يدفع ذلك السعر إلى ما فوق 140 دولاراً، ويؤدي إلى إطلاق منظم للاحتياطي الاستراتيجي من وكالة الطاقة الدولية وإمدادات إضافية من السعودية. ويقول جوليان جيسوب من كابيتال إيكونوميكس: “فقدان هذا العرض وحده لن يكون مسألة كارثية، لكن تعويض ذلك سيكون باستخدام معظم الطاقة الإنتاجية الفائضة في السعودية (تقدر بـ 2.5 – ثلاثة ملايين برميل يومياً)”.
لكن حتى التخفيض الجزئي قد يتم الشعور به بشدة. فقد يأتي في وقت يكون فيه الطلب في فصل الصيف الموسمي على وشك أن ينتعش، في وقت قلصت فيه عمليات قتالية الصادرات من ليبيا إلى ما يقارب الصفر، وقللت السرقة من تدفق البراميل النيجيرية، فيما تواصل العقوبات الدولية إعاقة الصادرات من إيران.
وأي انقطاع في العراق قد يضع مزيدا من الضغوط على دول الخليج في أوبك، خاصة السعودية، الدولة الكبرى الوحيدة المنتجة للنفط التي تملك طاقة إنتاجية فائضة كبيرة، لزيادة الإنتاج من أجل تحقيق التوازن في السوق. وحتى من دون وجود المزيد من المشاكل في العراق، تقول وكالة الطاقة الدولية فإن أوبك تحتاج إلى ضخ 30.9 مليون برميل يومياً في النصف الثاني من السنة، للحفاظ على الأسعار تحت السيطرة، أي أكثر من 900 ألف برميل يوميا فوق الإنتاج الحالي.
لكن بالنسبة لكثير من الأشخاص، القضية الكبرى ليست ما يحدث اليوم أو غداً، بل ما يعنيه التقدم السريع لداعش بالنسبة لصناعة النفط في البلاد على المدى الطويل.
وبحسب نيلسون، كان من الواضح- خلال رحلة بحث في الفترة الأخيرة إلى الشرق الأوسط- أن شركات الخدمات النفطية الأمريكية الكبيرة التي تتمتع بخبرة تمس الحاجة إليها، إذا كان سيحقق العراق إمكاناته الجيولوجية باعتباره منتجاً للنفط، مترددة في الالتزام بتوفير رأس المال والأشخاص في جنوب العراق. لقد كان هناك نحو ثمانية آلاف قتيل مدني في العراق هذا العام.
ورداً على هذا القتال بدأت شركات النفط بالفعل في عملية إجلاء موظفيها. وهذا قد لا يؤثر في الإنتاج في المدى القريب، لكنه يؤثر في نشاط التنمية ونمو الإنتاج في المستقبل.
وكما يقول ريتشارد مالينسون، المحلل في شركة إنيرجي آسبكتس، وهي شركة استشارية مقرها لندن: “تظهر هذه التطورات أنه حتى من دون وصول التمرد السني الى حقول النفط الجنوبية ومرافق التصدير، فإن الأزمة الأمنية الراهنة تهدد بالفعل إمكانات النمو على المدى الطويل في العراق”.
في الواقع، لقد قلصت وكالة الطاقة الدولية بالفعل من توقعاتها لنمو العرض من العراق. فهي تعتقد أن البلاد ستكون قادرة على إنتاج 4.54 مليون برميل يومياً بحلول عام 2019، أي ما يقارب نصف مليون برميل أقل من توقعاتها السابقة ونصف ما يتوقعه العراق.
المخاوف بشأن الإمدادات العراقية المقبلة تنعكس حالياً في في أسعار النفط على الأجل الطويل. مثلا، ارتفعت العقود الآجلة لخام برنت تسليم كانون الأول (ديسمبر) 2019 بنسبة 4.1 في المائة هذا الشهر لتصل إلى 97.78 دولار للبرميل.
ويقول نيلسون، من شركة إنفستيك: “بغض النظر عما يحدث على المدى القصير، هناك آثار غير مباشرة ضارة جداً على صناعة النفط العراقية من التصعيد الأخير في أعمال العنف”. وهذا التأثير ليس سوى مجرد بداية لما سنشعر به.