محمد كركوتي
عاد مسؤولو البنك وصندوق النقد الدوليين ليؤكدوا للمرة الـ 100 (ربما)، أن عمليات غسل الأموال عالميا تقدر بنحو 2.9 تريليون دولار، وأن 1.6 تريليون دولار أمريكي من الأموال النابعة من مصادر غير مشروعة، يتم نقلها بين دول العالم، مشيرين إلى أن الأموال التي يتم كشفها عبر الحدود لا تعادل 2 في المائة من هذا المبلغ. والحديث عن حجم وطبيعة جني هذه الأموال، بات أكثر من الحديث عن كيفية إدارة أفضل المعارك ضد العصابات والجهات التي تقف وراء تبييض الأموال حول العالم. هناك إجراءات اتخذت بالفعل في الأشهر القليلة الماضية، ركزت فقط على المصارف، ولاسيما الكبرى والمتوسطة منها، بما فيها مصارف حصلت على تمويلات حكومية لمنعها من الانهيار في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية. أي أن أموالا شرعية تلوثت في خزائن هذه المصارف ذات الأسماء الرنانة.
والتركيز على المصارف الكبرى يبدو أسهل كثيرا في الحرب على عمليات تبييض الأموال، رغم أن هذه المصارف غسلت مليارات الدولارات دون حسيب أو رقيب على مدى عقود. وأغلبية المصارف المتورطة، اختصرت الطريق على نفسها وعلى السلطات (ولاسيما الأمريكية)، واندفعت بحثا عن تسويات معها، تضمن لها أقل الغرامات الممكنة. فالغرامات وإن كانت بمليارات الدولارات، ليست ذات قيمة فيما لو قورنت بحجم الأموال القذرة والمشينة التي مرت بها، ودخلت خزائنها، لتخرج نظيفة لا يلتصق بها شيء. الجزء الأكبر من هذه الأموال يدخل في القنوات المالية والاستثمارية المشروعة في كل بلدان العالم. وقد يكون التذكير مفيدا بأن أموال المخدرات على وجه التحديد، شكلت سندا رئيسا للمصارف التي غاصت في الأزمة الاقتصادية، وقد ثبتت السلطات الأمريكية هذه الحقيقة الصادمة في ملفاتها، وستظل وصمة عار إلى الأبد.
لعل من أهم الحقائق المروعة التي توصلت إليها المنظمات الدولية كالبنك وصندوق النقد الدوليين، أنه لا يتم الكشف (حتى الآن) إلا عن 2 في المائة فقط من الأموال المغسولة، وهي نسبة مرعبة، إذا ما قورنت بالحجم الإجمالي الذي اتفق عليه لهذه الأموال. كما أن 1.6 تريليون دولار أمريكي من الأموال النابعة من مصادر غير مشروعة، يتم نقلها عبر دول العالم، وللتذكر أيضا، فقد ورد في تقرير لمنظمة النزاهة المالية العالمية، أن 946.7 مليار دولار هي أموال غير مشروعة، تم تهريبها من 150 دولة نامية في عام 2011. وبحسب المنظمة نفسها، ارتفعت هذه الأموال بما لا يقل عن 13.7 في المائة عن حجمها في عام 2010، وفي هذا السياق، تصل فاتورة الجريمة المنظمة عالميا إلى 870 مليار دولار سنويا، كل هذه الأموال يتم تحريكها ونقلها عبر العديد من البلدان، بما فيها البلدان الغربية. فقد وجدت ملاذات آمنة فيها، على شكل استثمارات “إنتاجية”، وشراء عقارات باهظة، ولا بأس من التبرع لجمعية خيرية هنا وجامعة هناك، وغير ذلك من الأعمال التي تكمم الأفواه في كثير من الأحيان.
اتبعت الكثير من الدول أنظمة مقيدة لحركة الأموال، بعضها لا يسمح بنقل أكثر من عشرة آلاف دولار للفرد الواحد. وفي كل الأحوال، فإن أعلى مبلغ مسموح به هو في حدود 20 ألف دولار. لكن مثل هذه الإجراءات لم يكن لها أي هدف فعلي على صعيد محاربة عمليات تبييض الأموال. وتؤكد الحكومات في الغرب والشرق، أن عدد البلاغات الخاصة بهذه الجريمة قليل جدا، وهذا يعني أن الأموال المغسولة تعج في جميع البلدان، رغم كل الإجراءات الدولية التي تم الاتفاق عليها. لكن علينا ألا ننسى، أن بعض الحكومات، بما فيها حكومات تقوم بأداء تمثيلي رائع في “حربها” ضد تبييض الأموال، تفسح مجالات واسعة لهذه الأموال ضمن حدودها. هناك بعض المناطق في هذا العالم، تم إنقاذها اقتصاديا من خلال الأموال القذرة، قبل التبييض وبعده.
لم تعد الاتفاقات الدولية مهمة في هذا المجال. هناك آلاف الطرق التي يمكن أن تقبلها بعض الحكومات من أجل خزن هذه الأموال لديها. وإذا ما أراد العالم بالفعل الوصول إلى درجة مقبولة في معاركه ضد تبييض الأموال، فعليه أن يكون أكثر صراحة وشفافية مع بعض الحكومات المشكوك في تعاونها مع أصحاب الأموال غير المشروعة. والمصارف الكبرى والمتوسطة لم تعد بعد الحملة الأخيرة عليها، مكانا آمنا لتبييض الأموال. فالعيون عليها، وستبقى لأجل طويل، بصرف النظر عن مستوى النتائج. صحيح أن هناك اعتبارات سياسية تمنع نقل المعركة إلى صميم الحكومات نفسها، ولكن الصحيح أيضا، أنه لابد من القيام بذلك، إذا ما أريد بالفعل لهذه الجريمة أن تتوقف، أو على الأقل أن تصل إلى مستويات متدنية.
نحن نعلم، أن بعض الحكومات الغربية تحتفظ بهذه الملفات لاستخدامها سياسيا في الوقت المناسب، أو لجعلها أداة ضغط مستمرة. ولا يبدو أن هذه الحكومات ترغب في أن تعترف بأن تبييض الأموال ليس قضية سياسية. إنها مسألة حياة أو موت في العديد من البلدان الفقيرة، والمجتمعات التي تعيش على عتبة الكفاف.