احمد امين بيضون
إذا ما ألقينا نظرة سريعة على الأوضاع المعيشية في لبنان، فإننا سنخلص فوراً الى ان اللبنانيين ـ باستثناء طبقة الأغنياء والأثرياء ـ يواجهون بمعظمهم ظروفاً يغلب عليها طابع القسوة والعوز. ومن الطبيعي جداً ان تكون في مقدمتهم الغالبية الساحقة من المستأجرين القدامى، باعتبارها غالبية متشكلة من الفقراء وأصحاب الدخل المحدود المنخفض والمتوسط. وإذا ما اضفنا «الارتفاع المفتعل» لأسعار المساكن خلال السنوات الفائتة الذي حدث في ظل غياب الضوابط القانونية، مروراً بالحالات اللاأخلاقية، وصولاً الى غياب السياسات الإسكانية، فإن الصورة السكنية المقلقة والمحرجة جداً لهؤلاء المستأجرين تصبح أمامنا أكثر وضوحاً.
كما اننا نجد في المقابل، في ظل هذه الأحوال ايضاً، أن وضع معظم اصحاب إيجارات المساكن القديمة، هو ليس أحسن حالاً من وضع المستأجرين القدامى. فالجميع ضحية تآكل قيمة النقد والفساد والإفساد، وغياب المعالجات الحقيقية للأزمات والمشاكل المعيشية والحياتية للمواطنين، والتي كانت بالطبع إحدى ابرز نتائجها مشكلة الإيجارات، التي تحولت في التفصيل من إشكالات إفرادية كما كانت عليه في العقود الخامس والسادس والسابع والثامن من القرن الماضي، الى مشكلة اجتماعية وطنية كبرى.
مشروع ظالم بحق المجتمع
لكن وقبل كل شيء، لا بدّ من التوقف ولو للحظة واحدة امام قانون الإيجارات الصادر عن مجلس النواب لنستنتج من خلال دراسته أنه منافٍ لكل مقاييس العدالة الاجتماعية والانسانية باعتباره مشروعاً ظالماً بحق المجتمع اللبناني عموماً والمستأجرين القدامى خصوصاً للأسباب التالية:
1- إن جوهر هذا القانون يشكل نقيضاً حاداً لمضامين فلسفة حق السكن كحق مقدس أقرته مختلف الشرائع الدينية والمواثيق الدولية والدساتير المحلية.
2- ان نسب الزيادات على بدلات الايجارات الحالية على أساس البدل الرائج، كما هو وارد في القانون المطروح، هي نسب عالية جداً وقد بات معروفاً انها ستجعل من بدلات الإيجارات في السنوات الست التالية، بدلات عالية جداً قد تزيد حتى عن البدلات الرائجة في حينه.
3- إن هذه الزيادات سيستحيل معها على معظم المستأجرين القدامى، وهم من كبار السن، دفع ما سيترتب عليهم من بدلات إيجار، مما يعني طردهم بطريقة التفافية وبالقوة من بيوتهم. ولأنهم لا يملكون بيوتاً يلجأون اليها، وهم في الوقت عينه غير قادرين على استئجار شقق بديلة، فإنهم سيواجهون اوضاعاً تشريدية كارثية.
4- ان هذا القانون سيعرض النسيج الاجتماعي اللبناني لانتكاسة كبرى ستكون بدون شك تكملة لانتكاسة تعرض لها هذا النسيج خلال الحروب الميليشياوية بعد تهجير الناس من بيوتهم.
5- هناك الكثير من التفاصيل الاخرى الاجتماعية والانسانية التي ستترتب على صدور هذا القانون، منها على سبيل المثال لا الحصر، الاختلالات والانهيارات النفسية والعصبية والصحية التي ستصيب هؤلاء المستأجرين بعد طردهم من بيوتهم، والتي قد تؤدي الى حصول جرائم جنائية.
6- إن قرار إنشاء صندوق مالي لمساعدة المستأجرين الفقراء ينطوي على الكثير من الشوائب والقفز في المجهول مع توسيع مؤكد لدوائر الهدر والفساد.
الظروف المعقدة الداكنة السواد
من هذا المنظور، بإمكاننا القول إن أي معالجة جدية لمشكلة الإيجارات على قاعدة معايير العدالة، لا بد من ان تأخذ بعين الاعتبار مختلف الاحوال المعيشية خاصة الإسكانية القاسية، فضلاً عن الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية المعقدة الداكنة السواد، التي يواجهها الناس في لبنان. لهذا لا يمكن التعامل مع هذه المشكلة المزمنة جداً إلا ضمن رؤى واسعة وعميقة من خلال خطة مُحْكَمَةٍ تشكل خطاً ناظماً تصاعدياً بالمعنى التدرجي، تزاد في سياقها قيمة بدلات الإيجارات، وتحرر بمقتضاها سنوياً آلاف المساكن، بما يجعل مشكلة الايجارات تتلاشى شيئاً فشيئاً، الى ان تنتهي هذه المشكلة كلياً في مدة أقصاها العقود الثلاثة المقبلة.
علماً اننا نطرح رؤيتنا لمعالجة هذه المشكلة بالتأسيس على ما سبق للمؤجرين ان أعلنوا عنه مراراً وتكراراً من انهم لا يريدون رمي المستأجرين على ارصفة الشوارع، إنما يرفضون توريث أملاكهم لأبناء المستأجرين، وانهم يريدون بدلات إيجارات عادلة (راجع تصريحات جورج ربحيه رئيس تجمع المالكين القدامى)، وبالتأسيس ايضاً على ما يعلنه يومياً المستأجرون (عددهم لا يقل عن 180 ألف أسرة وفق دراسة الإحصاء المركزي) من انهم ليسوا بمحتلين او مصادرين لأملاك الغير، انما يرفضون طردهم من مساكنهم وسلخهم عن بيئتهم السكنية ونسيجهم الاجتماعي وتشريدهم على الطرق، وان مداخيلهم المالية لا تسمح لهم بدفع كل ما يطالب به المؤجرون من بدلات عالية لإيجاراتهم، او كما يسميه بعض النواب بـ«البدل المثل».
المعالجة المتدرجة للمشكلة
على أساس كل ما تقدم نرى أن المعالجة المتدرجة لهذه المشكلة، بإمكاننا مقاربتها من خلال ما يلي:
أولاً: على صعيد زيادة بدلات الإيجارات
1- زيادة بدلات إيجارات الشقق المستعملة للسكن على امتداد خمس عشرة سنة تبدأ فور صدور القانون. على ان يزاد بدل الايجار 100 في المئة في كل سنة من السنوات الخمس الاولى. و50 في المئة في كل سنة من السنوات العشر التي تلي السنوات الخمس السابقة. على ان تحسب جميع نسب الزيادات السنوية طيلة الخمسة عشر عاماً على اساس قيمة بدل عقد الايجار التي كان يدفعها المستأجر بتاريخ اصدار القانون. اي ان الذي يدفع حالياً إيجاراً سنوياً مليون ليرة لبنانية (/84.000/ ليرة لبنانية شهرياً) يصبح ايجاره السنوي بعد خمسة عشر عاماً /11.000.000/ ليرة. وبذلك يصبح ايجار الشهر الواحد (916.000 ليرة).
2- تزاد بدلات إيجارات الشقق السكنية المستعملة لأغراض غير سكنية 100 في المئة سنويا خلال الخمسة عشر عاماً المقبلة، اي ان الذي يدفع بدل ايجار مليون ليرة لبنانية سنوياً ( /83.000/ ليرة لبنانية شهرياً) يصبح بعد خمسة عشر عاماً ستة عشر مليون ليرة لبنانية اي ما يوازي (/1.333.000/ ليرة لبنانية شهرياًً).
3- تبقى قيمة بدلات الايجارات خاضعة لزيادات مؤشر غلاءات المعيشة التي تقررها الدولة خلال هذه المدة. وتحتسب على اساس قيمة بدل الايجار التي يدفعها المستأجر في السنة التي يصدر فيها قانون غلاء المعيشة.
4 – بعد مرور خمسة عشر عاماً يُعاد النظر ببدلات إيجارات المساكن المؤجرة إذا اقتضى الامر.
ثانياً: الاسترداد
1- يُلغى حق توريث عقود إيجار المساكن، ويبقى محصوراً فقط بأحد الزوجين والاولاد المعوقين والذكور العزب الذين لا يعملون و ما زالوا يتعلّمون في المدارس والجامعات ولم تتجاوز أعمارهم الواحد والعشرين عاماً. وكذلك بالبنات اللواتي لم يتزوجن ولا يعملن.
2- يحق للمؤجر أن يستردّ مأجوره بعد مرور سنتين على صدور قانون الإيجارات الجديد إذا كان المستأجر بتاريخ صدور هذا القانون يملك مسكناً هو او احد افراد عائلته، ضمن مسافة لا تزيد عن 25 كلم عن مأجوره. يستخدم لقياس المسافة عداد السيارة والطريق الأقرب.
3- يحق للمالك ان يسترد مأجوره بعد مرور سنتين على صدور القانون، اذا كان المستأجر مقيماً في الخارج مع افراد اسرته منذ اكثرمن خمس سنوات. كما يحق له استرداده اذا انقطع المستأجر عن إشغال مأجوره لفترة تزيد عن ستة اشهر.
4- يحق للمؤجر أن يستردّ مأجوره إذا توقف المستأجر لأي سبب كان عن مزاولة مهنته شخصياً في مأجوره (طبيب، مهندس، محام، كاتب عدل، مختبر، اعمال تجارية… الخ).
5- يحق للمؤجر أن يستردّ مأجوره إذا خالف المستأجر أحكام عقد الإيجار، والاحكام التي ينص عليها القانون العام.
6- يحق للمالك استرداد المأجور بعد مرور ثلاث سنوات على صدور هذا القانون، إذا فضّل المستأجر عدم دفع الزيادات المقترحة مع الإبقاء على بدل إيجاره الحالي مقابل تركه المأجور بعد ثلاث سنوات.
7- يحقّ للمؤجر استرداد مأجوره مقابل دفعه بدل إخلاء لا تقل قيمته عن 50% من قيمة المأجور في حالة الاسترداد للضرورات العائلية و55% للضرورات العائلية بغية التوسع أفقياً او عمودياً وما لا يقلّ عن 60% من ثمن المأجور اذا كانت غاية الاسترداد ضمّ المأجور الى مؤسسة عامة او خاصة او من أجل الهدم وإقامة بناء جديد.
8- إذا كان المستأجر قد دفع بدل خلوّ قبل إشغاله المأجور للمالك، يحق له استرجاع هذه القيمة مع الأخذ بعين الاعتبار قدرته الشرائية إضافة الى بدل الخلو المدفوع من المالك اذا قرر هذا الأخير استرداد المأجور.
9- يحق للمالك الحصول على قرض سكني من المؤسسة العامة للإسكان او من مصرف الإسكان او المصارف التجارية بفوائد مدعومة لدفع بدل الخلو للمستأجر. كما يحق للمستأجر الحصول على قرض إسكاني لشراء مسكن بديل.
10- يتم بقرار من وزير العدل وموافقة مجلس الوزراء إنشاء محاكم خاصة من ثلاثة قضاة على الأقل للفصل بين المتنازعين من المؤجرين والمستأجرين.
ان الأخذ بهذه الاقتراحات يعني تلاقي المؤجرين والمستأجرين عند منتصف الطريق. هذا فضلاً عن أن العمل بموجبها من شأنه تحرير جميع عقود الإيجارات في سياق زمني محدود، حيث تحرر سنوياً آلاف المساكن، وبذلك تحلّ المشكلة كلياً خلال مدة قد لا تزيد عن ثلاثة عقود من الزمن، وعلى هذا الاساس، نكون قد حمينا حق المستأجر بالسكن الملائم وحق المؤجر بملكه على السواء.