قد تكون شعبية سياسات التقشف تضاءلت خلال السنوات الماضية وقد يكون الفضل في ذلك الى كونها أدّت الى نتائج عكسية غير منتظرة. ولكن، يبدو أنّ الدول أصبحت تشعر بالقلق إزاء تزايد ديونها نسبةً الى الدخل القومي وهذه الظاهرة هي الأولى من نوعها منذ الحرب العالمية الثانية.
من المتوقع أن تزداد نسبة الديون مقارنةً بالدخل في السنوات المقبلة. لذلك نرى انّ صنّاع القرار في دول العالم يتسابقون في محاولةٍ لخفض الإنفاق وزيادة الضرائب.
ويمكن فهم السياسة الأميركية الحالية في هذا السياق، وهذا بالتحديد ما لاحظناه في السنوات الأخيرة في أميركا حيث ازداد إلمام الأميركيين وبالتالي قلقهم إزاء مشاكلهم الأساسية ولا سيما الإنفاق والدين، لذلك نراهم اليومَ يدركون، وأكثر من أيّ وقت مضى، أنه ليس هناك «وجبة غذائية مجانية» وأنّ التهوّر وفشل صنّاع القرار في واشنطن له تأثيراته التي تتمدّد يوماً بعد يوم اذا ما فشلوا في الوصول الى حلول لهذا الدين المتزايد (حوالي ٨٤٪ من الناتج).
من الواضح انّ الولايات المتحدة الأميركية ليست وحدها في مشكلة الديون الوطنية، هذا، مع العلم ان مؤشر الدين نسبة الى الناتج المحلي قد يكون أفضل من دول أخرى مثل اليابان وفرنسا وأوروبا بشكلٍ عام. ويبقى السؤال ما هو تأثير الدين العام في الإقتصاد وهل انّ حجم الدين العام مؤشرٌ الى سوء الأحوال الإقتصادية؟
حسب الـ Government Accountability Office ،GAO في الولايات المتحدة فإنّ زيادة الدين العام ولا سيما كنسبة مئوية من الناتج الإجمالي تشكّل مشكلةً كبيرة وإن على المدى الطويل، وهذا الرأي هو نفسه لـ Carmen Reinhart والذي ظهر في ورقتها الشهيرة «النموّ في وقت الديون السيادية» إذ إنها تركّز على أنّ المديونية العامة تكبح جماح النموّ.
هذا في الاختصار حال الوضع المالي وما يفكر فيه الإقتصاديون. ولكن يبقى القول إنّ آثاره قد تختلف بين الدول وإمكانياتها في التعاطي مع هذه المشكلة التي أصبحت ظاهرة في العديد منها ونتائجها تتفاوت حسب نسب هذه الديون وإمكانيات الدول ولا سيما الصناعية منها في التعاطي معها، مع العلم أنّ اميركا قد تكون اكثر الدول مرونة تجاه هذه المشكلة كونها الدولة الصناعية الأقوى عالمياً وكون الأسواق العالمية تستخدم الدولار في تعاطيها ومعاملاتها وهنالك طرق عدة للنظر الى الدين وتقييمه: تكاليف الفائدة كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي وتكاليف الفائدة مقارنةً مع معدل النمو. وفي هذا الحديث سوف نستخدم الدين مقارنةً بالناتج المحلي للحديث عن مديونية الدول ومشاكلها.
وتنبغي الاشارة الى إنّه ليس للحكومات مال خاص بها وإنّ كل دولار ينفق يؤخذ تلقائياً من القطاع الخاص من خلال الضرائب أو الإقتراض ونحن على يقين أنّ هذه الحكومات تموّل الإنفاق من خلال الإقتراض ما يرتّب ديناً متزايداً على البلد مع آثاره السلبية في الإقتصاد والنموّ والمالية العامة.
في اختصار أيضاً، إنّ العجز المتزايد هو نتيجة إنفاق وخلل في الميزانية العامة وتترتب عليه نتائج سلبية وآثاره قد تكون في إعاقة النموّ والإصلاح وهذه هي:
– ضرائب وارتفاع تكاليف المعيشة
– ضعف في النموّ الإقتصادي وتراجع فرص العمل.
– سياسة مالية أقل مرونة.
– عبء ثقيل تحمله الأجيال المقبلة.
هذا مع العلم أنّ الإنفاق اذا ما تمّ ضمن خيارات رشيدة ومدروسة، بما يعني عجزاً مقبولاً لا يكون مؤلماً بل على العكس مفيداً للإقتصاد إذ إنه يشكل رافعةً للنموّ ويدحض فكرةَ التقشف كحلّ للمشاكل التي تعانيها الدول.
الجدير ذكره أنّ العجز يشكل سنةً بعد سنة إضافة على مديونية البلد وكلما ازدادت المديونية ازداد العجز في النموّ:
أولاً: الفوائد على الديون يجب أن تدفع كل سنة بما يعني زيادة في الانفاق دون توفير أيّ مزايا إضافية. إذا ما كانت أسعار الفوائد مرتفعة فإنها تشكل عائقاً اقتصادياً كونها بالامكان استخدامها في تنشيط قطاعات وتحفيز الاقتصاد.
ثانياً: مستويات عالية من العجز والديون تجعل من الصعب على الحكومات جمع الأموال ويصبح الدائنون يشككون في قدرة البلد على تسديد ديونه ولا سيما عندما تتعدّى هذه الديون نسبة الـ٧٠% أو أعلى مقارنةً بالناتج المحلي الاجمالي فيطلبون أسعار فوائد أعلى كون أموالهم أصبحت في دائرة الخطر؛ وقد يترافق ذلك مع تخفيض في التصنيف الائتماني لهذه الدول ويصبح معها الحصول على أموال اضافية صعباً للغاية (وللتذكير هذا ما حدث مع اليونان وأزمته في ٢٠٠٩).
ما ذكرناه يعني أننا في حلقة مفرغة قد تصل في بعض الأحيان الى ارتفاع كبير في أسعار الفوائد وتصبح باهظة الثمن بالنسبة لهذه الدول ما يعني أنه واذا ما استمرت لفترة طويلة قد تؤدي الى إفلاس البلاد.
والمعادلة قد تكون بسيطة للغاية إذ إنه وعندما تذهب معظم أموالنا فوائد على الديون، من الطبيعي أن يكون هناك مالٌ أقل للإنفاق على الأولويات الأخرى ولا سيما الصحة والتعليم والبنية التحتية ما يعني انكماشاً حتمياً في مختلف القطاعات وفي الاقتصاد ككل بشكل عام.
وهنالك توافق على الدوام على أنّ العجز الضخم في الميزانية يمكن أن يتحوّل الى مشكلة كبيرة للدولة والاقتصاد، ولأسباب قد يكون أهمها تمويل العجز وإيجاد السبل لتخفيفه، وهو اذا ما تراكم زاد عملية الانفاق. وقد يكون السبيل الأسهل لهذا التمويل زيادة الضرائب التي عادة ما تتسبب في عصر الانفاق ويتأتّى عن ذلك تراجعٌ مضاعَف في الناتج والنموّ.
السؤال الذي يطرح نفسه ويستوجب حلولاً وردوداً مفيدة: ما هو مقدار الدين العام المسموح به وكيف يُعالج. وللعلم لا توجد أجوبة صريحة، ويبدو انّ الكثير من البلدان قد تكون قادرة على تحمّل نسبة أعلى من الدين مقارنة بالناتج. كذلك فإنّ الطريقة التي يتم فيها احتساب هذه الديون/ الدخل والنسب قد تكون مضللة في بعض الأحيان، والحلول وإن جاءت فقد تكون مختلفة بين الدول ودائماً حسب وضعية هذه الدول وقيمة الناتج وقدرتها على الإيفاء بوعودها.
والمثل الأول قد يكون الولايات المتحدة الأميركية والتي إن زاد دينها في السنتين الأخيرتين بشكل مضطرد فهذا ليس وبالمطلق مدعاة قلق. وتبقى اليونان التي تحاول جاهدة الايفاء بوعودها للمؤسسات الدولية واللجنة الأوروبية من خلال بيع أملاكها وجزرها ولا سيما انّ ميركل كانت جازمة لناحية وجوب التخلص من بعض الأصول للإيفاء بوعودها.
وبالمطلق، هذا لا يعني انّ تسديد الديون أمر مستحيل ولكنّ العملية قد لا تكون بالسهولة نفسها وفي جميع الدول خصوصاً اذا ما زادت نسبة الدين مقارنة بالناتج وهذا الوضع ينطبق على العديد من دول العالم ولا سيما اليابان واليونان وايطاليا ولبنان والبرتغال وغيرها، ويتطلب إعادة تقييم جذرية لا يمكن تجاهلها والتغاضي عنها وتستلزم أجندة عمل تقشفية وإن كانت في بعض الأحيان غير ناجعة اقتصادياً.