الانطلاق المحتمل والمرجو لانتاج البترول والغاز الطبيعي في لبنان هو حدث تاريخي ينطوي على الكثير من الآمال للاقتصاد اللبناني ولرفع مستوى معيشة اللبنانيين.
الا انه ينطوي ايضاً على بعض الانعكاسات السلبية التي تسمى في علم الاقتصاد “المرض الهولندي”، مثل التضخم المالي والفساد واهمال سائر مرافق الانتاج الوطني.
تضاف الى ذلك في ما يخص لبنان بعض المحاذير والانحرافات التي بدأت تظهر في السياسة البترولية والتي تستلزم الكثير من الحذر قبل توقيع اتفاقات استثمار يصعب التراجع عنها في المستقبل.
الدكتور نقولا سركيس المستشار البترولي ومؤسس والرئيس السابق للمركز العربي للدراسات البترولية، أعدّ الملاحظات الآتية التي لخصتها “النهار” من دراسة موسعة اعدها في هذا المجال:1 – نظام استثمار مبهم وغير متماسك:بين اهم انظمة الاستثمار البترولي المعروفة في العالم، اختار المشرع اللبناني نظاماً فريداً من نوعه يشكل مزيجاً بين الامتيازات التقليدية ونظام ما يسمى تقاسم الانتاج.
ولكن بدلاً من ان يؤدي هذا المزيج الى الجمع بين محاسن هذين النظامين المشار اليهما باقتضاب في القانون البترولي رقم 132/2010، فإن نصوص أول مشروعي المراسيم التطبيقية غيرت جوهر هذين النظامين ونزعت عنهما المزايا والمحاسن الخاصة لكل منهما، وذلك سببه: اولاً، بالنسبة الى نظام الامتيازات اعتماد نسبة اتاوات منخفضة جداً مقارنة بالمعايير المعروفة دولياً، وثانياً، بالنسبة الى نظام تقاسم الانتاج، تنازل الدولة عن حق المشاركة الفعلية في النشاطات البترولية، اي المبرر الاساسي لمثل هذا النظام.
2 – خسارة ما لا يقل عن 14 مليار دولار، فقط من جراء التخفيضات الممنوحة على مستويات الاتاوة:خلافاً لكل ما هو معروف ومطبق في كل انحاء العالم، اي حق الدولة، بادئ ذي بدء، بالتصرف عيناً ام نقداً بنسبة لا تقل عن 12٫5% من انتاج البترول والغاز، فان واضعي مشروعي المراسيم التطبيقية فضلوا لأسباب غير مفهومة تحديد الاتاوات على مستوى يراوح من 5 الى 12% للبترول، و4% فقط، اي ادنى مستوى في العالم، للغاز.
وتشير التقديرات المفصلة في التقرير المرفق الى ان هذه التخفيضات الغريبة في الاتاوات تعني خسائر سنوية لا تقل عن 238 مليون دولار للغاز و325 مليون دولار للبترول، مما يعني اكثر من 14 مليار دولار طوال مدة الاتفاقات اذا اقتصرت هذه على 25 سنة.
بالاضافة الى موضوع الاتاوة، ثمة خسائر لا تقل عنها، تترتب على التنـزيلات والاعفاءات الضريبية وغيرها، الممنوحة للشركات.3 – خطف صلاحيات السلطة التشريعية:ان قانون البترول رقم 132/2010 الذي يقع في 27 صفحة تقتصر على مبادئ عامة من دون ذكر اي رقم او نسبة مئوية او اشارة الى عمليات فعلية في صناعة البترول، ان هذا القانون يبدو كأنه شبح هزيل مقارنة بأول مشروعي المراسيم التطبيقية اللذين يمتدان على 72 و154 صفحة، مع كل الارقام والتفاصيل الخاصة بسياسة البترول والغاز في لبنان.
هذا كله من دون الرجوع الى اصحاب حق التشريع في لبنان، وكأن الـ 128 نائباً الاعضاء في المجلس النيابي قد وقعوا على تفويض او تجيير جزء على غاية الاهمية من صلاحياتهم التشريعية الى ستة موظفين اعضاء في هيئة ادارة قطاع البترول التابعة لوزارة الطاقة والمياه.
واذا كان صحيحاً كما يقال ان الشيطان يختبئ في التفاصيل، فالواقع ان كل شياطين سياسة البترول الوطنية اصبحت تختبئ في تفاصيل المراسيم التطبيقية، بعيداً عن مراقبة ممثلي الشعب اللبناني. وهذا الوضع يطرح على رجال القانون السؤال عما اذا كان ما يجري متفقاً واحكام الدستور الخاصة بالفصل بين السلطات.
4 – ضرورة انشاء شركة بترول وطنية:على الرغم من ان قانون رقم 132/2010 يشير بوضوح الى انشاء شركة بترول وطنية والى مشاركة وطنية فعلية في النشاطات البترولية، فإن المراسيم التطبيقية قد أهملت كلياً هذين الموضوعين الاساسيين. بل ان احدهما لم يتردد في التأكيد في المادة 5 انه “من دون الاخلال بأحكام المادة 36 (2) ليست للدولة نسبة مشاركة في دورة التراخيص الاولى” ..! هذا كله يعيد لبنان اكثر من 50 سنة الى الوراء عندما كانت الشركات صاحبة الامتيازات تسرح وتمرح وتقوم بكل العمليات البترولية، في حين يقتصر دور البلد المضيف على تحصيل الضرائب.
ومن البديهي ان عدم وجود شركة بترول وطنية، كما في كل الدول المجاورة، وعدم مشاركة الدولة في النشاطات البترولية يحتمان على لبنان ان يبقى مجرد متفرج على ما يجري في مياهه واراضيه.
اخيراً، فإن غياب الدولة هذا يجعل من محاسبة الشركات العاملة امراً اقرب الى المستحيل، مهما كانت ضخامة الطابور الجرار من مراقبي وزارة المال الذين يملكون الخبرة ولا الامكان لمعرفة ما يجري في دهاليز حسابات الشركات المتعددة الجنسية.5 – الحاجة الماسة الى الشفافية:انحراف كبير آخر في مسار السياسة البترولية اللبنانية يعود الى التعتيم الشديد على القسم الاهم من النصوص الخاصة باستثمار البترول والغاز، الا وهي المراسيم التطبيقية.
فمن الغريب ان اعصاب اللبنانيين مشدودة منذ اشهر طويلة باقرار هذه المراسيم او عدمه والكل منقسم بين مؤيد ومعارض لهذا الاقرار، في حين ان عدد اللبنانيين الذين انعم الله عليهم بالاطلاع على نصوص هذه المراسيم هو اقل من القليل.أمثلة عديدة على ذلك تفسر الشبهات وعلامات الاستفهام التي اخذت ترتسم، خطأً او صواباً، حول ما يجري في كواليس السياسة البترولية اللبنانية.
علامات استثمار لا بد من تبديدها بأقصى ما يمكن من السرعة كي تتخذ هذه السياسة مجراها الطبيعي قبل فوات الاوان، وكي يؤمن استثمار الثروة النفطية المرجوة، وهو ما يتطلع اليه ويأمله اللبنانيون من مكاسب مالية وغيرها تترتب على انطلاق صناعة بمثل هذه الضخامة في لبنان. هذا من حق اللبنانيين، كما انه من حقهم عدم تخييب آمالهم وآمال اجيالنا القادمة.