مارتن وولف
أنا معجب ببنك التسويات الدولية، ذلك أن اتهام مالكيه – البنوك المركزية الرئيسية في العالم – بعدم الكفاءة أمر يتطلب شجاعة، لكن هذا ما فعله، في الآونة الأخيرة، في تقريره السنوي الأخير.
سيكون من السهل رفض هذا باعتباره انفعالات من النبي أرميا، لكن هذا سيكون تصرفا غير سليم. سواء كنا نتفق مع وجهة نظره حول سياسة الاقتصاد الكلي لفترة ما قبل الثلاثينيات أم لا، فإن بنك التسويات الدولية يثير تساؤلات كبيرة، فالمعارضة عادة ما تُضيف إلى القيمة.
بإمكاننا تقسيم تحليل بنك التسويات الدولية إلى ثلاثة أجزاء: ما الذي تسبب في الأزمة؟ أين نحن الآن في الطريق للخروج منها؟ وماذا ينبغي أن نفعل؟
بالنسبة للجزء الأول، وجهة النظر هي التي تتعلق بـ “الدورة المالية”. هذا التحليل يعود إلى عمل خبير الاقتصاد السويدي الكبير، كنوت فيكسيل، في مطلع القرن العشرين. الفكرة الرئيسية هي أنه إذا كان معدل الفائدة منخفضاً جداً، فإن طفرة يقودها الائتمان المتوسع وأسعار الأصول المرتفعة قد تترتب على ذلك.
أحد الآثار المهمة (والصحيحة) هي أن الائتمان والأموال هما ذاتيا المنشأ: إذ يتم توليدهما بفعل الاقتصاد. عندما تتحول الدورة المالية من الطفرة إلى الانهيار، عندها تندلع الأزمات.
من ثم يتبعها “فترات الركود في الميزانيات العمومية” التي وصفها ريتشارد كو من معهد نومورا للأبحاث – بأنها تخفيض مؤلم للرفع المالي وفترات طويلة من النمو الضعيف. يجادل بنك التسويات الدولية، أن مثل هذه الدورات “تميل إلى أن تظهر آثارها على مدى ما بين 15 إلى 20 عاماً في المتوسط”. للاعتراف بالفضل في موقعه الصحيح، فإن بنك التسويات الدولية قد أعطى مثل هذه التحذيرات قبل أن تضرب الأزمة البلدان ذات الدخل المرتفع من عام 2007.
فيما يتعلق بالجزء الثاني، يلاحظ بنك التسويات الدولية أن النمو قد ارتفع خلال العام الماضي، حيث الاقتصادات المتقدمة تكتسب الزخم، بينما الاقتصادات الناشئة تخسره. مع ذلك، لقد كان الانتعاش بطيئاً وضعيفاً في البلدان التي ضربتها الأزمة.
وفي حين أن النمو العالمي ليس بعيداً عن المعدلات التي شهدناها في العقد الأول من القرن الحالي، إلا أن النقص في مسار الناتج المحلي الإجمالي لا يزال قائماً. في نفس الوقت، فإن المديونية الشاملة تستمر في الارتفاع. يذكرنا بالبنك بأن الأزمات تُلقي بظلال طويلة الأجل.
علاوة على ذلك، سياسات البنوك المركزية تمارس نفوذاً غير عادي في الأسواق المالية، الأمر الذي يوّلد “البحث عن العوائد”، واختفاء تسعير المخاطر وانهيار في تقلبات السوق.
هذا صحيح على الرغم من أن الميزانيات العمومية تبقى فوق طاقتها إلى هذا الحد. في نفس الوقت، فإن تجاوزات الائتمان قد ظهرت في عدد من الاقتصادات الناشئة.
بنك التسويات الدولية يشعر بقلق خاص حول مصادر جديدة للضعف في الأمر الأخير، بما في ذلك الاقتراض الأجنبي من قِبل المؤسسات غير المالية. بشكل عام، يستخلص بنك التسويات الدولية بامتعاض “أنه من الصعب تجنب الشعور بانفصال مُحير بين وضع الأسواق الجيد والتطورات الاقتصادية الأساسية”.
إنه الجزء الثالث – ماذا يجب أن نفعل – الذي يتحول فيه بنك التسويات الدولية إلى نبي من العهد القديم: حيث يُطالب بالتقشف الآن. في البلدان التي شهدت أزمة مالية فإنه يوصي بإصلاح الميزانية العمومية والإصلاح الهيكلي – التحرر من القيود، ومرونة العمل المُحسنة و”تقليل نفقات تخمة القطاع العام”.
كما يُطالب بالتقشف المالي، لكن على عكس، مثلاً جورج أوزبورن، وزير المالية البريطاني، فإن بنك التسويات الدولية يرغب برؤية انسحاب التحفيز النقدي، أيضاً، وهو ما يؤكد مخاطر “الخروج في وقت متأخر جداً وبشكل تدريجي فوق الحد”.
كذلك ينحو البنك إلى تقليل كل من مخاطر وتكاليف الإنكماش، على الرغم من العبء الهائل للديون التي يركز البنك عليه أيضاً.
حتى يينس فايدمان، رئيس البنك المركزي الألماني، لا يفعل ذلك. أن تكون أكثر تشدداً من البنك المركزي الألماني، هذا أمر عجيب. في نفس الوقت، يوصي بشأن البلدان التي شهدت طفرات مالية (التقرير يُشير إلى البرازيل والصين وتركيا)، بتشديد السياسة النقدية الوقائية وفرض القيود الكلية التحوطية. بالنسبة لي، هذا يعتبر مزيجاً من الحكمة والحماقة والشك.
لنبدأ من الشك. بنك التسويات الدولية مُحق بالتأكيد بخصوص التكاليف الهائلة للطفرات التي يقودها الائتمان، لكنه يتجاهل السياق الذي يسمح فيه صناع السياسة لهذه أن تحدث.
على وجه الخصوص، يتجاهل الأدلة على وجود تخمة الادخار العالمي الظاهرة في انخفاض أسعار الفائدة الحقيقية طويلة الأجل، ما قبل الأزمة وصافي تدفقات رؤوس الأموال الضخمة من بلدان ذات فرص استثمارية جيدة، إلى بلدان ذات فرص أسوأ بكثير. كذلك، يتجاهل تأثير التحولات السلبية في توزيع الدخل وفي سلوك الشركات من حيث ميلها للادخار والاستثمار.
مرة أخرى، يصر بنك التسويات الدولية على أن الخسائر في الإنتاج بالنسبة إلى الاتجاه العام أمر محتوم. لا شك في أن معظم الأزمات تنتهي بخسائر ضخمة طويلة الأجل. على أنه في الخمسينيات، تعافت الولايات المتحدة تماماً من الخسائر الضخمة بالنسبة إلى الاتجاه العام لما قبل عام 1929، في الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد الناجمة عن أكبر أزمة على الإطلاق: الكساد العظيم.
هل هذا لأن الولايات المتحدة، على عكس الحاضر الجبان، شهدت في وقت لاحق التحفيز المالي الأكبر على الإطلاق – وهو الحرب العالمية الثانية؟ بإمكاني تصوّر تحذير بنك التسويات الدولية ضد مثل عدم المسؤولية المذكورة تلك، في المالية العامة، آنذاك.
لننتقل الآن إلى الحكمة. أولاً، بنك التسويات الدولية محق بأن يضم صوته إلى التحذيرات بشأن طفرات الائتمان، فبهجتها زائلة ومخلفاتها مؤلمة. هذا صحيح بشكل خاص بالنسبة للبلدان غير القادرة على الاقتراض بسهولة، بعملاتها الخاصة أو بدون مقتنيات كبيرة من احتياطات النقد الأجنبي، فالإجراءات الوقائية مطلوبة بالفعل.
ثانياً، بنك التسويات الدولية محق بالتأكيد على مسألة تسريع الاعتراف بالديون المعدومة ما بعد الأزمة، وإعادة بناء الموازانات العمومية للمقترضين والوسطاء على حد سواء. هذه العملية من التخلص من الرفع المالي هي تقريباً بطيئة جداً دائماً. يضيف عاطف ميان وأمير صوفي إلى هذه الحجة وزناً كبيراً في كتابهما المهم: “بيت الديون”، لكن للأسف، من الصعب سياسياً أيضاً إنجاح هذه العملية.
أخيراً، لنتأمل الحماقة. هناك بالفعل جدال مهم سوف يتم حول التوازن المناسب للفصل بين ردود الفعل في المالية العامة والنقدية على الأزمات المالية.
أعتقد أننا اعتمدنا كثيراً على السياسة النقدية، التي تحمل معها بالفعل العديد من المخاطر التي أكدّ عليها بنك التسويات الدولية بشكل صحيح. لكن الفكرة أن أفضل طريقة للتعامل مع أزمة أثارتها الميزانيات العمومية ذات الرفع المالي المفرط، هي سحب الدعم على الطلب وحتى تبنّي انكماش صريح، تبدو أمر غريباً. النتيجة، حتماً، ستكون ارتفاعات أسرع بكثير في المديونية الحقيقية وموجات أكبر من الإفلاس الذي قد يؤدي إلى اقتصادات أضعف، وبالتالي إلى زيادات أكثر في المديونية. لقد كانت أسباب التخلي عن إجماع فترة ما قبل كينز قوية، مهما كان ما يعتقده بنك التسويات الدولية (وغيره كثيرون).
بنك التسويات الدولية يحق له التحذير. وينبغي على البنوك المركزية أن تستمع له بأدب، لكن في المقابل، لا بد لها من أن ترفض أجزاء مهمة، مما ينصح به.