بينما يسعى النظام الجديد المدعوم من الجيش إلى تثبيت سلطته وتدعيم شرعيته، يعاني الاقتصاد المصري من أزمة اقتصادية طاحنة. ولذا تبدو تدابير إعادة الهيكلة المالية والتقشّف ضرورية إذا أردنا الحديث بجدية عن أي احتمالات للتعافي الاقتصادي، غير أن تمريرها في هذا الوقت قد يكون صعباً من الناحية السياسية إذ أنه لزام على النظام الجديد توسيع قاعدته وتشكيل تحالف أكثر شمولاً من المؤيدين من أجل تحقيق الاستقرار في مصر والحفاظ على السلطة واستعادة النمو الاقتصادي.
مصر بين الشعبوية والتقشّف
فاقمت سنوات الاضطراب السياسي التي أعقبت إطاحة الرئيس المصري حسني مبارك في العام 2011 العديد من المشاكل الاقتصادية الهيكلية التي طالما عانى منها اقتصاد البلاد.
وقد انخفضت معدّلات النمو السنوية مع هروب ضخم لرؤوس الأموال الأجنبية، وهو مازاد من تردّي وضع الموازنة وميزان المدفوعات وعجز الاحتياطي الأجنبي.
وعلى الرغم من الحاجة الماسة إلى اتّخاذ تدابير تقشّفية لتدارك العجز المتزايد في الموازنة، إلا أنه ربما لا تُقدِم القيادة على اتخاذ تلك الخطوات التي لاتحظى بقبول شعبي وقد تقوّض دعائم النظام الجديد.
وقد سنّت الحكومة الانتقالية بتمويل من حلفائها العرب في الخليج، خطّتَين للتحفيز بهدف زيادة الاستثمارات ورفع معدلات النمو وإيجاد فرص العمل. ومن الناحية الاجتماعية تستهدف معظم المشاريع الواردة في الخطتين الطبقة المتوسطة الدنيا والفقيرة في المناطق الحضرية، من خلال توفير الإسكان لذوي الدخل المنخفض أو ضخّ الأموال في عمليات تحديث الأحياء الفقيرة في المراكز الحضرية الكبيرة.
وعلى الرغم من استحضار التجربة الناصرية كثيراً في خطاب النظام الرسمي، إلا أنه من المستبعد أن يترجم النظام الجديد هذا الخطاب إلى اتّباع نهج شعبوي اقتصادي يقوم على اضطلاع الدولة بالتوزيع وتقديم الخدمات العامة كتبرير لمصادرة الحريات السياسية، كما حدث في العهد الناصري لعدم توفر الموارد الكافية لذلك.
طريق صعبة إلى الأمام
ليست المشاكل المالية في البلاد بعصية على الضبط بالضرورة، فإذا استأنف الاقتصاد المصري نموه عقب تسلم عبد الفتاح السيسي الرئاسة، عندها يمكن لإعادة الهيكلة المالية أن تمضي قُدُماً، وبتكلفة سياسية يمكن احتمالها.
وإذا تعافى الاستثمار المحلي والأجنبي، فسيصبح بالإمكان تحقيق معدّلات نمو أعلى بعد ثلاث سنوات من الركود.
لايوجد مستثمر، بصرف النظر عن جنسيته، مستعدّ لوضع أمواله في اقتصاد متداعٍ في بلد غير مستقرّ سياسياً. ولهذا يتعيّن على الحكومة المصرية وحلفائها العرب في الخليج أن يواصلوا إقامة مشاريع التحفيز الضخمة لإنعاش النمو وجذب المستثمرين مع مضي الحكومة قدماً في إعادة هيكلة ماليتها العامة.
من المفترض أن يكون لهذه المشاريع تأثير إيجابي على القاعدة الأوسع من الاقتصاد حيث تتدفّق الأموال من الجيش، المتلقّي المباشر لأموال الخليج، على المؤسّسات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي يعتمد عليها في تنفيذ المشاريع، وقد تكون تلك المشاريع الأولى في سلسلة من التدابير التي تستهدف هذه الشركات كجزء من استراتيجية تهدف إلى خلق قاعدة دعم سياسي أوسع للنظام.
غير أن تشكيل تحالف أكثر شمولاً، وهو مطلب أساسي لتثبيت دعائم النظام الجديد بقيادة السيسي، يتطلّب ماهو أكثر من مجرد تدفق بعض العائد على قاعدة الاقتصاد الواسعة، بل سيكون على السيسي وحكومته إعادة النظر في مستقبل شبكات المحسوبية الموروثة من عهد مبارك، إن لم يكن تفكيكها جزئياً أو كلياً للسماح بنمط اقتصادي بديل أكثر شرعية وقبولاً.
مقدمة
في آذار/مارس 2014، أعلن المشير عبد الفتاح السيسي نيّته الترشح للرئاسة المصرية. وبفوزه في أيار/مايو بأغلبية ساحقة من الأصوات، تقلّد السيسي السلطة السياسية رسمياً، وبدأت رحلة طويلة من مواجهة تحديات سياسية واقتصادية خطيرة.
فمن الناحية الاقتصادية، سيجد الزعيم المصري نفسه بين المطرقة والسندان، إذ يعيش اقتصاد البلاد حالةً هي الأقرب إلى الركود منذ ثورة كانون الثاني/يناير 2011 التي أطاحت الرئيس الأسبق حسني مبارك. وفي خضم هذا الركود، تزايد العجز في موازنة الدولة العامة وفي ميزانَي التجارة والمدفوعات، وبلغ العجز في هذه الموازين مستويات تنذر بالخطر. وتلاشت الآمال في حدوث انتعاش اقتصادي في خضم عملية انتقال سياسي بالغة الطول أًديرَت على نحو سيّئ.
نظراً إلى هذه الظروف، سيضطرّ السيسي حتماً إلى سنّ تدابير تقشّفية وخفض الإنفاق لتحقيق قدرٍ من الاستقرار الاقتصادي. وعلى الرغم من الحاجة الماسة إلى هذه التدابير من الناحيتين المالية والاقتصادية، قد يكون من الصعب تمرير تدابير التقشّف المالي سياسياً بسبب عدم وجود توافق واضح حول الخطوات اللازمة لذلك، كما أن الوضع الأمني الهشّ في البلاد يجعل من الصعب إحراز تقدّم.
من الناحية الاقتصادية، سيجد الزعيم المصري نفسه بين المطرقة والسندان.
هل ستحدق المشاكل الاجتماعية والاقتصادية في مصر بالحكومة المقبلة وتحكم عليها بالفشل؟ أم هل سيتمكّن السيسي من الاستفادة من شعبيته لبناء تحالف يدعم النظام السلطوي الصاعد في البلاد؟
يشكّل التعافي الاقتصادي المتمثّل في زيادة النمو والاستثمار، وبالتالي معدّلات التوظيف، أولوية لحاكم مصر الجديد. كما أن التعافي الاقتصادي هو أيضاً شرط مسبق لأي عملية إعادة هيكلة مالية جادّة وشاملة تبدو البلاد في أمسّ الحاجة إليها في المدى المتوسط. إن كلتا العمليتين يجب أن تحدثا بالتوازي. فمن خلال خفض العجز، ستؤدّي إعادة الهيكلة المالية إلى تحرير مزيد من الموارد للاستثمار الخاص، وهو الأمر الذي يعدّ ضرورياً لتحقيق النمو الاقتصادي وإيجاد فرص العمل. ومع ذلك، يجب أن يصاحب عملية إعادة الهيكلة هذه تحقيق الاستقرار السياسي والأمني كي يحدث التعافي الاقتصادي، وإلا فإن إعادة الهيكلة المالية ستدفع الاقتصاد إلى موجة ركود أعمق مع خفض الإنفاق الحكومي ورفع الأسعار نتيجة لإلغاء الدعم، وبالتالي، يبدو أن الاستقرار السياسي هو السبيل الوحيد للخروج من حلقة الركود المفرغة، ومن تفاقم الصراعات الاجتماعية. وهو أمر من المنتظر أن يتجلّى في الشهور الأولى من حكم السيسي الرسمي.
المباركية من دون مبارك؟
يذهب بعض المراقبين إلى أن الحال اليوم في مصر أشبه بارتداد من ثورة كاملة إلى إعادة إحياء النظام السابق على الثورة. ويستدل هؤلاء على صدق هذا التخوّف بالقمع غير المسبوق للحريات السياسية والمدنية في السنة الأخيرة، وانتهاكات حقوق الإنسان الواقعة على نطاق غير مشهود قبلاً، إضافة إلى انحسار المجال السياسي الذي انفتح لفترة وجيزة في أعقاب ثورة يناير، والذي يبدو اليوم وكأنه جزء من الماضي الغابر. وفضلاً عما سبق، يبدو لهؤلاء المراقبين أن مجموعة المصالح القديمة داخل بيروقراطية الدولة، المدنية وكذلك العسكرية، والشبكات الأوليغارشية آخذة في احتلال المشهد بالتزامن مع المحاولة الأكثر جدّية واتساقاً لإعادة تثبيت السلطة السياسية منذ إطاحة مبارك.
يبدو في هذا السياق أن الانتفاضة الشعبية ضد نظام حكم الإخوان المسلمين الذي لم يدم طويلاً، والدعاية الوطنية التي تلت هذه الانتفاضة، قد وفّرتا ذريعة وبيئة ممتازة لعودة القوى والمصالح القديمة.
فبالنسبة إلى هؤلاء المراقبين المتخوّفين، فإن النظام الجديد في مصر ماهو سوى مباركية من دون مبارك إذ ولد النظام القديم، الذي تهيمن عليه الدولة بالتحيّزات الاجتماعية والاقتصادية والميول السلطوية نفسها، من جديد تحت ستار سلطوية جديدة مدعومة من الجيش. وقد شقّت أحزاب عهد مبارك طريقها عنوة وعادت إلى الساحة السياسية. ويبدو في هذا السياق أن الانتفاضة الشعبية ضد نظام حكم الإخوان المسلمين الذي لم يدم طويلاً، والدعاية الوطنية التي تلت هذه الانتفاضة، قد وفّرتا ذريعة وبيئة ممتازة لعودة القوى والمصالح القديمة.
وعلى الرغم من كل هذه التخوفات من عودة السلطوية القديمة ومصادرة المجال العام، لم يخمد الحراك الاحتجاجي بالكامل في أعقاب عزل محمد مرسي في تموز/يوليو 2013. فقد استؤنفت الاضطرابات العمالية في شكل إضرابات واعتصامات متتالية. ووفقاً لمركز تنمية الدولية، شهدت مصر 2782 احتجاجاً عمالياً في الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2013، مقارنةً بـ2532 في العام 2012 كلّه، و2782 في العام 2010. 1 وقد أثبت قرار الحكومة السابقة رفع الحدّ الأدنى للأجور اعتباراً من كانون الثاني/يناير 2014 أنه دعوة إلى مزيد من الإضرابات في القطاعات الصناعية والخدمية التي تملكها الدولة وتديرها، مثل وسائل النقل العام وصناعة الغزل والنسيج والخدمات البريدية، وكذلك بين الأطباء والصيادلة.
وجنباً إلى جنب مع هذه الحركة الاحتجاجية الاجتماعية والاقتصادية، التي أثبتت أنها العامل الثابت الوحيد في السياسة المصرية منذ العام 2004، تستمر مصر في مواجهة احتجاجات الإسلاميين في مرحلة مابعد مرسي. وقد أثبتت الشهور الماضية أن القمع الواسع الذي استهدف هذه الاحتجاجات لم يؤدِّ إلى القضاء على التظاهرات تماماً على الرغم من انحسارها الملحوظ مع نجاح المسار السياسي الذي وضعه الجيش في تثبيت أقدامه وفرض نفسه. وتشير الاضطرابات الطلابية المستمرّة في الجامعات الكبرى، وكذلك الاحتجاجات الصغيرة والمتفرّقة، ولكن المتكرّرة، في القرى والبلدات والأحياء، إلى أن المجال العام لم يخضع تماماً إلى سيطرة الجيش والشرطة.
ومن هنا، فإن ضمان استمرار الدعم الشعبي، أو على الأقلّ احتواء مشاعر السخط، أمر ضروري لبناء السلطة السياسية الجديدة في عهد السيسي. وسيعتمد مدى نجاح ذلك، إلى حدّ كبير، على السياسات الاقتصادية التي تسنّها حكومته.
التحدّيات المالية
عانت المالية العامة في مصر من مشكلة عجز هيكلي مزمن منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، فبعد خفض العجز لفترة وجيزة في أوائل التسعينيات في أعقاب تنفيذ برنامج التثبيت برعاية صندوق النقد الدولي، زاد العجز العام مرة أخرى. كان السبب الرئيس لهذا الاتّساع المتكرّر في عجز الموازنة هو الانخفاض المطّرد في إيرادات الدولة من نحو 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في مصر، في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، إلى مايقرب من 20 في المئة بحلول العام 2000. 2
وقد انخفضت الإيرادات لأسباب متنوّعة. فالريع الخارجي (المتحقّق من مبيعات النفط والغاز الطبيعي ورسوم قناة السويس والمنح والأشكال الأخرى من المساعدات)، إمّا تراجع أو أصابه الركود. ومن ناحية أخرى، أصبح النصيب الاقتصادي الأكبر من نصيب القطاع الخاص الواقع فعلياً خارج قدرات الدولة المصرية المحدودة على تحصيل الضرائب. هذا بينما بقي الإنفاق العام ثابتاً تقريباً، يتأرجح بين نحو 30-32 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.3 ويعاني الإنفاق العام في مصر من غياب أي قدر من المرونة، إذ أن مايقرب من ثلثي مجموع الإنفاق يتم صرفه على نفقات جارية إلزامية من خدمة للدين، إلى باب الأجور والمرتبات بجانب الدعم الذي يعتبر قضية متفجّرة سياسياً.
اعتمدت الحكومة بصورة كبيرة مع تزايد العجز على التوسع في الاقتراض المحلي، الذي اعتبره مبارك وفريقه الاقتصادي أقلّ خطورة من الديون الخارجية. وسرعان ما أصبحت الدولة أكبر مدين للقطاع المصرفي المصري مع بلوغ الدين العام الإجمالي حوالى 90 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام 2010، حيث شكّلت الديون المحلية النسبة الأكبر منه.4
على الرغم من فداحة هذه المشاكل الهيكلية المزمنة خلال فترة حكم مبارك، كانت تحت السيطرة نوعاً ما، وكانت مقاربة النظام تقوم على زيادة تحرير الاقتصاد وتركيز الثروة والأصول في أيدي عدد قليل من المحاسيب المقرّبين الذين يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالنخب الحاكمة. ولم تمنع جوانب الضعف في النظام المالي رئيس الوزراء السابق أحمد نظيف، الذي خدم في عهد مبارك بين العامين 2004 و2011، وفريقه النيو ليبرالي، من تحقيق معدلات نمو مرتفعة، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وتكديس احتياطيات كبيرة من النقد الأجنبي، وصلت إلى 35 مليار دولار أميركي بحلول نهاية العام 2010. 5
ارتفع عجز الموازنة إلى حوالى 12 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2012-2013، حيث انخفضت الإيرادات الحكومية وزاد الإنفاق الاجتماعي (الأجور والدعم). لكن الانخفاض في معدلات النمو السنوية والهروب الكبير لرؤوس الأموال الذي أعقب ثورة يناير زاد الأمور سوءاً بالنسبة إلى ميزان المدفوعات واحتياطيات النقد الأجنبي. وبحلول كانون الأول/ديسمبر 2012، بلغت احتياطيات النقد الأجنبي في مصر أقلّ من نصف مجموعها في كانون الثاني/يناير 2011. 6 واضطرّت البلاد إلى الاعتماد بشكل متزايد على المساعدات الخارجية والقروض لتأمين الواردات الأساسية.
وفي ماعدا هذه القضايا، سيجد الرئيس المصري الجديد نفسه في مواجهة مشكلة دعم الوقود خصوصاً في ظل ارتفاع الاستهلاك المحلي من الغاز الطبيعي والنفط. أصبحت مصر مستورداً للنفط منذ العام 2006 ومستورداً للطاقة (بما في ذلك الغاز الطبيعي) في العام 2012. ونتيجة لذلك، أصبحت البلاد أكثر عرضة إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز العالمية، ما أدّى إلى توسّع غير مسبوق في دعم الطاقة كنسبة من الإنفاق العام. وقد شكّل دعم الوقود نحو 20 في المئة من إجمالي الإنفاق الحكومي منذ العام 2008، وساهم هذا الدعم في ارتفاع العجز في موازنة الدولة وزيادة نسبة النفقات الجارية، ولم تبقَ سوى نسبة ضئيلة من الأموال العامة للاستثمار.
وبالنظر إلى هيكل دعم الوقود، يذهب حوالى 55 في المئة من فاتورة الدعم إلى منتج واحد هو الديزل، الذي تستورد مصر أكثر من 80 في المئة من استهلاكها منه. كما أن معظم الديزل المستهلك (حوالى 80-85 في المئة من الكمية الإجمالية) هو أحد مستلزمات الإنتاجية التي تدخل في الصناعات والنقل (النقل العام ونقل السلع والخدمات) والزراعة.7
وعلى الرغم من الطبيعة الهيكلية والمزمنة لهذه المشكلات، كونها ترجع إلى سنوات ماقبل ثورة يناير، حوّل اندلاع الثورة والاضطراب السياسي الواسع والمستمر الذي تلاها، هذه المشكلات الهيكلية إلى قضايا ملحّة وضاغطة تستلزم اتخاذ الكثير من الإجراءات لتغيير الموقف، في وقتٍ يفتقد حكام مصر الجدد إلى القدرة السياسية على إجراء تغييرات جذرية.
من المرجّح أن يكون لأي معالجة لمسألة دعم الوقود تأثير اجتماعي واقتصادي بالغ. إذ يتطلّب أي خفض ذي معنى لهذا الدعم (سواء كان كاملاً أم جزئياً) تحرير أسعار الديزل بطريقة من شأنها رفع تكاليف الإنتاج والتوزيع في مجموعة متنوّعة من القطاعات الاقتصادية. ونظراً إلى قدرة الدولة المحدودة على السيطرة على الأسعار، فمن المرجّح أن يتم نقل معظم هذه التكلفة المرتفعة لتثقل كاهل المستهلك النهائي، ماسيؤدّي إلى زيادة عامة في الأسعار، التي ستزيد بدورها الضغط على مستوى معيشة الغالبية الفقيرة من المصريين.
الأمر نفسه ينطبق على الوسائل الأخرى المقترحة لعلاج العجز المزمن في مصر. فمن المرجّح لأي زيادة في الضرائب أن تتم من خلال فرض المزيد من الضرائب غير المباشرة، نظراً إلى القدرات الإدارية المحدودة للدولة على تحصيل ضرائب مباشرة من الشركات وأصحاب العقارات. وقد كان هناك حديث داخل وزارة المالية حول الحاجة إلى فرض ضريبة القيمة المضافة، التي من شأنها أيضاً رفع الأسعار والمساهمة في زيادة معدّل التضخم.
بيد أن المشاكل المالية للبلاد ليست عصيّة على الضبط بالضرورة. والواقع أنه إذا استأنف الاقتصاد المصري نموّه في أعقاب ارتقاء السيسي لسدة الرئاسة، يمكن أن تتم إعادة الهيكلة المالية بتكلفة سياسية يمكن احتمالها. وإذا ماتمّ تحقيق معدلات نمو مرتفعة، فيصبح بالإمكان تحويل تكلفة زيادة الإيرادات وانخفاض الدعم تدريجياً إلى المستهلك النهائي. وقد تكون هذه المقاربة فكرة جيدة إذا تم تحويل جزء من المبالغ الموفّرة من خفض الدعم، إلى برامج تستهدف دعم الفقراء من خلال التحويلات النقدية المباشرة أو القسائم (الكوبونات). ومن شأن ذلك أن يلقي بمعظم التكلفة على عاتق الطبقات الوسطى (العليا)، التي كانت المستهلك الأساسي منذ السنوات الأخيرة لحكم مبارك، وهي الطبقات نفسها المرشّحة للاستفادة على نحو كبير من أي انتعاش اقتصادي محتمل في مصر.
إن التعافي الاقتصادي أمر قابل للتحقيق. فالتحليلات الأخيرة تشير إلى أن الاضطراب السياسي في مصر طيلة السنوات الثلاث الماضية لم يضرّ ببنية الاقتصاد التحتية المادية أو البشرية بقدر ماسبّب اختلالاً شديداً في مؤشرات الأسعار مع هروب رؤوس الأموال وانخفاض معدلات الاستثمار المحلية والأجنبية على حد سواء. وهو وضع يعني أنه مع تحقيق أي قدر من الاستقرار السياسي والأمني، واستعادة المستهلكين بعض الثقة في الاقتصاد المصري، فإنه سينمو بمعدّلات على الأرجح أعلى من المعدلات العادية، نظراً إلى انخفاض استخدامات الموارد في فترة الركود.
مقاربتان اقتصاديتان
يبدو من خطابات السيسي أنه يعي تماماً الوضع الاقتصادي المتردّي في مصر، والحاجة إلى إعادة هيكلة وإصلاح المالية العامة، ولاتساور الرجل أيّ أوهام بشأن إمكان استدامة الواقع الاقتصادي الموروث من زمن مبارك، خصوصاً بعد ثلاث سنوات متتالية من معدلات النمو المنخفضة بسبب الاضطرابات السياسية المستمرة. والأرجح أن يواجه السيسي، وهو في منصب الرئاسة، جنباً إلى جنب مع داعميه في الجيش، مقاربتين محتملتين في مايتعلق بالاقتصاد: السلطوية الشعبوية والسلطوية البيروقراطية.
ميّز الخيار الأول، أي السلطوية الشعبوية حكم الرئيس جمال عبد الناصر في خمسينيات القرن الماضي، وفي ستينياته على وجه الخصوص. والسلطوية الشعبوية هي مفهوم وضعه روبرت بيانكي في كتابه الصادر في العام 1989،Unruly Corporatism: Associational Life in Twentieth-Century Egypt. وهو يشير إلى نظام سلطوي قام على أساس مبادلة الحقوق السياسية باستحقاقات اقتصادية، وتخدم هذه النظم الشعبوية تحالفاً اجتماعياً أوسع من المستفيدين، وبالتالي فهي أكثر ديمومة واستقراراً من غيره من النظم السلطوية التي تقوم على الإقصاء الاقتصادي لفئات عريضة لصالح مجموعات صغيرة العدد.
ولعلّ إحياء نظام سلطوي في السياق الحالي في مصر يتطلّب اتّباع سياسات شعبوية اقتصادية تضطّلع فيها الدولة بالدور الرئيس في توزيع الموارد على الفئات الاجتماعية المستفيدة من شرائح الطبقات المتوسطة وفقراء المدن؛ وهذه هي الصيغة الوحيدة القادرة على تبرير إعادة فرض السلطوية السياسية على المدى المتوسط والطويل.
ولقد ظهرت بعض ملامح الشعبوية الاقتصادية في عدة حالات منذ تموز/يوليو 2013. فكثيراً ماتمّت زيادة رواتب العاملين في الدولة من خلال فرض حدّ أدنى للأجور كما أن إجراءا لم يتم اتخاذه لخفض دعم الوقود في المرحلة الانتقالية التي تلت التخلص من مرسي على الرغم من العجز المتزايد. والواقع أن ربع إجمالي الإنفاق العام يخصَّص للأجور والرواتب، فيمايخصَّص ربع آخر لدعم النفط والمواد الغذائية.
والأرجح أن يواجه السيسي مقاربتين محتملتين في ما يتعلق بالاقتصاد: السلطوية الشعبوية والسلطوية البيروقراطية.
ويبدو أن النظام الجديد يستميت، على غرار حكومات مبارك ومرسي قبله، للحفاظ على القواعد الناصرية الاجتماعية القديمة من موظفي الدولة بصورة رئيسة، والعمل على استرضائها قدر الإمكان. إذ تستهدف معظم الإجراءات الحكومية مَن يعملون لحساب بيروقراطية الدولة المدنية والعسكرية وشركات القطاع العام، والذين يصل مجموعهم إلى حوالى 6 ملايين موظف، وهو مايمثّل حصة كبيرة من مجموع القوى العاملة وإجمالي السكان، إذا تم احتساب مّن يعولونهم من أفراد أسرهم.
مع ذلك، وبسبب القيود الكبيرة المفروضة على الموارد العامة، من المستبعد أن تكون المقاربة الشعبوية هذه قابلة للاستمرار، إذ ستمنع هذه القيود المالية حكام مصر الجدد من توزيع الموارد العامة لتعزيز شعبيتهم، بل ومن المرجح لها أيضاً أن ترغم حكومة السيسي على سنّ تدابير تقشّفية لاتحظى بالكثير من القبول الشعبي.
مع استبعاد خيار السلطوية الشعبوية يكون ثمة خيار آخر وهو السلطوية البيروقراطية، وهي الصيغة التي تقوم على فرض حكم سلطوي يصادر الحريات السياسية بالتزامن مع فرض تدابير تقشّفية بهدف خفض عجز الموازنة، ومحاصرة الدين العام المتضخّم على نحو ينذر بالخطر.8 وبقدر ماتكون الأزمة المالية حادّة وتدابير التقشّف وشيكة، قد تفضي هذه السياسات الاقتصادية الكلّية إلى تقويض وتعطيل تأسيس سلطة شعبية كالتي يعمل السيسي على التأسيس لها.
والواقع أن مصر كانت في حاجة إلى إجراء إصلاحات مالية كبيرة منذ السنوات الأخيرة لحكم مبارك، إلا أن مبارك، الذي تمتّع نظامه باستقرار نسبي على مدى عقود طويلة مقارنة بالحال بعد ثورة يناير، نأى بنفسه عن اتّخاذ أي تدابير لاتحظى بالقبول الشعبي، مثل خفض دعم الوقود أو زيادة الضرائب غير المباشرة. ونظراً إلى غياب التوافق السياسي في الوقت الحالي، فإن سنّ تدابير اقتصادية لاتحظى بالشعبية قد يؤجّج المعارضة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويوفّر مادة للاحتجاجات السياسية المستمرّة من جانب الإخوان المسلمين وحلفائهم أو أي جماعات ثورية أخرى.
إن تبنّي سياسات السلطوية البيروقراطية كما كانت في أمريكا اللاتينية في السبعينيات والثمانينيات، يعني انهيار التحالف التوزيعي الناصري في مصر بصورة نهائية وحاسمة، لأن التقشّف سيُترجَم مباشرة إلى ارتفاع في الأسعار وتدنّي مستويات المعيشة بالنسبة إلى الأغلبية. وسيكون تأثير ذلك أكبر على الطبقات المتوسطة والفقيرة في المناطق الحضرية والريفية، وهي المجموعات نفسها التي يسعى الجيش إلى استرضائها ونيل دعمها السياسي في هذه المرحلة.
إن سنّ تدابير اقتصادية لاتحظى بالشعبية قد يؤجّج المعارضة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويوفّر مادة للاحتجاجات السياسية المستمرّة من جانب الإخوان المسلمين وحلفائهم أو أي جماعات ثورية أخرى.
ففي حال اضطلاع الجيش بتبنّي مثل هذه الخيارات الاقتصادية، يكون قد جعل من نفسه ممثّلاً للطبقات العليا، وللمشروع النيوليبرالي السابق لمبارك وابنه جمال، إذ لايستطيع الرئيس المستقبلي المدعوم من الجيش أن يمثّل مصالح تحالف النخب الحاكمة والفئات المستفيدة من المحسوبية في عهد مبارك، الذي أثبت أنه إقصائي جداً ولايحظى بالشعبية الكافية للتأسيس لشرعية النظام السياسي قيد الإنشاء.
ومن هنا، فإن خيارَي السلطوية الشعبوية أو البيروقراطية لايتماشيان حقاً مع شروط الاستدامة السياسية والاقتصادية للنظام الجديد. فهل للسيسي قدرة على التوفيق بين تحقيق التعافي الاقتصادي وضبط مالية الدولة وعدم المخاطرة بشرعيته في آن واحد؟ يتمتّع السيسي بمجموعة من المزايا، ولذا ينبغي عليه، وهو المسلّح بدعم شعبي كبير والمدفوع بتصوير وسائل الإعلام له باعتباره مرشّح الإجماع الوطني، أن يكون قادراً على الترويج لبعض التدابير التي لاتحظى بالكثير من القبول الشعبي، وتحمّل التكلفة السياسية لتمريرها.
إضافة إلى ذلك، سيحظى السيسي، على عكس مرسي، بالدعم الضمني (والصريح أحياناً) من البيروقراطية المدنية والعسكرية وكذلك من الشركات والتكتّلات العائلية الكبيرة. وقد أظهر صعوده إلى السلطة، منذ تموز/يوليو 2013، بأنه جزء من استراتيجية إقليمية أكبر تضمن استمرار تدفّق رؤوس الأموال الأجنبية التي تشتدّ الحاجة إليها في الاقتصاد المصري. وإجمالاً، فإن هذه المزايا ضرورية، وغالباً ماتكون عناصر كافية لتحقيق الاستقرار السياسي والانتعاش الاقتصادي.
خطط تحفيز الانتعاش الاقتصادي
لم يكن لدى الحكومتين الانتقاليتين اللتين أدارتا الشؤون في مصر منذ تموز/يوليو الماضي، سوى خطة واحدة من شقّين: أولهما تسيير الأمور وثانيهما العمل على تحقيق بعض التعافي الاقتصادي في المستقبل القريب ـ في سنوات حكم السيسي الأولى. وعلى الرغم من الصعوبات الكثيرة، فإن رفع معدلات النمو بعد ثلاث سنوات من الركود أمر ممكن، على الأقلّ من الناحية النظرية، إذا ماتعافت الاستثمارات المحلية والأجنبية. بيد أنه لايوجد مستثمر في التوقيت الحالي، بغضّ النظر عن جنسيته، مستعدّ للمخاطرة بتوظيف أمواله في اقتصاد مُتداعٍ في بلدِ غير مستقرّ سياسياً، فلابدّ أن تقوم الحكومة المصرية نفسها وحلفاؤها العرب في الخليج بالخطوة الأولى. وهو ما انعكس بالفعل على خطط التحفيز التي جرى وضعها في المرحلة الانتقالية، والتي من المنتظر أن تدخل حيز النفاذ تباعاً بعد تقلّد السيسي للرئاسة.
هذا ماحدث بالفعل لحزمتي التحفيز اللتين جرى أطلاقهما في العام المالي 2013-2014. وتهدف الحزمتان إلى تحقيق النمو وتعزيز شعبية النظام لدى طبقات اجتماعية واسعة، وربما توسيع التحالف الاجتماعي الذي يفترض أن يدعم النظام الجديد في مصر.
تم تمويل حزمة التحفيز الأولى محلياً من خلال تسييل نصف وديعة حرب الخليج، وهو مبلغ مالي تراكم في أوائل تسعينيات القرن الماضي كجزء من الدعم الذي قدّمته دول الخليج إلى مصر نظير انضمامها إلى التحالف الدولي ضد العراق إبّان غزوه للكويت. ووفقاً للحكومة المصرية فإن القيمة الحالية للوديعة، والمحفوظة في حساب خاص في البنك المركزي المصري، تبلغ حوالى 60 مليار جنيه مصري (8.5 مليارات دولار أميركي). وبلغت القيمة الإجمالية لحزمة التحفيز الأولى حوالى 29.7 مليارات جنيه مصري (4.2 مليار دولار). وقد تم تخصيص مايقرب من 79 في المئة من إجمالي الإنفاق لمشاريع البنية التحتية والمشاريع الاجتماعية – و6.7 مليارات جنيه ( 950 مليون دولار) لتطوير الطرق والنقل، و4.4 مليارات جنيه (624 مليون دولار) لدعم الصناعة الوطنية، و4.1 مليار جنيه (581 مليون دولار) لإمدادات المياه العذبة والصرف الصحي وتوصيل الغاز الطبيعي، و3.1 مليار جنيه ( 439 مليون دولار) للسكن الاجتماعي، 2.9 مليار جنيه (411 مليون دولار) للتنمية المحلية للقرى والبلدات، و2.2 مليار جنيه (312 مليون دولار) لسداد متأخّرات مستحقّة لقطاع البناء والتشييد.9
وبينما تم تمويل حزمة التحفيز الأولى محلياً، جرى تمويل الحزمة الثانية بالكامل تقريباً بواسطة منحة من الإمارات العربية المتحدة (69.2 في المئة)، وقروض خارجية ميسَّرة (30.8 في المئة). وقَّعت مصر والإمارات العربية المتحدة اتفاقاً في 26 تشرين الأول/أكتوبر 2013، تقدّم دولة الإمارات بموجبه منحة تصل إلى حوالى 35 مليار جنيه مصري (4.9 مليارات دولار). وقد تم تخصيص خمسة عشر مليار جنيه (2 مليار دولار) من المنحة كدعم نقدي للموازنة، في مقابل تخصيص مبلغ 20 مليار جنيه المتبقّي (2.9 مليارات دولار) لمشاريع البنية التحتية والإنفاق الاجتماعي. ووفقاً لتقرير صادر عن الحكومة المصرية، سيتم استخدام منحة الإمارات لبناء 50 ألف وحدة سكنية لمحدودي الدخل، و25 صومعة لتخزين القمح، و100 مدرسة جديدة. وسيتم أيضاً تقديم خدمات الصرف الصحي إلى 151 قرية، وإيصال الكهرباء إلى 70 قرية.10
تشير هذه الخطط إلى أن داعمي إقصاء الإخوان من الحكم في الخليج يدركون جيداً أن مصر بلد شديد الضخامة بحيث لايمكنه الاعتماد على الدائنين الأجانب في المدى المتوسط لتوفير مصروفاته الأساسية. ونتيجة لذلك، وفي حين توفّر المنح الخليجية الأموال اللازمة لتأمين واردات الوقود الأساسية في مصر وإبقاء الدولة واقفة على قدميها من الناحية المالية، فإن الهدف الأساسي من هذا التدفّق الضخم لرؤوس الأموال هو المساهمة في تحقيق التعافي الاقتصادي.
لايمكن لهذا النوع من التعافي أن يحدث إلا في الأجلَين القصير والمتوسط، من خلال التدخّل المباشر للدولة. فهو يتطلّب استثمارات ضخمة في مشاريع البنية التحتية الكبيرة التي من شأنها أن توجد فرص العمل، وتحفّز النشاط الاقتصادي من خلال إشراك قاعدة واسعة من المنتجين والموزّعين، وزيادة الاستهلاك العام.
تخطّط البيروقراطية العسكرية ووحداتها الاقتصادية للعب دور مركزي في هذه الاندفاعة لتحقيق التعافي الاقتصادي. وهناك العديد من التفسيرات لقرار الجيش بأن يلعب مثل هذا الدور البارز، أحدها يقول إن الجيش، وهو لاعب سياسي منذ فترة حكم الرئيس الأسبق أنور السادات في سبعينيات القرن الماضي، وفاعل اقتصادي مؤثّر كذلك، يسعى إلى تشديد قبضته على المزيد من الموارد الاقتصادية، في الوقت الذي يتم توجيه ضربة قوية إلى شبكات المحسوبية القديمة من عهد مبارك. بيد أنه ثمّة تفسير آخر قد يكون وظيفياً أو عملياً بحتاً، يقوم على أن الحكام الجدد لايثقون بالبيروقراطية المدنية لأسباب وجيهة لها علاقة بعدم الكفاءة والفساد، لذلك هم يفضّلون الاعتماد على بيروقراطيتهم بدلاً من ذلك.
على كلّ حال، يدخل الجيش في عدد كبير من مشاريع البنية التحتية والأشغال العامة التي سيتم تمويلها جزئياً من خطط التحفيز المموَّلة من دول الخليج. وقد تم التعامل على هذا النحو مع مشروع عملاق لتحديث العشوائيات في المدن الكبرى، وبناء عدد من الطرق السريعة، ومبادرة لبناء مليون وحدة سكنية يتم تمويلها بواسطة أكبر شركة مقاولات في الإمارات، “أرابتك القابضة”، إحدى شركات “آبار للاستثمار” الأداة الاستثمارية لحكومة أبو ظبي.11 وتقدَّر القيمة الإجمالية للمشروع بـ280 مليار جنيه مصري (40 مليار دولار).
تهدف معظم هذه المشاريع إلى معالجة مجموعة معقّدة من التحدّيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتنطوي العديد من المبادرات على رسالة اجتماعية تستهدف الطبقة المتوسطة الدنيا والفقراء في المناطق الحضرية، سواء تم ذلك من خلال توفير الإسكان لذوي الدخل المنخفض أو ضخّ المال في تكوير الأحياء الفقيرة في المراكز الحضرية الكبيرة. كما تهدف كل هذه المشاريع إلى إيجاد فرص العمل.
فضلاً عن ذلك، سيتم تنفيذ معظم هذه المشاريع من خلال التعاقد من الباطن، ولاسيما في قطاع البناء والتشييد، مايعني أن الإنفاق على هذه المشاريع من الجيش، المتلقّي المباشر لأموال الخليج، سيجد طريقه إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي سيسند لها التنفيذ، وقد يكون واحداً من سلسلة من التدابير التي تستهدف الرأسمالية الصغيرة والمتوسطة الحجم في مصر.
الدولة والقطاع الخاص
يغيب رأس المال المصري الكبير ممثّلاً في الشركات الكبرى والعائلات الرأسمالية المعروفة عن خطط الحكومة الاقتصادية، وهو أمر جدير بالملاحظة. فقبل عهد مبارك، كانت الدولة تلعب دوراً أساسياً في الاقتصاد، لكن بعد ثلاثة عقود من التحرير التدريجي للاقتصاد، والخصخصة ونمو القطاع الخاص، تغيّر دور الدولة في مايتعلّق بإنتاج وتوزيع السلع والخدمات بشكل كبير. والآن، تحوّلت أكبر حصة في الناتج الإجمالي والقيمة المضافة والتوظيف، إلى القطاع الخاص بشتى صوره وعلى اختلاف أحجامه، سواء كان متناهي الصغر أم صغيراً أم كبيراً أم رسمياً أم غير رسمي. فالقطاع الخاص له النصيب الغالب عموماً في مجال الصناعات التحويلية والتجارة والسياحة والاتصالات والزراعة.
اعتبر بعض المراقبين أن دور الجيش المتزايد في الاقتصاد يمثّل تراجعاً جزئياً عن عملية تحرير الاقتصاد في عهد مبارك، وهم يزعمون أنه تجري الاستعاضة عن الشركات الخاصة الكبرى بتدخّل الجيش بصورة مباشر، الأمر الذي قد يكون صحيحاً إلى حدّ ما. لكن من غير المؤكّد أن النظام المدعوم من الجيش يستطيع الاستغناء عن الشركات الكبيرة تماماً، وفي المدى المتوسط والبعيد. وعلى الرغم من الاستحضار القوي للتجربة الناصرية التاريخية، والذي يستخدم لإضفاء الشرعية على صعود السلطوية المدعومة من الجيش في مصر، فإنه من المستبعد جداً أن يظهر تحالف توزيعي محوره الدولة شبيه بالتحالف الناصر. فزيادة النشاط الاقتصادي للجيش هي نتاج وقتيّ ومؤقّت لعدم رغبة القطاع الخاص في ضخّ الأموال في الاقتصاد في مثل هذه الأوقات المضطربة، أكثر منها انعكاساً لنيّته في أن يحلّ محلّ الشركات الكبيرة.
على الرغم من أن العاملين في القطاع العام هم الأكثر انضماماً إلى النقابات والأفضل تنظيماً، فإن القوى العاملة الأكثر شباباً والأكبر حجماً في مصر موجودة في القطاع الخاص. ونظراً إلى اعتماد البلاد على العمالة الرخيصة لجذب الاستثمارات الأجنبية والحفاظ على القدرة التنافسية للصادرات، وبالنظر إلى الطابع المحافظ اجتماعياً للجيش، فمن المستبعد تماماً أن تعالج الدولة هموم العمالة في سياق محاولة لإقامة إطار لجماعات المصالح الجديدة أو إطار ناصري جديد تتعاون فيه الشركات والعمال والمجموعات التابعة للدولة لصياغة السياسة الاقتصادية. فضلاً عن ذلك، يقوّض تقديم تنازلات اقتصادية لعمال القطاع الخاص هدفَ الجيش تعزيز الانتعاش الاقتصادي الفوري، لأن ذلك سيستعدي قطاعات عريضة من الشركات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، التي تعتمد على توظيف العمالة الرخيصة غير المنظمة، والكثير من ملاك هذه الشركات يؤيّدون الجيش والسيسي في سياق السعي إلى تحقيق الاستقرار والعودة إلى العمل، ويعتبرون نشاط العمال عموماً دليلاً واضحاً رئيساً على الاضطرابات الاجتماعية منذ العام 2011. ولعلّ إحدى النتائج المحتملة لما يجري الآن هي إعادة رسم الخطوط الفاصلة بين أباطرة الأعمال من الرأسمالية الكبيرة من جانب، والجيش من جانب آخر، مايؤدّي إلى تقسيم جديد للعمل، ولاسيما في مايتعلّق بتخصيص الأراضي وتلقّي الاستثمارات الأجنبية.
وفي ضوء سعي السلطة الجديدة إلى تأكيد شرعيتها، فمن المرجّح أن تبحث عن خليط من الشعبوية إزاء موظفي الدولة والعاملين في القطاع العام، الذين ستزداد أجورهم باطّراد، مع ضغط أجور العاملين في القطاع الخاص الأقل تنظيماً والأقل انخراطاً في النقابات. إن هذا المزيج من الشعبوية المختارة أو المستهدفة من جهة، وتحرير الاقتصاد من جهة أخرى، ليس غريباً في البلدان النامية، والواقع أنه يميل إلى كونه القاعدة وليس الاستثناء.
لن يغامر الجيش بخسارة قاعدته من عمّال الدولة المستفيدين منها، حتى لو تمت ترجمة الحفاظ على هذه القاعدة إلى فاتورة أجور أكبر تغذّي عجز الموازنة والتضخم. ومع ذلك، تعتمد هذه المقاربة على قاعدة إنتاجية أقوى في القطاع الخاص، يمكنها أن تحقق إيرادات للدولة من خلال الضرائب المباشرة أو غير المباشرة. وهذا يمكن أن يتم، بدوره، على حساب قوة العمل الأوسع في القطاع الخاص. هذا الواقع يجبر نخب الدولة على إقامة شراكة مع رأس المال الخاص، مثلما كانت عليه الحال خلال العقد الأخير من حكم مبارك، وإن كانت تفاصيل هذه الشراكة قد تتغيّر.
تحالف اجتماعي محافظ من أجل نظام سلطوي صاعد
من المستبعد أن يحدث الانتعاش الاقتصادي من تلقاء نفسه إذ يجب أن يكون مصحوباً باستعادة شيء من الاستقرار السياسي، وهو الأمر الذي لايزال غير مؤكّد مع صعود السيسي إلى السلطة. وبدلاً من إحياء تحالف مبارك الإقصائي الذي لن يكون في صالح إدامة حكم السيسي، ستحتاج القيادة الجديدة إلى توسيع التحالف الرأسمالي الذي ورثته من عهد مبارك، من خلال تمكين مزيد من المنتجين وتحسين فرص الحصول على الأصول الإنتاجية، مثل الأراضي والقروض المصرفية والأسواق الأكثر تنافسية.
يعاني الاقتصاد المصري من متلازمة “الرأسمالية الوسيطة المفقودة”، وهي ظاهرة تفيد افتقار الاقتصاد المصري إلى وجود قطاع قوي من الشركات متوسطة الحجم، لأن الفرصة لم تُتَحْ للشركات الصغيرة كي تنمو وتصبح متوسطة الحجم. وفي المقابل، يتكوّن القطاع الخاص في مصر من حفنة من التكتّلات الكبيرة ومتعدّدة القطاعات المملوكة لعائلات في الأصل، وعدد كبير جداً من الشركات الصغيرة أو متناهية الصغر، التي غالباً ماتفتقر إلى رأس المال والأرض والمعلومات والأسواق اللازمة لتحقيق أي نمو يُذكَر.
إن تشكيل تحالف من الرأسمالية الصغيرة ومتوسطة الحجم القادرة على النمو وعلى التنافس داخلياً وخارجياً، يحتاج إلى أكثر من مجرّد إسناد الأعمال للشركات الصغيرة عن طريق التعاقد من الباطن. إذ أن هدفاً كهذا يتطلّب إجراء إصلاحات مؤسّسية عميقة وبعيدة المدى، وأخرى تتعلّق بسياسات تضمن بيئة عمل أفضل بشكل عام ونفاذاً أكثر إنصافاً إلى الأصول والأسواق. ومن المرجح أن ينضمّ إلى هذا التحالف الرأسمالي الموسّع، في حال نجاح تشكلّه، المستفيدون الحاليون من عمليات التحرير الاقتصادي، وعلى رأسهم شرائح الطبقة المتوسطة التي استفادت من ازدياد عولمة الاقتصاد المصري منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي.
ثمّة دلائل على أن لدى النظام الصاعد خططاً (أو نوايا على الأقلّ) لتوسيع قاعدة المستفيدين منه اقتصادياً. وقد تكون حزم التحفيز المموَّلة من دول الخليج وسيلة جيدة لإقامة نوع من التعايش السياسي والاقتصادي بين المؤسّسة العسكرية والقاعدة الأوسع من رأس المال الصغير والمتوسط الحجم، وهي نفسها الدوائر الأساسية للاستقرار.
هذا ماجرى في تركيا بعد انقلاب العام 1980، ولو في سياق مختلف كثيراً عمّا يجري في مصر. فبعد أن أعاد الجيش تشكيل النظام السياسي والاقتصادي للبلاد، تمكّن حزب يمين الوسط الصاعد بزعامة تورغوت أوزال، الذي شغل منصب رئيس الوزراء في الفترة 1983-1989 ومنصب الرئيس في الفترة 1989-1993، من إقامة تحالف محافظ واسع شمَلَ رؤوس الأموال الكبيرة والصغيرة، إضافة إلى شرائح كبيرة من الطبقات الوسطى، على الرغم من أن سياساته هذه استَعْدَت بقوة العمال والريف بصورة عامة. وقد ساعد هذا التحالف أوزال على إدامة حكمه لمدة عشر سنوات تقريباً.
ولعل العنصر الأهم في إنشاء تحالف أوسع هو تحديد نوع التمثيل السياسي الذي سيتمتّع به مَن سيكونون حلفاء قريباً. ففي حالة تقديم التعديلات المؤسّسية المطلوبة لإنشاء مثل هذا التحالف، فإن كيفية تمثيل رؤوس الأموال الصغيرة والمتوسطة لاتزال مسألة مفتوحة متوقّفة على هامش الحريات السياسية، الذي سيسمح به النظام الجديد والقنوات المؤسّسية التي سيتم تجميع وتمثيل المصالح من خلالها. فقد جرت حالات من التحالفات الاجتماعية ذات التوجّهات اليسارية، مثل حزب العمال الحاكم في البرازيل، أو ذات التوجّهات اليمينية، مثل حزب أوزال في تركيا، في أنظمة سياسية منفتحة نسبياً.
حتى الآن، لايبدو واضحاً ما إذا كان السيسي سيرتبط بأنصاره من خلال صناديق الاقتراع فقط، أو من خلال أشكال أخرى من التمثيل، مثل حزب سياسي مهيمن يتعاون معه في البرلمان. ولايزال من غير الواضح ما إذا كان السيسي يخطّط لإحياء دور اتحاد الصناعات المصرية والاتحاد العام للغرف التجارية المصرية، كوسيط بين الدولة وأصحاب رؤوس الأموال الصغيرة والمتوسطة في القطاعَين الصناعي والتجاري.
طريق غير ممهّد نحو المستقبل
تواجه مصر، منذ العام 2011، واحدة من أخطر الأزمات الاجتماعية والسياسية في تاريخها الحديث، إن لم تكن أخطرها على الإطلاق. وقد بيّنت الفترة الانتقالية أن إقامة سلطة سياسية شرعية فاعلة بعد الثورة مهمّة في غاية الصعوبة.
بيد أن هذا لايعني أن مصر ستشهد حالة من الفوضى المزمنة أو أن جميع أنواع السلطة السياسية محكومة بالفشل الحتمي فالسيسي لديه فرصة في إنجاح نظامه من خلال تشكيل تحالف اجتماعي جديد لنظام مابعد مبارك، مع أن هذه لن تكون بأي حال من الأحوال مهمّة سهلة لرئيس مصر في المستقبل.
بادئ ذي بدء، تتطلّب إقامة مثل هذا التحالف إعادة النظر، إن لم يكن القيام بتفكيك جزئي لشبكات المحسوبية الموروثة من التحوّل إلى رأسمالية المحاسيب في عهد مبارك. والواقع أن في وسع الجيش التحرّك ضد بعض المصالح من عهد مبارك، ولكن فقط إلى الحدّ الذي لايعرقل الجهود المحمومة لتحقيق الانتعاش الاقتصادي، والتي ستعتمد بشكل كبير في المدى المتوسط والبعيد على الشبكات نفسها التي تحتاج إلى تفكيك في سياق أي محاولة جادّة لتوسيع التحالف الحاكم. وهو مايؤلّد تناقضاً جوهرياً سيكون على السيسي ومَن معه التصدّي له.
وبطبيعة الحال، قد يمتلك السيسي القدرة على التفاوض مع أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، وأن يطالبهم بتقديم تنازلات اقتصادية واجتماعية في مقابل تحقيق الاستقرار والتهدئة في البلاد. وتتطّلب هذه المقاربة، إذ تحقّقت، إعادة النظر في مساهمات الشركات الكبيرة في عائدات الدولة عبر الضرائب، وكذلك وقف العديد من الممارسات المانعة للمنافسة التي تزاحم رؤوس الأموال المتوسطة والصغيرة.
تعتمد قدرة سيسي على توسيع التحالف الاجتماعي الذي يجب أن يقوم عليه حكمه على مدى استعداده، وقدرته على إقناع أو إجبار مؤيّديه على تقديم تنازلات اقتصادية واجتماعية.
ويكمن مصدر الصعوبة الآخر في أن إعادة تنظيم عملية الحصول على الأصول تتطلّب إعادة تقييم دور الجيش في الاقتصاد، خصوصاً في مايتعلّق بتخصيص الأراضي ومزاحمة القطاع الخاص في بعض الأنشطة. وبعبارة أخرى، تعتمد قدرة سيسي على توسيع التحالف الاجتماعي الذي يجب أن يقوم عليه حكمه على مدى استعداده، وقدرته على إقناع أو إجبار مؤيّديه على تقديم تنازلات اقتصادية واجتماعية. وهو أمر ينطوي على الكثير من التناقضات التي يستحيل حلّها ما لم يكن لدى النخب الحاكمة شعور بالخطر الجسيم وقناعة بضرورة التخلّي عن شيء ما في مقابل استمرار هيمنتها.
ويبقى أن ننتظر لنرى ما إذا كانت النخب الجديدة في مصر على استعداد لتقديم هذه التنازلات اللازمة لبناء شرعية السلطة الجديدة. وفي المحصّلة، ليس الأمر جديداً على القوى المحافظة، بل وفي بعض الأحيان المعادية للثورة، أن تلبّي بعض المطالب الثورية على الأقلّ بغية درء مخاطر تجدد الاضطراب والتعرّض إلى ثورة أشدّ جذرية وشمولاً.
قد توفّر الأزمة الاجتماعية والسياسية العميقة والمستمرة في مصر الحافز والبيئة اللازمَين للسيسي لتوسيع قاعدة دعمه الاقتصادية. ومع ذلك، فإن حقيقة أن مصر في حاجة ماسة إلى هذه الإصلاحات، لاتعني بالضرورة أنه سيتم تنفيذ هذه الإصلاحات أو سيكتب النجاح لإجرائها، خصوصاً أن حكام مصر المتعاقبين فشلوا في إنجاز هذه المهمّة منذ عهد السادات ومبارك.
هوامش
1 الأرقام مقتبسة من صحيفة “اليوم السابع”. “في عيد العمال: 2782 احتجاجاً في الثلاثة أشهر الأولى لعام 2013″، 1 أيار/مايو 2013.
www.youm7.com/News.asp?NewsID=1044586&#.U2vUg_ldXmt
2 Central Bank of Egypt, “Time Series,” available atwww.cbe.org.eg/English/Economic+Research/Time+Series
3 المصدر السابق.
4 المصدر السابق.
5 المصدر السابق.
6 المصدر السابق.
7 المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، “دعم الطاقة في الموازنة المصرية: نموذج للظلم الاجتماعي”، 2011.
http://eipr.org/pressrelease/2012/01/30/135
8 غييرمو أودونيل هو أول مَن صاغ مفهوم السلطوية البيروقراطية لوصف سلسلة من الدكتاتوريات العسكرية القمعية العنيفة في الجزء الجنوبي من أميركا اللاتينية، التي وصلت إلى السلطة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. وتميل أطروحة أودونيل إلى شرح انفراط عقد تحالفات التوزيع السابقة التي شملت العمال والصناعيين من ذوي التوجّه الداخلي لصالح إطار اقتصادي أكثر تحرراً وأكثر اندماجاً في الاقتصاد العالمي. أنظر:
Guillermo O’Donnell, Modernization and Bureaucratic-Authoritarianism: Studies in South American Politics (Berkeley, Calif.: University of California, Institute of International Studies, 1973).
9 وزارة التعاون الدولي، “الاقتصاد المصري في نصف عام: التحديات والخطوات التي تحققت والرؤية المستقبلية”. 2013، ص 7-8.
www.slideshare.net/MOICEgypt/ss-30080304
10 المصدر نفسه، ص 9.
11 “آبار للاستثمار” هي أكبر مساهم في أرابتك ومملوكة بالكامل لصندوق أبو ظبي السيادي “شركة الاستثمارات البترولية الدولية”.