تضجّ أمانة السجل العقاري بقضية فساد جديدة. البطل هذه المرة إعلامي ومحام في الاستئناف متّهم بالتلاعب بـ”القيم التأجيرية للعقارات” المسجّلة وتهريب ملفات. أعداد العقارات المتلاعب بقيمتها لم يُحدّد بعد، لكن الشائعات تتحدّث عن هدر بمئات آلاف الدولارات. التحقيق القضائي لا يزال في بدايته
أمانة السجل العقاري في قفص الاتهام مجدداً. إذ لم تكد تمرّ أشهر قليلة على الفضيحة التي شهدتها مصلحة السجل العقاري في بيروت والتي انتهت بتغيير أمين السجل (م. م.) بعد محاسبته قضائياً بجرم “هدر المال العام وكتمان الثمن والرشوة”، من دون توقيفه، حتى ضجّت مصلحة السجل العقاري المهترئة في بعبدا بفضيحة جديدة، بطلها هذه المرة إعلامي ومحامٍ في الاستئناف يقدّم برنامجاً عن مكافحة الفساد على قناة “المنار”. ويتّهم موظفون في السجل العقاري الرجل بـ”استغلال صفته والجهة التي يمثّلها وثقة الموظفين به للتلاعب بقيمة العقارات وتسجيلها باقتطاع الرسوم على الثمن الأقل”، وبالتالي يواجه اتهامات بـ”جرم كتمان الثمن وهدر المال العام”.
اكتُشفت القضية بالصدفة قبل نحو ثلاثة أسابيع. يومها، حضر أحد المواطنين إلى أمانة السجل في بعبدا للاحتجاج على ارتفاع كلفة رسوم تسجيل عقاره، كاشفاً أن فارق التسجيل بينه وبين جاره يبلغ ٣٠ مليون ليرة. عندها، راجع رئيس أحد المكاتب دفتر السجلات ليتبيّن له صحة ادعاء المواطن، فأبلغ بدوره أمين السجل العقاري م.ع. الذي لاحظ أن ح. ن. هو من تولّى تسجيل العقار، فطلب إلى رئيس المكتب إحضار معاملة أخرى أنجزها المحامي المذكور. وهنا كانت المفاجأة. تبيّن أن العقود التي سجّلها ح. ن. غير موجودة. وهكذا، وجد موظفو الأمانة مستقبلهم الوظيفي على المحك. فمسؤولية التقصير يتحمّلها أوّلاً أمين السجل م. ع.، ثم رؤساء المكاتب في بعبدا، يليهم الموظفون الذين يثبت تواطؤهم، علماً أنّ أمين السجل سارع إلى الادعاء على “الإعلامي المشتبه فيه”، بحسب ما أبلغ م. ع. “الأخبار”. وعلى هذا الأساس، أُبلغ التفتيش القضائي وتحرّكت النيابة العامة المالية لفتح تحقيق في القضية.
اليوم، يجري التحقيق بإشراف النائب العام المالي علي إبراهيم الذي يُدقق في العقود المسجّلة للتأكد من الادعاءات. وقد استمع القاضي إبراهيم إلى إفادات الموظفين في السجل العقاري بعدما تبين أن العقود غير موجودة أو اختفت من المستودع. ثم استجوب ح. ن. أول من أمس. وفي هذا السياق، علمت “الأخبار” أن إبراهيم كان بصدد توقيف الإعلامي بعدما رأى أن الحصانة الممنوحة له (بكونه محامياً) لا دور لها، لأن الجرم وقع خارج إطار المهنة، ولا سيما أنّه اعتبره مرتكباً. لكن نقابة المحامين ارتأت عدم توقيفه طالبة إرجاء بتّ الأمر.
ولتبيان “القطبة المخفية” التي سمحت بالتلاعب بعدد غير محدد من العقود، تعرض مصادر قضائية الآلية التي تسلكها المعاملة. إذ تبدأ عند رئيس المكتب المعاون (عددهم ثلاثة في بعبدا)، الذي يتسلمها بعد أن يستوفي رسوم التسجيل التي تُعرف بـ”ضبط الرسم”، علماً أن المعاملة مرتبطة بالرسم ولا يمكن أن تمرر من دون دفعه. وفي العادة تُستوفى رسوم القيمة لدى كاتب العدل. وقد جرت العادة، بناءً على اتفاق مسبق بين البائع والشاري، أن يُصار إلى خفض القيمة المصرّح عنها في العقد لدى كاتب العدل لخفض قيمة التسجيل. وفي هذه القضية، فإن معاملة تسجيل عقار يُفترض أن تُرسل معها قائمة مفردات، تُظهر النواقص. وبحسب المصادر، لم يكن المتهم يُبرز مستند القيمة التأجيرية لدى عرض المعاملة، ليطلب من الموظف أن يقتطع الرسم على أساس القيمة المصرّح بها على العقد لحين ضم القيمة التأجيرية، علماً أنها في حوزته. وعلى هذا الأساس، تُدمغ المعاملة بعبارة “يُسجّل العقد احتياطياً”، لحين استكمال النواقص وضم مستند القيمة التأجيرية التي تعكس قيمة العقار الحقيقية وتصدر عن وزارة المال. بعدها يدفع المحامي بدل رسم التسجيل على أساس السعر الأدنى. وفيما يُفترض أن يكون تحويل المعاملة إدارياً، كان المشتبه فيه يسلّم المعاملة باليد لأمين السجل المركزي بفعل “المَونة”. وفي هذه الأثناء، يُضيف القيمة التأجيرية إلى المعاملة التي يوقّعها أمين السجل من دون التدقيق في الفارق بين القيمة المصرّح بها والقيمة التأجيرية. وبعدها، يقوم بـ”إخفاء الملف لإخفاء معالم جريمته”، بحسب المصادر نفسها.
وفي اتصال مع “الأخبار”، ردّ الإعلامي على الاتهامات التي طاولته، قائلاً إن “القضية عمرها ٢٥ يوماً، لكن ضخّمتها الشائعات”. وإذ أشار إلى وجود أخطاء تُتدارك سببتها فوضى السجل العقاري وخلل أدى إلى تراكم هذه الأخطاء، إلا أنه رأى أن القضية تختصر بجملة واحدة هي: “اقتطاع رسوم التسجيل على المبلغ الأقل”. وذكر أن “التحقيق الذي تجريه النيابة العامة المالية كشف أن أكثرية الأخطاء وعمليات التلاعب كانت عندي، لكنه كشف أيضاً أخطاءً ارتكبها غيري”، مشيراً إلى وجود شقين للمعالجة أحدهما إداري يتعلّق بالمسألة المالية والآخر قضائي. وعن وقف برنامجه الذي يُعرض على قناة “المنار”، قال إن لذلك علاقة ببرمجة شهر رمضان.
تجدر الإشارة إلى أنّ القانون ينص على معاقبة من يكتم الثمن الحقيقي للعقار الذي يشتريه أو يبيعه، بمصاريف العطل والضرر وبغرامة تعادل عشرة أضعاف الرسوم التي تكون قد خسرتها الخزينة. وبحسب المصادر، تحرّكت النيابة العامة المالية على أساس هذا النص مع ما يستتبعه من تداعيات قضائية في حال إعادة استيفاء الرسوم مضاعفة من أصحاب العلاقة الذين سيضطرون إلى دفع مبالغ باهظة.
في أمانة السجل العقاري موظفون بلا صفة. أحد بائعي القهوة في أمانة السجل العقاري، عيّنه أحد موظفي السجل موظفاً لديه، فصار يدفع له راتباً شهرياً ليوفّر عليه النزول إلى المستودع. في هذه المصلحة، كما في كل إدارات الدولة، وبدلاً أن تتم “دوريات” التفتيش القضائي بنحو مفاجئ، “يتنبّأ الموظفون” في أمانة السجل بمواعيد قدوم المفتّشين. هناك ظاهرة أخرى تغزو مكاتب السجل العقاري، هي ظاهرة الموظف المتقاعد الذي إما أن يبقى موظفاً يداوم رغم إحالته على التقاعد أو يتحوّل معقّباً للمعاملات، علماً أن قانون السجل العقاري يفرض على معقّب المعاملات أن يحمل بطاقة من مديرية الشؤون العقارية وأن يخضع لامتحان ليحصل على صفة قانونية تفيد بأنه وكيل، لكن ذلك غير معتمد.
بادرت إدارة قناة “المنار”، التي ترفض عادة التعليق على مسائل داخلية، بحسب مصادر مطلعة، إلى إجراء بوقف البرنامج الذي كان يقدمه المحامي، قيد التحقيقات القضائية. وقالت المصادر إنّ المحامي ليس موظفاً من ملاك القناة، بل هو متعاقد لتقديم برنامج أسبوعي، وإن إدارة القناة وجدت أنّ من غير المنطقي استمرار البرنامج في ظل ملاحقة مقدمه. وقد وجدت القناة أنّ من الأفضل اللجوء إلى هذا التدبير لحين صدور القرار القضائي الأخير.