جويل بينين
سعى العمال طويلاً إلى إحداث تغيير في النظام المصري، غير أن الحركة العمالية المستقلّة لم تجد صوتها على الصعيد الوطني إلا في الآونة الأخيرة. وقد احتكر الاتحاد العام لنقابات عمّال مصر تمثيل العمّال، بوصفه التنظيم النقابي الشرعي الوحيد في مصر وذراع الدولة منذ مايقرب من ستين عاماً. ومع أن مهمّته تتمثّل في السيطرة على العمال، بقدر تمثيلهم، لم يتمكّن الاتحاد من منع الانشقاقات العمالية المتشدّدة التي تصاعدت منذ أواخر التسعينيات. كان العمال، إلى حدّ بعيد، أكبر مكوّنات ثقافة الاحتجاج المزدهرة في العقد الماضي، والتي قوّضت في خاتمة المطاف شرعيّة نظام مبارك.
كان العمال عموماً مهتمين أساساً بالقضايا الاقتصادية التي برزت عندما قامت مصر بتسريع عمليّة خصخصة المؤسّسات العامة. وحتى العام 2010، لم تشجّع التحوّل الديمقراطي كهدف استراتيجي سوى أقليّة صغيرة من العمال الناشطين. لم تكن الحركة العمالية المستقلّة، التي تسعى عادة إلى استرضاء النظام بدل تحدّيه علناً، مستعدّة للإمساك بزمام المبادرة عندما اجتاحت الاضطرابات العالم العربي في كانون الثاني/يناير 2011. كما لم تكن لدى الحركة قيادة معترف بها وطنياً، وهي لم تتوافر سوى على القليل من الموارد التنظيمية أو المالية وعلى دعم دولي محدود، فضلاً عن أنه لم يكن لديها برنامج سياسي، بل فقط برنامج الحدّ الأدنى الاقتصادي.
مع ذلك، سارع العمال إلى التعبئة في المراحل الأولى من الموجة التي أطاحت حسني مبارك في نهاية المطاف، وهم يستحقون قدراً من الثناء والتقدير لدورهم في إطاحته أكبر مما ينالون عادة. فقد كسر العمال، بعد وقت قصير من اندلاع الانتفاضة، الاحتكار القانوني لاتحاد العمال للتنظيم النقابي وشكّلوا الاتحاد المصري للنقابات المستقلة، وهي أول مؤسّسة جديدة تخرج من رحم الثورة. ثم تواصلت عملية تعبئة العمال بمستويات غير مسبوقة خلال العام 2011 وأوائل العام 2012، وأسّس العمال مئات النقابات الجديدة المستقلّة على مستوى المؤسسات. كما ضمنوا الحصول على أجر أعلى بكثير من الحدّ الأدنى.
مع ذلك، ومع أن الحركة العمالية حققت تقدّماّ، لاتزال ثمة مشاكل. إذ تواجه النقابات الجديدة صعوبات في التمويل، والحركة العمالية المستقلّة منقسمة داخلياً. وقد أثبت المجلس الأعلى للقوات المسلحة – الذي يملك السلطة المطلقة في مصر منذ إطاحة مبارك – والاتحاد العام لنقابات العمال، مراراً وتكراراً قدرتهما على منافسة النقابات المستقلة، وسجّلا بعض النجاحات. ثم أن حضور الحركة محدود جداً في المؤسّسات الناشئة في دولة مابعد مبارك، وبالتالي فهي لاتملك الكثير من النفوذ لصدّ هجمات خصومها السياسيين.
لكي تمضي قدماً، يتعيَّن على الحركة العمالية المستقلة التطلُّع إلى ما يتجاوز الاحتجاجات في الشارع بشأن الشكاوى الآنية حيث حقّقت هي أكبر نجاحاتها، والبدء في تدريب قيادات على مستوى مؤسسي، وإبرام تحالفات سياسية مع الشرائح المتعاطفة معها من المثقفين. وعلى أي حال، تبقى النقابات المستقلّة أقوى قوة منظّمة على المستوى الوطني لمواجهة النزعات الاستبدادية للنظام القديم. وإذا ماكان في وسعها ترسيخ وتوسيع مكاسبها، فيمكن أن تكون قوة مهمّة تقود مصر نحو مستقبل أكثر ديمقراطية.
العمال يجدون صوتهم
لعب العمال المصريون دوراً مهمّاً في إسقاط نظام حسني مبارك، مع أنهم لم يتصدّروا العناوين الرئيسة للصحف. لم يكن حضورهم كبيراً في تظاهرات كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير 2011 الحاشدة وحسب، بل كانوا أيضاً حاضرين في الإضرابات التي تصاعدت بعد العام 1998، ولعبوا دوراً كبيراً في نزع شرعيّة النظام، وتعميم ثقافة الاحتجاج.
منذ رحيل مبارك، كسر العمال قبضة اتحاد عمال مصر المُهيمن منذ فترة طويلة على تنظيم العمل، والذي تسيطر عليه الدولة، وبدأوا في تشكيل نقابات واتحادات جديدة ديمقراطية ومستقلة. واستمرت الإضرابات والتحركات الجماعية الأخرى طوال العامين 2011 و2012 بوتائرغير مسبوقة.
ومع ذلك، حاولت قوى الجيش وعناصر نظام مبارك السابق المتخندقة، وبقدر من النجاح، الحفاظ على سلطتها، وإلغاء مكاسب النقابات العمالية المستقلة، ومنع دخول قوى جديدة وغير متوقّعة إلى الساحة السياسية. وتناضل الحركة العمالية الديمقراطية الآن لتشكيل جبهة موحّدة، لكنها منقسمة في الواقع. وعلى الرغم من دورهم في إسقاط مبارك، لم يُمثَّل العمال ومصالحهم بشكل جيد في أول برلمان في مصر مابعد مبارك (جرى حلّه في وقت لاحق)، كما أنهم لم يشكّلوا عاملاً واضح المعالم في الانتخابات الرئاسية في العام 2012.
الحركة العمالية في ظلّ مبارك
منذ إنشائه في العام 1957، كان الاتحاد العام لنقابات عمال مصر التنظيم النقابي القانوني الوحيد في مصر، وحظي بوضع رسمي بموجب القانون 35 لسنة 1976. كان الاتحاد أيضاً أداة في يد الدولة، على الرغم من التغييرات الجذريّة التي شهدتها السياسة الاقتصادية والاجتماعية منذ خمسينيات القرن الماضي. في العقد الماضي، ادّعى اتحاد العمال مصر أن عدد أعضائه يصل إلى 3.8 مليون من أصل قوة عاملة تتألف من حوالى 27 مليوناً. ويعمل جميع أعضاء الاتحاد تقريباً في القطاعين الحكومي أو العام، حيث يستند هيكل الاتحاد على هيمنة القطاع العام التي نشأت في عهد الرئيس جمال عبد الناصر (1954-1970).
تمثّلت مهمّة اتحاد عمال مصر في السيطرة على العمال، بقدر تمثيلهم. لكنه لم يتمكّن من منع تعبئة العمال المتشدّدين في أواخر عهد مبارك. ومن العام 1998 وحتى العام 2010، شارك مايزيد على مليونين وربّما 4 ملايين عامل مصري في نحو 3400 إلى 4000 إضراب ونشاطات جماعية أخرى.1 ولعبت تلك الاحتجاجات دوراً كبيراً في نزع الشرعية عن النظام في أعين كثير من المصريين، قبل فترة طويلة من التظاهرات الحاشدة التي أدّت إلى إطاحة حسني مبارك في شباط/فبراير 2011.
كانت مظالم العمال تتجسّد في معارضتهم لحملة خصخصة مؤسسات القطاع العام، والتي بدأت مع إعلان الرئيس أنور السادات عن سياسة “الباب المفتوح” الاقتصادية في العام 1974. ومنذ ذلك الحين، شرعت الحكومات المصرية المتعاقبة، على مضض وبتردّد في البداية، في إعادة هيكلة الاقتصاد وفقاً لنموذج “إجماع واشنطن” الاقتصادي الذي دعا إليه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والحكومة الأميركية. وفي حزيران/يونيو 1991، وقّعت حكومة الرئيس المصري حسني مبارك اتفاقات “برنامج إعادة الهيكلة الاقتصادية والتكيّف الهيكلي” مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، حيث وضع القانون 203 لسنة 1991 إطار خصخصة 314 من المؤسّسات العامة.
بعد أن قاومت، أو راوغت، قيادة اتحاد عمال مصر مقترحات توسيع القطاع الخاص على حساب القطاع العام لمدة عشر سنوات ونصف السنة، وافقت في خاتمة المطاف على “برنامج إعادة الهيكلة الاقتصادية والتكيّف الهيكلي” والقانون 203.2 وبالمثل، قاوم الاتحاد (لكنه أذعن في نهاية المطاف أيضاً) سنّ قانون العمل الموحّد للعام 2003. وقد غيّرت فقرة اشتراطية مهمّة في القانون، وبصورة جذريّة، الممارسة السائدة بمنح العمال وظائف دائمة بعد فترة تجريبية، من خلال السماح لأرباب العمل بتشغيل العمال لأجل غير مسمّى بعقود “مؤقتة” محدّدة الأجل، وفصلهم من وظائفهم عند إنهاء تلك العقود وفقاً لتقديرهم.
اعتُبرِت هذه “المرونة” في سوق العمل ضرورية لجذب الاستثمار الأجنبي، لكنها قضت على الأمن الوظيفي الذي كان العمال يحظون به عهد عبد الناصر. وبما أن عدد الوظائف الجديدة في القطاع الخاص كان أقلّ بكثير من عدد الداخلين الجدد إلى سوق العمل، وبما أن الأمن الوظيفي في القطاع العام ألغي، فقد أصبحت هذه مسألة خلاف متكرّر ومرير في بعض الأحيان.
نجحت قيادة اتحاد عمال مصر في إدخال بنود في القانون الجديد تحظر عمليات الفصل الجماعية بعد خصخصة إحدى الشركات في القطاع العام، وفي توفير تعويضات للعمال المتضرّرين من الخصخصة. غير أنه جرى تنفيذ هذه الجوانب من القوانين بشكل ضعيف.3
لم يعترض اتحاد عمال مصر علناً على تنصيب ما أصبحت تُعرَف باسم “حكومة رجال الأعمال” في تموز/يوليو 2004 بقيادة رئيس الوزراء أحمد نظيف. كانت مهمّة نظيف تسريع وتيرة التحوّل الليبرالي الجديد للاقتصاد وبيع القطاع العام، وقد نجح في ذلك. وأشاد البنك الدولي بحماس بجهود مصر في “الإصلاح” الاقتصادي وصنّفها مراراً بأنها من بين أبرز عشرة “مصلحين تقدّماً”.4
لكن، مع أن القيادات البارزة في اتحاد عمال مصر أذعنت إلى التحوّل الاقتصادي، إلا أن الكثير من قواعد الاتحاد لم تفعل ذلك. وقد تصاعدت وتيرة التحرّك المثير للجدل بعد تولّي حكومة نظيف السلطة مباشرة. ويشير أعلى تقدير لعدد الاحتجاجات العمالية من 1988 إلى 1993 إلى الرقم 162، أي بمتوسط 27 احتجاجاً في السنة.5 ومن 1998 إلى 2003، ارتفع المتوسط السنوي للإجراءات الجماعية ليصل إلى 118. لكن في العام 2004 كان هناك 265 تحرّكاً جماعياً، وقع مايزيد على 70 في المئة منها بعد تولّي حكومة نظيف السلطة في تموز/يوليو. تركّزت الحركة في البداية في صناعة النسيج، التي كانت هدفاً للخصخصة، لكن بحلول العام 2007 شملت الحركة تقريباً كل مجالات الصناعة والخدمات العامة والنقل وموظفي الخدمة المدنية والمهنيين.
على الرغم من تصاعد الاحتجاجات التي لم يكن في وسع اتحاد عمال مصر السيطرة عليها، ظلّ هذا الأخير الممثل الاسمي المهيمن على العمل المنظّم. وعشيّة سقوط الرئيس حسني مبارك في 11 شباط/فبراير 2011، كانت هناك ثلاث فقط من النقابات المستقلة لم تخضع إلى سيطرة النظام المباشرة. النقابة العامة المستقلّة لعمال الضرائب العقارية هي الأكبر والأكثر نفوذاً إلى الآن، والتي تمثّل الموظفين الذين تستخدمهم السلطات المحلية. والحركة التي أدّت إلى تشكيل نقابة مستقلّة في خريف العام 2007، بدأت عندما شكّل موظفو سلطة الضرائب العقارية لجنة وطنية للإضراب بقيادة كمال أبو عيطة لقيادة حملة منسّقة لدعم مطالبهم من أجل المساواة في الأجور مع موظفي الضرائب الذين توظفهم وزارة المالية بشكل مباشر، الذين كانت رواتبهم أعلى بكثير. ونشأ التفاوت بسبب عملية إعادة تنظيم بيروقراطية جرت قبل سنوات عدة، ما أدّى إلى وجود مجموعة من الكَتَبة الذين يتقاضون أجوراً زهيدة ممّن تستخدمهم السلطات المحلية بموارد أقلّ من الحكومة المركزية.
بلغت الحملة ذروتها في احتلال الشارع مدة 11 يوماً أمام مقر مجلس الوزراء في وسط القاهرة. وصمّم نحو 8000 من العمال وأسرهم على البقاء حتى الموافقة على طلب المساواة في الأجور. والمفاجئ أن وزير المالية يوسف بطرس غالي استسلم، وحصل عمال مصلحة الضرائب العقارية على زيادة في الأجور بنسبة 325 في المئة.
بناءً على قوة دفع هذا الإنجاز، أمضت لجنة الإضراب العام التالي في تنظيم نقابة مستقلّة. وبحلول أيلول/ديسمبر 2008، انضم أكثر من 30000 من حوالى 50000 من الموظفين الذين تستخدمهم السلطات المحلية في جميع أنحاء مصر إلى النقابة الجديدة. واعترفت وزارة القوى العاملة والهجرة (أي العمل) بشكل غير متوقّع (وفي الواقع، غير قانوني) بالنقابة الجديدة في نيسان/أبريل 2009 وهي أول نقابة مستقلّة عن النظام خلال أكثر من نصف قرن. كما تأسّست نقابتان مستقلّتان للفنيين في مجال الرعاية الصحية والمعلمين قبل نهاية العام 2010.
المطالب الاقتصادية والسياسية
أصبح العمال إلى حدّ بعيد أكبر عناصر ثقافة الاحتجاج المزدهرة في العقد الأول من الألفية الثانية، والتي قوّضت شرعية نظام مبارك، مع أنهم حظوا باهتمام أقلّ بكثير من الحركات المؤيّدة للديمقراطية من الطبقة الوسطى مثل حركة كفاية. لكن حتى العام 2010، لم تشجّع سوى أقليّة صغيرة من العمال التحوّل الديمقراطي كهدف استراتيجي. إذ سعى العمال المضربون أو المحتجّون عادة إلى استمالة قوة النظام بدلاً من تحدّيها علناً، من خلال دعوة مبارك أو وزير في مجلس الوزراء لزيارتهم وسماع شكاواهم.
في حالات نادرة فقط، مثل إضراب 22000 عامل في شركة مصر للغزل والنسيج (المعروفة باسم غزل المحلّة)، في أيلول/سبتمبر 2007، رفع العمال مطالب سياسية واضحة. وخلال الإضراب، قال سيد حبيب، عضو لجنة الإضراب المُنتخبة، لإذاعة صوت أميركا: “نحن نتحدّى النظام” (28 أيلول/سبتمبر 2007). وقال عضو آخر في لجنة الإضراب، محمد العطار، في اجتماع حاشد للعمال: “السياسة وحقوق العمال لاينفصلان. العمل سياسة في حدّ ذاته،. مانشهده هنا الآن هو تحرُّك يتّسم بأكبر قدر ممكن من الديمقراطية.6
بناءً على هذا النجاح، دعت لجنة إضراب عمال غزل المحلة إلى إضراب في 6 نيسان/أبريل 2008، للمطالبة بوضع حدّ أدنى وطني شهري للأجر الأساسي بواقع 1200 جنيه مصري (حوالى 200 دولار، مايمثّل زيادة كبيرة عن المعدل السائد البالغ حوالى 23 دولاراً). لكن قوات الأمن أحبطت الإضراب من خلال مزيج من الاستقطاب والقمع العنيف، ورسم النظام خطاً أحمر في الربط بين المظالم المحلية وبين السياسات الوطنية، ونجح مؤقتاً في ذلك.7
مع هذا، استمرّ النضال من أجل أجر يفي بمتطلّبات العيش. كان خالد علي، المدير المؤسّس للمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الشخصية الرئيسة في ربط مطالب العمال الاقتصادية بالمطالب السياسية في نهاية عهد مبارك. ومَثُلَ ناجي رشاد، وهو عامل في مطحنة حبوب جنوب القاهرة، في دعوى قضائية ما أدّى إلى صدور حكم قضائي في آذار/مارس 2010 يطالب الحكومة بوضع حد أدنى “عادل” للأجور. واقترح المجلس الوطني للأجور زيادة الحدّ الأدنى للأجر الشهري الأساسي إلى 400 جنيه (حوالى 67 دولاراً). ومع أنها لم تكن كافية، فقد كان من شأنها أن تكون زيادة كبيرة لو أن الحكومة سنّت قانوناً بالاقتراح، إلا أنها لم تفعل.
في الأول من أيار/مايو، 2010، تجمّع مئات العمال ومناصروهم أمام البرلمان مطالبين الحكومة بتنفيذ الحكم القضائي ووضع حدّ أدنى للأجر الشهري الأساسي بواقع 1200 جنيه، وهو رقم راج منذ أن أُحبِط إضراب شركة غزل المحلّة العام 2008. وهتف العمّال: “إما وضع حد أدنى عادل للأجور، أو يعود أعضاء الحكومة إلى منازلهم”، و”يسقط مبارك وكل من يرفعون الأسعار”! وقال خالد علي للصحافة: “الحكومة تمثّل الزواج بين السلطة والمال، هذا الزواج يجب فك عراه… نحن ندعو إلى استقالة حكومة الدكتور أحمد نظيف لأنها تعمل فقط لمصلحة رجال الأعمال وتتجاهل العدالة الاجتماعية”.8
نتيجة لمزيج من القمع والقدرات المحدودة للشبكات المحلية التي مكّنت من تنظيم العمل الجماعي على مستوى أماكن العمل، لم تبرز المطالب السياسية الواضحة إلا بصورة عَرَضيّة في الفترة الممتدة بين العامين 2008 و2010. وأسفر هذا عن منع الحركة العمالية من تطوير قيادة وطنية أو برنامج سياسي. ولأن العمال لم يكونوا يثقون عادة بمثقفي المعارضة بوصفهم غرباء يسعون إلى فرض أجندتهم الخاصة، كان ثمّة روابط هشّة ومتقطّعة فقط بين هاتين القوتين. ولذلك، عندما ترك مبارك السلطة، لم يكن في وسع العمال تقديم قيادة سياسية للأمة، كما فعلت الحركة النقابية البولندية “تضامن” في العام 1989.
العمال وانتفاضة 2011 الشعبية
سارع العمال، على الرغم من عدم قدرتهم على أخذ زمام المبادرة، إلى تعبئة صفوفهم في المراحل الأولى من الموجة التي أطاحت في نهاية المطاف الرئيس حسني مبارك، وهم يستحقون من الثناء والتقدير لدورهم في إطاحته أكثر مما يحظون به عادة. ويتمثّل أحد الأحداث التي لم تحظ بالاهتمام في الانتفاضة الشعبية في تشكيل الاتحاد المصري للنقابات المستقلّة، أول مؤسّسة جديدة تخرج من رحم الثورة.
أُعلِن عن وجود الاتحاد في 30 كانون الثاني/يناير 2011، في مؤتمر صحافي عُقِد في ميدان التحرير بالقاهرة، بؤرة الحركة الشعبية لإسقاط مبارك. وبما أن تأسيس الاتحاد المصري للنقابات المستقلة كسر احتكار الاتحاد العام لنقابات عمال مصر القانوني للتنظيم النقابي، فقد كان عملاً ثورياً يُصبح فيه الخرق القانوني أساساً لشرعية جديدة.
أنشأت النقابة العامة المستقلة لعمال الضرائب العقارية والنقابات المستقلة لفنيي الرعاية الصحية والمعلمين، الاتحاد الجديد بدعم من مركز الخدمات النقابية والعمالية، وهي منظمة غير حكومية ذات قاعدة شعبية تركّز على قضايا العمل أنشئت في العام 1990. وانضمت إليهم نقابة المتقاعدين التي تم تأسيسها مؤخراً وتضم 8.5 مليون عضو وممثلو عمال النسيج والأدوية والصناعات الكيماوية والحديد والصلب والسيارات من المناطق الصناعية في القاهرة وحلوان والمحلة الكبرى ومدينة العاشر من رمضان ومدينة السادات .
شارك العديد من العمال في الانتفاضة الشعبية كأفراد، بعد أن سهّلت الحكومة عليهم ذلك، من خلال قيامها بإغلاق جميع أماكن العمل في مطلع شباط/فبراير. وفي 6 شباط/فبراير، عاد العمال إلى وظائفهم. وبعد يومين فقط، دعا الاتحاد المصري للنقابات المستقلة إلى إضراب عام يطالب حسني مبارك بالتنحي عن السلطة. استجاب عشرات الآلاف من العمال – بما في ذلك المستخدمون في أماكن العمل الكبيرة والاستراتيجية مثل هيئة النقل العام بالقاهرة، وهيئة السكك الحديدية، والشركات التابعة لهيئة قناة السويس، والشركة العامة للكهرباء، وغزل المحلة، إلى الدعوة، وشاركوا في حوالى 60 إضراباً واحتجاجاً في الأيام الأخيرة قبل سقوط مبارك في 11 شباط/فبراير. وكما أوضح خالد علي: “لم يبدأ العمال حركة 25 يناير لأنهم يفتقرون إلى هيكل منظّم… [لكن] اتّخذت واحدة من الخطوات المهمة لهذه الثورة عندما بدأوا في الاحتجاج، ما أعطى الثورة بُعداً اقتصادياً واجتماعياً إلى جانب المطالب السياسية”.9
وفقاً لمركز أولاد الأرض لحقوق الإنسان، كان الشلل الاقتصادي الناجم عن هذه الموجة من الإضرابات، “واحداً من أهم العوامل التي أدّت إلى تسريع قرار مبارك بالرحيل.10 وقد عمد المجلس العسكري إلى تنحية مبارك جانباً، في خطوة كانت بمثابة انقلاب عسكري ناعم بقدر ماكان ثورة. وهذا أرضى غالبية المتظاهرين، على الأقل خلال النصف الأول من العام 2011.
لكن العمال واصلوا الاحتجاج. فقد شارك ما لايقل عن 150 ألفاً منهم في 489 إضراباً وسوى ذلك من النشاطات خلال شباط/فبراير 2011. واستغل قادة الاتحاد المصري للنقابات المستقلة ونشطاء العمال هذا الزّخم للدفاع عن ديمقراطية حقيقية وليس مجرّد تغيير وجه النظام. وهكذا، اجتمع أربعون منهم في 19 شباط/فبراير، وتبنّوا إعلان “مطالب العمال في الثورة”، بما في ذلك الحق في تشكيل نقابات مستقلّة والحق في الإضراب، وحلّ الاتحاد العام لنقابات عمال مصر، “أحد أهم رموز الفساد في ظل النظام البائد”. وأكد المجتمعون، بما يعكس شعوراً واسعاً بين العمال والفقراء، أن:
“هذه الثورة إن لم تؤدِّ إلى توزيع عادل للثروة وإقامة عدالة اجتماعية.. فكأن شيئاً لم يكن.. إن الحريات السياسية لاتكتمل إلا بالحريات الاجتماعية.. حيث أن حرية رغيف الخبز هي المقدمة الطبيعية لحرية تذكرة الانتخاب”.11
العمال يتحولون إلى السياسة
لقد محض عقد من الصراع حول القضايا النقابية، والمشاركة في انتفاضة 25 يناير الشعبية، وإزالة بعض (ولكن ليس كل) القيود القمعية لنظام مبارك، الناشطين النقابيين الثقة بالنفس لتأكيد المطالب السياسية التي غالباً ماتجنبوها في السابق. ومع ذلك، اعتبر العديد من الناشطين الثوريين – خصوصاً الشباب الليبراليين من ذوي الخبرة السياسية القليلة الذين برزوا إبّان احتلال ميدان التحرير وغيره من الساحات في المدن – هذه “مطالب فئويّة” وليس مطالب “وطنية” حقيقية، ورفضوا دعمها خلال شهري شباط/فبراير وآذار/مارس 2011، عندما كانت فرصة التغيير سانحة أكثر.
مع ذلك، واصل النقابيون المستقلون تحرّكهم، بدعم من بعض الحلفاء من المثقفين. وعقد قادة الاتحاد المصري للنقابات المستقلة يوم 2 آذار/مارس، مؤتمراً بعنوان “ماذا يريد العمال من الثورة؟”. تمت الموافقة في غضون أسبوعين على أحد مطالبهم الرئيسة، وهو إلغاء تعيين المجلس العسكري أمين صندوق الاتحاد العام لنقابات عمال مصر إسماعيل إبراهيم فهمي وزيراً مؤقتاً للقوى العاملة والهجرة. فتعيين فهمي عنى عدم جود أي تغيير حقيقي من عهد مبارك، لذا عارضه النقابيون المستقلّون بشدّة واقترحوا بدلاً منه أحمد حسن البرعي، وهو أستاذ قانون العمل في جامعة القاهرة الذي كان يدعو علناً، وعلى مدار سنوات، إلى التعدّدية النقابية.
حلّ البرعي محلّ فهمي، وفي 12 آذار/مارس، شارك الوزير الجديد في حلقة نقاش في نقابة الصحافيين بعنوان “إعرف دورك”. ترأس الجلسة مصطفى بسيوني، وهو صحافي عمالي يساري محترم كان يراسل صحيفة الدستور المعارضة في العقد الماضي، وأصبح محرراً للشؤون العمالية في صحيفة “التحرير” الجديدة التي تطرح نفسها على أنها “صوت الثورة”. كان المتحدثون في الحلقة الوزير البرعي، ورئيس النقابة المستقلة لعمال مصلحة الضرائب العقارية كمال أبو عيطة، والمنسّق العام لدار الخدمات النقابية كمال عباس. لم يكن بالإمكان تخيّل مشهد كهذا في عهد مبارك. وقد نقلت صحيفة الأهرام التالي:
“قال البرعي بتصميم، والدموع تترقرق في عينيه، أنه سيكون للعمال قريباً الحق في إنشاء وتكوين والانضمام إلى أي نقابة من النقابات التي يختارون. نقابات ستظل مستقلّة تماماً عن الوزارة. وستتمكن هذه النقابات من التصرّف في شؤونها الداخلية وتطوير الأنظمة وتخصيص الأموال واختيار قادتها بشكل مستقل”.12
كان الأساس القانوني لموقف البرعي يقوم على أن تصديق مصر على معاهدات منظمة العمل الدولية، التي تضمن حرية تكوين الجمعيات وحماية حق التنظيم النقابي (الرقم 87) والحق في التنظيم والتفاوض الجماعي (الرقم 98)، شكّل التزامات بموجب المعاهدات الدولية أبطلت التشريعات الوطنية التي أسّست الاتحاد العام لنقابات عمال مصر بوصفه اتحاد العمال القانوني الوحيد في مصر. ولذلك، اعترف البرعي بالاتحاد المصري للنقابات المستقلة وعشرات النقابات العمالية المؤسسية المستقلة التي نشأت حديثاً.
لم يعتمد النقابيون المستقلون، وهم الذين مكّنتهم الانتفاضة الشعبية والشرعية السياسية لمنظماتهم، ببساطة على وزارة القوى العاملة والهجرة. فقد قدّمت الهيئة التأسيسية للاتحاد المصري للنقابات المستقلة ودار الخدمات النقابية والعمالية مذكّرات إلى الوزارة ضمّنتها انتقادات مفصّلة للقانون 35 للعام 1976 الذي أنشأ الاتحاد العام لنقابات عمال مصر بوصفه النقابة القانونية الوحيدة؛ كما قدّمت مقترحات لوضع قانون جديد لنقابات العمال على أساس المشاريع التي وضعتها دار الخدمات النقابية والعمالية، واللجنة التنسيقية للحقوق والحريات النقابية، وحوالى 40 من الأحزاب السياسية المعارضة والمنظمات غير الحكومية التي كانت قد دشّنت حملة “معاً من أجل إطلاق الحريات النقابية واستقلال النقابات العمالية وديمقراطيتها” في تشرين الأول/أكتوبر 2008.13 حظي الاتحاد المصري للنقابات المستقلة وحلفاؤه بدعم من الحركة النقابية الدولية، بما في ذلك مركز التضامن في “الاتحاد الأميركي للعمال – مؤتمر المنظمات الصناعية” AFL-CIO، والعديد من الاتحادات النقابية الأوروبية، والاتحاد الدولي للنقابات الذي تشكّل في العام 2006 من خلال إعادة تنظيم الاتحاد الدولي للنقابات الحرة الذي تأسّس في حقبة الحرب الباردة.
ردّ المجلس الأعلى للقوات المسلحة على موجة الأعمال الجماعية المطّردة التي يقوم بها العمال والتي كان قد أطلقها رحيل مبارك، بإصدار المرسوم العسكري الرقم 34 في 24 آذار/مارس. وقد أصبحت النسخة المنقّحة لهذا المرسوم قانوناً تضمّن غرامة تصل إلى 50000 جنيه مصري (حوالى 8333 دولاراً) على أي شخص يشارك في أو يشجّع الآخرين على الانضمام إلى اعتصام أو أي نشاط آخر “يمنع أو يؤخّر أو يعطّل عمل المؤسسات العامة أو السلطات العامة”. وتزيد العقوبة لتصل إلى 500000 (حوالى 83333 دولار) والسجن سنة على الأقلّ في حالة وقوع عنف أو أضرار في الممتلكات قد تؤدي إلى “تدمير وسائل الإنتاج” أو تضّر “الوحدة الوطنية والأمن والنظام العام”.14
وبناء على طلب قدّمه النشطاء النقابيون منذ فترة طويلة، نفّذت وزارة القوى العاملة والهجرة في 4 آب/أغسطس 2011، حكماً قضائياً صدر في العام 2006، وتجاهله نظام مبارك، ألغى الانتخابات القومية للاتحاد العام لعمال مصر للعام 2006 التي كانت مزوّرة بشكل صارخ. وتمّ حلّ المجلس التنفيذي لاتحاد العمال وسبعة من الاتحادات القومية العامة الـ23 المكوّنة له. عيّن مجلس الوزراء لجنة من 25 عضواً بينهم ثلاثة عشر من أعضاء النقابات العمالية المستقلة، والإخوان المسلمين والاتحاد العام لعمال مصر، لإدارة شؤون الاتحاد العام والنظر في أي مخالفات مالية، إلى أن يتسنّى إجراء انتخابات جديدة. نُصِّب أمين صندوق الاتحاد العام إسماعيل ابراهيم فهمي، الذي عيّنه المجلس العسكري في البداية في منصب وزير القوى العاملة والهجرة، رئيساً لهذه اللجنة بهدف تقييد نطاق عمل المستقلّين.
وقد طالب المستقلّون، وواصلوا المطالبة، بالحلّ الكامل للاتحاد العام لنقابات عمال مصر. هذا التحرّك وفرّ لهم مجالاً كبيراً للعمل واكتساب القوة، فأوقفه المجلس الأعلى للقوات المسلحة في وقت لاحق.
مكاسب العمال
كان أهم إنجاز لإطاحة حسني مبارك بالنسبة إلى لعمال هو ذلك الذي تقاسموه مع جميع المصريين: استعادة كرامتهم الإنسانية وأصواتهم. لكن العديد من المؤسسات والممارسات والمواقف، والعاملين في النظام السابق لايزالون قابعين في مواقعهم. لايزال هناك العديد من أشباه حسني مبارك الصغار المتخفّين في آلاف أماكن العمل والمؤسسات الأخرى في جميع أنحاء مصر، ويعملون وفق الأعراف غير الديمقراطية والفاسدة والزبائنية نفسها مثل نظام مبارك ونخبه. ستستغرق معالجة هذه الأمور وتغييرها سنوات عدة، في أحسن الأحوال. لكن حتى العاملون الذين يحصلون على أدنى الأجور والأكثر تهميشاً، يشعرون الآن أن لديهم الحق في تحدّي التسلسل الهرمي الحالي للسلطة وطلب المساءلة من حكومتهم ورؤسائهم في العمل.
إن زيادة الحد الأدنى للأجور والبداية القوية في إضفاء الطابع المؤسسي على النقابات المستقلة والديمقراطية، هي أهم الإنجازات الخاصة بمصالح العمال. وتواجه النقابات المستقلة حتى الآن معارضة قوية من الاتحاد العام لنقابات عمال مصر، الذي يحتفظ بقوة كبيرة ويحظى بدعم من المجلس العسكري. ثمة إنجاز آخر مهم، على الرغم من أنه رمزي أساساً في هذه المرحلة، وهو توقيف الرئيس السابق للاتحاد العام لنقابات عمال مصر حسين مجاور ووزيرة القوى العاملة والهجرة السابقة عائشة عبد الهادي بتهمة الفساد. ولايزال الاثنان ينتظران المحاكمة.
الحد الأدنى للأجور وحقوق العمال
التعويض هو المجال الذي حقّق فيه النشطاء العماليون أكبر قدر من التقدّم الملموس. فقد زادت الحكومة الانتقالية في مرحلة مابعد مبارك الحدّ الأدنى للأجر الشهري الأساسي إلى 700 جنيه (حوالى 116 دولاراً) لموظفي القطاع العام اعتباراً من الأول من تموز/يوليو 2011. ووعد وزير المالية سمير رضوان بأن يُرفع إلى 1200 جنيه على مدى السنوات الخمس المقبلة، وإن كان هذا يبدو غير مرجّح في ظل حالة الركود الاقتصادي واستقالة رضوان قبل نهاية فصل الصيف. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2011، وُضِع أول حدّ أدنى للأجور من نوعه في القطاع الخاص عند معدل 700 جنيه.15
يختلف المبدأ القائل بأن على الحكومة أن تضع حدّاً أدنى للأجور في القطاع الخاص اختلافاً كبيراً في حدّ ذاته عن نهج عصر السادات ومبارك في جذب الاستثمار الرأسمالي. ومع ذلك، لن يكون التغيير سريعاً بالضرورة. فقد أكد عادل زكريا، رئيس تحرير المجلة الشهرية (كلام صنايعية) التي تصدر عن دار الخدمات النقابية والعمالية، أن “عدداً قليلاً جداً من العمال سوف يستفيدون من هذا القرار”.16 فإضافة إلى ضعف قدرة الحكومة، وربّما أيضاً عدم الرغبة في تطبيق القانون بشكل صارم، لاينطبق الحدّ الأدنى للأجور على الشركات التي فيها أقلّ من عشرة موظفين، أي الغالبية العظمى من مواقع العمل. وتُعفى أيضاً الشركات التي تقدّم “دليلا كافياً” – وهو مصطلح غامض قابل لسوء الاستعمال – على أنها لاتستطيع رفع الرواتب. إضافة على ذلك، هناك نحو 40 في المئة من جميع العمال في مصر موظفون في “القطاع غير الرسمي”
(الذي لايظهر على شاشة رادار الحكومة) من دون تنظيم فعال.
يُعامِل العديد من مديري القطاعين العام والخاص العمال، وبخاصة النساء، بازدراء لايقلّ عمّا كانوا يعاملونهم في عهد مبارك. وتغيير ثقافة الازدراء وسوء المعاملة في مكان العمل لايمكن تحقيقه إلا بالتعبئة من أسفل إلى أعلى على مدى فترة من الوقت، وليس عن طريق التشريعات. ومع ذلك، غرس الانتصار الشعبي المتمثّل بإقالة مبارك الشعور بالثقة وتوكيد الذات في نفوس كثير من المصريين، بمن فيهم العمال.
وعلى سبيل المثال، في حزيران/يونيو 2011 سعى حوالى 100 من العمال السابقين، معظمهم من النساء، في شركة المنصورة – إسبانيا Mansura-España (وهي شركة منسوجات من القطاع الخاص أفلست وبيعت في نهاية الأمر في العام 2010) إلى تحصيل أجورهم من أكبر دائن للشركة وهو البنك المتحد. كان هذا البنك قد فشل في الوفاء بالتزاماته القانونية لتسديد أجور وتعويضات الفصل من العمل للعاملين على جدول الرواتب في وقت البيع. رفض موظفو البنك دفع التعويضات للنساء، وسخروا منهن قائلين: “اذهبن وعرقلن حركة المرور في الشوارع إذا كنتن تردن الحصول على حقوقكن”.17 وهذا مافعلنه.
حثّ شرطي مرور سائق شاحنة غير قادر على تحريك سيارته في زحمة السير التي نجمت عن ذلك، قائلاً: “ادهسهن. ديّة الواحدة منهن 50 جنيهاً (نحو 8 دولارات)”. دهس السائق بشاحنته امرأتين هما مريم حواس، وهي في الرابعة والأربعين وأم لثلاثة أطفال، وسماح عيسى. توفيت مريم في الطريق إلى المستشفى، وأصيبت سماح بجروح بليغة. واتهم سائق الشاحنة بالتسبُب بوفاة وإصابة غير مشروعة، لكن أفرج عنه من دون كفالة؛ ولم يتم العثور على شرطي المرور.
بعد عشرة أيام، صرف البنك المتحد الرواتب المتأخرة وتعويضات الفصل من العمل لعمال شركة المنصورة – إسبانيا السابقة راتب شهرين ونصف الشهر عن كل سنة من الخدمة – بتكلفة إجمالية بلغت 62000 دولار.
وهكذا، وعلى الرغم من إطاحة مبارك، بقيت السلطة القائمة تعتبر حياة المرأة في المصانع رخيصة. ماتغير هو أنه حتى المرأة العاملة منخفضة الأجر لم تعد تقبل أن يبقى سيف انخفاض ثمنها مصلتاً فوق رأسها. إذ تساءلت سماح عيسى وهي تتماثل للشفاء في المستشفى قائلة:”كيف يمكن للحياة أن تساوي 50 جنيهاً؟ أنا لا أرى مستقبلاً حتى أحصل على حقوقي. هذا ما أريده.”18
تنظيم نقابات عمالية جديدة
نظّم الاتحاد المصري للنقابات المستقلة، وبسرعة، عدداً من النقابات الجديدة غير التابعة للاتحاد العام لنقابات عمال مصر. وبعد عام من رحيل مبارك، ادعى الاتحاد المصري للنقابات المستقلة أنه يضم في عضويته نحو 200 نقابة ومليوني عامل من ذوي الياقات الزرقاء والبيضاء. حقّق الاتحاد المصري للنقابات المستقلة قدراً أكبر من النجاح بين العاملين في الخدمة العامة، وهو أضعف نسبياً في قطاع الصناعات التحويلية. أهم النقابات التابعة له هي النقابة المستقلة لموظفي الضرائب العقارية والنقابات المستقلة التي أنشئت حديثاً للمعلمين، والهيئة العامة للنقل في القاهرة، والشركة المصرية للاتصالات، وعمال البريد، والطيارين والعاملين في مجال الطيران .19
توفِّر التطورات في مدينة السادات مثالاً على الزخم الكبير الذي يتمتع به الاتحاد المصري للنقابات المستقلة والعقبات التي يواجه. فقبل العام 2011 كانت هناك نقابتان فقط على مستوى المؤسسات في المنطقة الصناعية في مدينة السادات، وهي منطقة اقتصادية خاصة يعمل فيها 50000 عامل في مئتي شركة. كان الحد الأدنى من الوجود النقابي واحداً من العديد من الحوافز التي قدمها نظام مبارك لجذب رأس المال الاستثماري إلى هذه المناطق. وبوصفها قلعة العملاق السابق، الحزب الوطني الديمقراطي، وإمبراطورية الحديد والصلب التي يملكها أحمد عز رجل نظام مبارك القوي، تمثّل مدينة السادات موقعاً استراتيجياً من الناحية السياسية. وبحلول نهاية العام 2011، كان فيها ما لايقل عن اثنتي عشرة نقابة جديدة ومجلساً عمالياً على مستوى المدينة تابعاً للاتحاد المصري للنقابات المستقلة. لكن هذه النجاحات الظاهرة لاتعني أن النظام كان سريعاً أو حريصاً على التكيّف مع التمكين الجديد للعمال.
أنشئت النقابات في مدينة السادات من خلال التعبئة من أسفل إلى أعلى، بما في ذلك العديد من الإضرابات والتظاهرات التي بدأت محلياً في أيار/مايو وحزيران/يونيو 2011. وفي أوائل أيار/مايو، تظاهر مئات العمال لأيام عدة على التوالي في شركة جيما (الجوهرة) للسيراميك والخزف التي يملكها أحمد عز، مطالبين بحدّ أدنى للأجر الشهري يبلغ 1200 جنيهاً مصرياً، والحق في تشكيل نقابة، وتعيين 670 من العاملين بعقود مؤقتة بشكل دائم، ومطالب اقتصادية أخرى. وفي 7 أيار/مايو، أضرب 9000 من العمال في مصنع بشاي للصلب للمطالبة بدفع علاوة الـ15 في المئة التي أعلن عنها مؤخّراً وزير المالية. عاد معظم العمال إلى العمل في اليوم التالي بعد تلبية مطالبهم، لكن الإدارة قالت أن العلاوة لاتنطبق على العمال الـ1500 الذين يعملون بموجب عقود محدّدة المدة (الإعلان الوزاري لم يكن محدّداً بشأن هذه المسألة)، ولم تسمح لهم بالعودة للعمل.20 ومعروف أن تقسيم العاملين بين دائمين ومؤقتين هو استراتيجية إدارية شائعة.
في شهر أيار/مايو، ومرة أخرى في شهر حزيران/يونيو، وللمرة السادسة على الأقل خلال أربع أو خمس سنوات، أضرب 5000 عامل في مصنع ميغا للنسيج المملوك لأتراك بسبب مطالب اقتصادية. وكما هو الحال في العديد من الإضرابات التي شهدها العقد المنصرم، تسبّب الاستياء من المدراء الأجانب، والتمييز لصالح العمال الأجانب (الهنود والبنغلاديشيين في هذه الحالة)، وإهانة المرأة، في ازدياد حدّة التوتّر. وفي تشرين الأول/أكتوبر، طردت الإدارة 43 من أعضاء النقابة الجديدة في مصنع ميغا للنسيج، وتعرّض العمال، الذين بدأوا اعتصاماً أمام بوابة المصنع، إلى هجوم قوات الشرطة العسكرية. وفي تشرين الثاني/نوفمبر، تظاهر عمال ميغا للنسيج أمام السفارة التركية في القاهرة، والمقر الرئيس للاتحاد العام لنقابات عمال مصر. وأعرب العمال المضربون في سبع شركات أخرى في مدينة السادات عن تأييدهم لنقابيي ميغا للنسيج الذين طُرِدوا. لكن لم يَبدُ أنه سيجري توظيفهم قريباً.21
أنشئت عشرات النقابات المستقلة الجديدة في العام 2011 وأوائل العام 2012، في كثير من مواقع العمل حيث لم يكن يوجد أي نوع من تقاليد الحركة النقابية سابقاً. لكن لم ينضم إليها كل العاملين في المؤسسات التي شكّلت نقابات حديثاً. إذ شكّل الخوف من الانتقام، كما في ميغا للنسيج وبشاي للصلب، عقبة كأداء أمام النقابات أو الاحتجاجات من أي نوع.
العقبات القانونية والتنظيمية كبيرة أيضاً. إذ لايعترف أرباب العمل في القطاع الخاص عادة، أو يتفاوضون، مع النقابة مالَم يؤدّ الإضراب إلى تدخل الحكومة. فضلاً على ذلك، لم يكن هناك أي إطار قانوني للتفاوض الجماعي على مستوى المؤسسة في مصر منذ منتصف القرن الماضي. كانت جميع اتفاقات العمل مركزية وتشرف عليها الدولة وذلك بالتعاون مع الاتحاد العام لنقابات عمال مصر. لم يشارك العمال في مثل هذه الاتفاقات، وبالتالي ليس لديهم سوى القليل من الخبرة في تسيير معظم الوظائف الأساسية للنقابة.
يطرح تمويل النقابات الجديدة بعض المشاكل أيضاً. إذ يتعيّن على النقابات المستقلة جمع المستحقات من كل عضو على حدة كل شهر، في حين لايزال الاتحاد العام لنقابات عمال مصر يتلقى مستحقات من خلال خصم تلقائي من الأجور، حتى من أولئك الذين استقالوا صراحة. وتسيطر البيروقراطية المركزية في الاتحاد العام لنقابات عمال مصر على الصناديق الاجتماعية للنقابات المكوّنة له، والتي توفر المعاشات والمزايا القيّمة الأخرى. ولاتستطيع النقابات المستقلة الجديدة الحصول على هذه الأموال، حتى وإن كان كل أو معظم أعضائها هم أعضاء سابقون في نقابات تابعة للاتحاد العام، كما هو الحال مع عمال الضرائب العقارية، وعمال هيئة النقل العام في القاهرة، والمعلمين وعمال البريد، وغيرهم. وقد حقّقت النقابة المستقلة لعمال الضرائب العقارية سيطرة جزئية على الصندوق الاجتماعي في العام 2009، لكن الاتحاد العام استعاد سيطرته الكاملة في نهاية المطاف.
على المستوى السياسي، تواجه الحركة العمالية المستقلة معارضة من قيادة الاتحاد العام، والمجلس العسكري، وجماعة الإخوان المسلمين. ومع ذلك لاتملك النقابات المستقلة قدرات تنظيمية ومالية وسياسية كافية لمقاومة هذه المعارضة بشكل ناجح بشأن العديد من القضايا.
القوى المتحصّنة
أكّد المجلس العسكري والاتحاد العام مراراً قدرتهما على معارضة النقابات المستقلة، وسجلا بعض النجاحات.
طُبِّق القانون المستوحى من المجلس العسكري، والذي سعى إلى منع الاعتصامات والاحتجاجات العنيفة، مرة واحدة إلى الآن، في 29 حزيران/يونيو، عندما قضت محكمة عسكرية بسجن خمسة عمال في “بتروجيت”، وهي شركة لخدمات النفط والغاز تديرها وزارة البترول، لمدة سنة واحدة مع وقف التنفيذ. كان العمال احتلوا الباحة أمام الوزارة مدة أسبوعين مطالبين بمنح الوضع الدائم لـ200 عامل يعملون منذ سنوات على أساس مؤقت. وعلى الرغم من إدانتهم، إلا أن العمال الذين احتلوا المكان لم ينتهكوا القانون على مايبدو، فهم لم يعطلوا العمل، بل تموضعواعلى نحو يسمح بالوصول إلى المبنى، ولم يتسبّبوا في أي ضرر. ويشير الحكم القاسي وتعليقه إلى أن المجلس العسكري كان يحاول الحفاظ على التوازن بين فرض سلطته، التي كانت تُنتَهك بشكل فاضح بسبب الإضرابات والتظاهرات اليومية تقريباً، وبين إثارة العمال للقيام بأشكال أقوى من التحدّي. خلص الكثير من العمال، إضافة إلى مصريين آخرين، مع نهاية العام 2011، إلى أن المجلس العسكري لايسعى إلى “تحقيق أهداف الثورة”، كما زعم، بل لاحتواء الانتفاضة الشعبية من خلال تبنّي المطلب المشترك الأدنى فقط المتمثّل بإزاحة مبارك.
جهد الاتحاد العام لنقابات عمال مصر لاستعادة احتكاره للتنظيم النقابي واستعاد بالفعل بدعم من المجلس العسكري الكثير مما فقده في غداة الانتفاضة الشعبية. وكما فعل نظام مبارك، ضايق البيروقراطيون في الاتحاد العام كمال عباس منسّق دار الخدمات النقابية بقضية تافهة. فبعد لقاء مثير للجدل مع إسماعيل إبراهيم فهمي في مؤتمر العمل الدولي في حزيران/يونيو 2011، حكم على عباس غيابياّ بالسجن لمدة ستة أشهر بتهمة “إهانة موظف عمومي”، وهي تهمة غامضة مماثلة لتلك التي كانت توجّه عادة إلى شخصيات مُعارضة في عهد مبارك .
في 19 تشرين الثاني/نوفمبر، وفي خضمّ إعادة احتلال ميدان التحرير، والاضطرابات السياسية التي أثارها نشر وثيقة السلمي (وهي بالون اختبار طرحه المجلس العسكري في مسعى منه إلى حماية امتيازات الجيش من خلال منع الرقابة المدنية على الشؤون العسكرية) أعلنت الإضراب أربع نقابات عامة موالية لاتحاد العمال. كان هدفها إرغام وزير القوى العاملة والهجرة البرعي على إعادة صلاحيات المجلس التنفيذي إلى اتحاد العمال وطرد اللجنة التي كان قد عيّنها لإدارة الاتحاد العام. كان من الواضح أن الموالين لاتحاد العمال منزعجون من محاولة المستقلين في اللجنة إزاحة أحمد عبد الظاهر، الذي أصبح رئيساً لها، وذلك بسبب مسؤوليته المزعومة عن تنظيم هجوم “واقعة الجمل” الشائنة، على المتظاهرين في ميدان التحرير يوم 2 شباط/فبراير. استسلم البرعي وأعاد كل قيادة الاتحاد العام في عهد مبارك، باستثناء الرئيس حسين مجاور.22 كان هذا آخر عمل يقوم به ويتناقض مع مواقفه العلنية منذ فترة طويلة. استقال البرعي والحكومة كلها احتجاجاً على رفض المجلس العسكري السماح لمجلس الوزراء بممارسة الحكم وقمعه العنيف المتكرّر للاحتجاجات في الشوارع.
والآن، سينظِّم أنصار الاتحاد العام لنقابات عمال مصر انتخابات النقابات العمالية القطرية المقبلة، والتي كان من المقرر أن تجري يوم 27 تشرين الثاني/نوفمبر2011. وقد تأجّلت تلك الانتخابات أكثر من مرة لتجنّب التداخل مع الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وستعقد الآن في النصف الثاني من العام 2012. ستحدّد الإجراءات التي لم تقرّر حتى الآن ما إذا كان يمكن أن يتحوّل الاتحاد العام لنقابات عمال مصر إلى مؤسّسة تمثيلية. مع ذلك، هذه النتيجة غير محتملة، إذ سيشرف على الانتخابات إسماعيل إبراهيم فهمي، الذي أعاد المجلس العسكري تعيينه وزيراً للقوى العاملة والهجرة في أيار/مايو 2012. وقد فشل النقابيون المستقلون في إبعاده، كما فعلوا في آذار/مارس 2011، وهو مايعتبر مؤشّراً على فقدان نفوذهم في الساحة السياسية الوطنية.
رفض المجلس العسكري أيضاً السماح للحكومة المؤقتة بسنّ قانون النقابات الجديد الذي أعدّه البرعي وطاقمه قبل استقالته. وكان من شأن مشروع القانون هذا الاعتراف بالنقابات غير التابعة للاتحاد العام لنقابات عمال مصر، والسماح لأي مجموعة من 50 عاملاً أو أكثر بتشكيل نقابة، وتشكيل نقابات متعدّدة في مكان العمل الواحد. بعد ذلك، تم تقديم ثلاثة مقترحات تشريعية إلى اللجان المختصّة في أول مجلس شعب في مرحلة مابعد مبارك. واستند أحدها إلى المشروع الذي أعده البرعي وبدعم من الاتحاد المصري للنقابات المستقلة، ومؤتمر عمال مصر الديمقراطي، ودار الخدمات النقابية والعمالية، والمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية . وكان من شأن الاقتراح الثاني، بدعم من الموالين للاتحاد العام لنقابات عمال مصر، استعادة احتكار الاتحاد العام لتنظيم النقابات، والسماح للقادة بالعمل حتى سن السبعين، وبالتالي الحفاظ على سلطة الموجودين حالياً في مناصبهم. وقد دعم حزب جماعة الإخوان المسلمين، الحرية والعدالة، الذي كان يملك أكبر عدد من المقاعد في البرلمان الأول، اقتراحاً من شأنه أن يسمح فقط بنقابة واحدة في الشركة، لكنه يضفي الشرعيّة على النقابات خارج إطار الاتحاد العام. ومن شأن هذا الاقتراح أن يعطي ميزة لبيروقراطيي الاتحاد العام في النظام السابق، لأنهم يسيطرون على حوالى 1400 لجنة نقابية أكثر من منافسيهم، وعلى موارد هائلة، وعدد ضخم من الموظفين.
الاقتراح التشريعي الوحيد الذي يتوافق مع اتفاقيات منظمة العمل الدولية التي صدّقت عليها مصر، هو الذي أعدّه الوزير السابق البرعي. وقد ضغط الاتحاد المصري للنقابات المستقلة، ودار الخدمات النقابية والعمالية، والمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بشكل قوي من أجل صدوره. ويدّعي الاتحاد المصري للنقابات المستقلة أن عدم سن مثل هذا القانون أسفر عن وضع منظمة العمل الدولية لمصر مرة أخرى على قائمة “الحالات الخاصة”.23
كان المثال الأكثر تطرّفاً لمعارضة المجلس الأعلى للقوات المسلحة للحركة النقابية المستقلة محاولته كسر إضراب عمال شركة أتوبيس الدلتا، والذي بدأ في 23 شباط/فبراير 2012. فقد أمر المجلس الأعلى بنشر أسطول من الحافلات الخاصة به عندما انهارت المفاوضات بين الجيش والمضربين. وقد انتهى الاضراب في 5 آذار/مارس بوعد بجعل أجور العمال والمزايا التي يحصلون عليها في مستوى يعادل أجور ومزايا من توظفهم وزارة النقل في تموز/يوليو 2012. 24
التوتّرات في الحركة العمالية
تواجه الحركة العمالية المستقلّة انقسامات داخلية حول مجموعة من الرؤى الاستراتيجية المختلفة، وخلافات حول القضايا التنظيمية والقضايا السياسية التي لم يتم التعبير عنها بوضوح.
يمثّل كمال أبو عيطة، رئيس النقابة العامة المستقلة لعمال الضرائب العقارية، الذي انتخب لفترة ولاية كاملة كرئيس للاتحاد المصري للنقابات المستقلة في كانون الثاني/يناير 2012، أحد الاتجاهات. فقد سعى هو وأتباعه بسرعة لجعل أنفسهم المتحدثين المُعتَرَف بهم باسم أكبر عدد ممكن من العمال. وأعربوا عن اعتقادهم بأن هذا من شأنه تمكين الاتحاد المصري للنقابات المستقلة من التعامل مع المجلس العسكري والقوى السياسية الأخرى من موقع قوة، في حين كان الوضع السياسي متقلّباً ومفتوحاً على تعزيز مصالح العمال. ونظراً إلى محدودية عدد موظفي وموارد الاتحاد المصري للنقابات المستقلة، فإن تحديد هذه الأولوية يعني تكريس وقت أقلّ لتعزيز قوة اللجان النقابية على مستوى الشركات التي تضمّ الاتحاد أو تدريب قياداتها.
ظل كمال أبو عيطة لسنوات عضواً بارزاً في حزب الكرامة الناصري، الذي لم يكن نظام مبارك يعترف به. وفي انتخابات العام 2011 البرلمانية، انضم حزب الكرامة إلى التحالف الديمقراطي بقيادة الإخوان المسلمين، وفاز أبو عيطة بمقعد في البرلمان. العديد من قادة الاتحاد المصري للنقابات المستقلة الآخرين ترشّحوا أيضاً لعضوية البرلمان على قوائم حزبية أخرى لكن لم يتم انتخابهم.
يمثّل كمال عباس وطاقم دار الخدمات النقابية والعمالية الاتجاه الثاني. وهم ركزوا على تثقيف العمال شيئاً فشيئاً في ممارسات الحركات النقابية الديمقراطية من القاعدة إلى القمة بدلاً من اتباع القضايا السياسية العامة. ويعتقد عباس ودار الخدمات النقابية والعمالية أن هذا النهج هو الضمانة الوحيدة على المدى الطويل للنظام الديموقراطي. وبناءً على ذلك، أعطوا الأولوية لإنجاز تلك المهمة على دخول الساحة السياسية البرلمانية.
بعد السنوات التي قضاها في حزب الشعب الثوري غير الشرعي خلال تسعينيات القرن الماضي، تخلّى عباس عن السياسات الحزبية. لكنه كثير الشكوك تجاه الإخوان المسلمين بسبب تاريخهم المناهض للنشاط النقابي الذي يعود تاريخه إلى أربعينيات القرن الماضي، ومواقفهم من العلاقات بين الجنسين. ومنذ أن تم فصله من شركة مصر للحديد والصلب في حلوان بسبب قيادته إضرابين في العام 1989، لم يكن عباس عضواً في أي نقابة. وعلى هذا الأساس، جادل البعض بأن عباس يجب ألا يكون له دور في صنع القرار في الاتحاد المصري للنقابات المستقلة، مع أنه عمل على مدى عقدين من الزمن لجعل إنشائها أمراً ممكناً. وقالوا أيضاً أنه بما أن دار الخدمات النقابية والعمالية منظمة غير حكومية، وليست نقابة، فلاينبغي أن تكون عضواً في الاتحاد المصري للنقابات المستقلة.
كل مقاربة من المقاربتين لها حدودها. ففي حين يمكن انتقاد عباس حول عدم تقديره الكافي لاحتمالات لحظة مابعد مبارك، ربّما تسرّع أبو عيطة كثيراً في تصوّر أن ساحة السياسة الوطنية كانت العنصر الرئيس في تأمين مصالح العمال. من حيث المبدأ، ما من سبب يحول دون اتباع المقاربة السياسية الوطنية ومقاربة العمل القاعدي بالتزامن. لكن، أدى كلٌّ من محدودية عدد الموظفين والموارد، والظروف السياسية المتغيّرة بسرعة، والخصومة الشخصية بين قائدين قويين ومؤثّرين، إلى حدوث انقسام تنظيمي.
انسحب عباس ودار الخدمات النقابية والعمالية وغيرهم ممن شاركوهم رؤيتهم من الاتحاد المصري للنقابات المستقلة. وفي 14 تشرين الأول/أكتوبر 2011، عقد ممثّلو هؤلاء الاجتماع الافتتاحي لمؤتمر عمال مصر الديمقراطي الذي تمثّلت فيه 149 نقابة.25 وبحلول كانون الثاني/يناير 2012، ادّعى مؤتمر عمال مصر الديمقراطي أن هناك 214 نقابة تابعة له تضم في عضويتها أكثر من مليون عامل.26 لايعتبر مؤتمر عمال مصر الديمقراطي نفسه اتحاداً لنقابات العمال بل ائتلافاً واسعاً عمالي المنحى، مع أنه في كثير من النواحي يؤدي تلك الوظيفة. وتشمل الجهات التابعة له نقابات مستقلة بما فيها نقابات في بعض المشاريع الصناعية الكبرى ومنظمات غير حكومية بما فيها مؤسسة المرأة الجديدة، والجمعية المصرية لتعزيز المشاركة المجتمعية وأفراداً.
بعد عام من رحيل مبارك، ادعى الاتحاد المصري للنقابات المستقلة ومؤتمر عمال مصر الديمقراطي أن عدد أعضائهما مجتمعين يصل إلى حوالى 3 ملايين، وهو عدد هائل مقارنة مع أعضاء الاتحاد العام البالغ 3.8 مليون في عهد مبارك. لكن هذه مبالغة بالتأكيد. فقد استندت عضوية الاتحاد العام إلى أكثر من 1800 نقابة، وإلى عدد أعضاء يصل في المتوسط إلى نحو 2000 في النقابة الواحدة. ووجود ثلاثة ملايين عضو في 400 نقابة يعني في المتوسط أن عدد أعضاء النقابة المحلية يبلغ 7500، وهو عدد كبير جداً نظراً إلى صغر حجم الغالبية العظمى من مواقع العمل المصرية.
لم ينزل الخلاف على صعيد القيادة الوطنية إلى مستوى الشتائم العلنية والتكتيكات الأخرى المجرّدة من المبادئ، وهذا أمر جدير بالثناء. كما أنه لم يعرقل استمرار تعبئة العمال من أجل النضال. لقد تحدثت الحكومة عن 335 من الأعمال الجماعية في العام 2011،27 لكن وفقاً لتقييم شهري صادر عن مؤسسة أولاد الأرض لحقوق الإنسان، والتي سجّلت الإجراءات المثيرة للجدل التي قام بها العمال والتي نشرت في الصحافة على مدى سنوات، كان هناك أكثر من 1400 تحرُّك جماعي خلال العام 2011 ضمت ما لايقل عن 600 ألف عامل، وهو مايزيد مرتين إلى ثلاث مرات عن أي عام في العقد الماضي.
الساحة البرلمانية
على الرغم من الدور المهم الذي لعبه العمال في نزع الشرعية عن نظام مبارك وفي مواصلة التعبئة، لم تتمكّن الحركة العمالية المستقلة من تحقيق مكاسب على الساحة السياسية الوطنية. فقد كان لها وجود محدود جداً في المؤسّسات الناشئة في دولة مابعد مبارك – مثل الجمعية التأسيسية والبرلمان الأول؛ وهي مؤسسات كان يمكن أن تستخدمها لدرء هجمات خصومها السياسيين