عبد الكافي الصمد
التحذيرات من أزمة مياه هذا العام بدأت تتجلى في غير منطقة من لبنان. فمؤسسات المياه باشرت تنفيذ برامج تقنين قاسية، ومنها مؤسسة مياه طرابلس والشمال. وبحسب المعنيين، تتجه الأوضاع إلى الأسوأ. انتظروا صيفاً حاراً على جميع الصعد
«نحن مقبلون على أزمة مياه كبيرة». تكاد هذه العبارة تكون مشتركة بين جميع المسؤولين والعاملين في مصالح المياه في طرابلس والشمال، وهذا كاف لبث المزيد من القلق في نفوس المواطنين، وخصوصاً المزارعين منهم، الذين سيرزحون تحت عبء هذه الأزمة بما لم يعهدوه من قبل.
ملامح هذه الأزمة كانت قد بدأت خلال فصل الشتاء، وتحديداً في شهري كانون الأول وكانون الثاني، عندما تراجعت نسبة هطل الأمطار وتساقط الثلوج إلى مستويات قياسية، وجعلت المثل الشائع عن أن «كانون فحل الشتي» لا ينطبق عليهما هذا العام، إلى حد أن كبار سنّ قالوا إنهم لم يعرفوا شحّاً للمياه بهذا الشكل منذ نحو 70 سنة.
منذ مطلع السنة تصاعدت تدريجاً التحذيرات من أن يشهد لبنان خلال هذا الصيف أزمة مياه حادة، للريّ والشفة على حدّ سواء، ما يسقط عملياً كل الادعاءات السابقة عن أن لبنان بلد مكتفٍ ذاتياً بالمياه، ولديه فائض منه، بما يجعله استثناءً من بلدان المنطقة.
في طرابلس ومناطق الجوار، وتحديداً الضنية، بدأ العمل ببرامج تقنين لمياه الشفة نتيجة تراجع مستوى تدفق مياه ينابيع عدة، واستفحال أزمة مياه الريّ التي تهدد بتراجع إنتاج القطاع الزراعي. وقال رئيس قسم الإنتاج في مصلحة مياه طرابلس كمال مولود لـ«الأخبار»: «بدأنا منذ 10 أيام بتنفيذ برنامج لتقنين مياه الشفة في محلة القبة، وتحديداً في الأحياء القريبة من مؤسسة الريجي وفي منطقة جبل محسن، بحيث تأتي المياه يوماً في منطقة وتنقطع في يوم آخر، وبالعكس مداورة».
وإلى منطقة القبة، بدأت مصلحة مياه طرابلس أمس الخميس، حسب مولود، «برنامج تقنين مماثلاً في منطقة أبي سمراء، وتحديداً في محلة الشلفة التي يكثر فيها هدر مياه الشفة بسبب التعدّيات على الشبكة، أي إن المياه ستنقطع يوماً عن القاطنين فيها وتأتي في يوم آخر».
يرد مولود أسباب برنامج التقنين إلى «انخفاض منسوب مياه الينابيع الثلاثة التي تتغذى منها مصلحة مياه طرابلس بنسبة متوسطة تقارب 15 ـ 17 في المئة، إذ تراجع منسوب نبع هاب، وهو الأكبر بينها، 30 في المئة، ونبع أبو حلقة 10 في المئة، ومثله نبع رشعين».
هذا الوضع الصعب يردّه مولود إلى أن «معدل هطل الأمطار هذه السنة لم يتجاوز نسبة 43 ـ 45 في المئة من المعدل العام، فضلاً عن عدم تساقط الثلوج كفاية هذه السنة، فأصبحنا في ظل هذا الوضع نتصرف بمصادر المياه وكأننا في موسم الجفاف وليس في موسم الغزارة وتفجّر مياه الينابيع، الذي يفترض أن يكون هذه الأيام».
ومع أن بقية مناطق طرابلس لا تعاني حالياً من مشاكل ولا تخضع لبرامج تقنين، فإنها معرضة في الشهرين المقبلين، حسب مولود، «لأزمة في هذا المجال، نتيجة تراجع طبيعي في تدفق مياه الينابيع»، ما جعله يُعوّل على «وعي المواطنين لترشيد استهلاك المياه وتخفيف الهدر وعدم استخدامها إلا عند الضرورة، حتى نتجاوز هذه الأزمة بأقل كلفة ممكنة».
أما في الضنية، فإن الأزمة تقتصر حتى الآن على مياه الري، باستثناء برنامج تقنين يراوح بين 5 ـ 6 ساعات يومياً في بلدتي بخعون وسير كبرى بلدات الضنية، إلى حد أن مصلحة مياه الضنية لجأت إلى توزيع الفائض من مياه الشفة لتعويض النقص الفادح في مياه الري التي تشهد أزمة حقيقية هذه السنة، ما ينذر بوقوع إشكالات كانت تشهدها المنطقة عادة في أوقات ندرة مياه الري وتراجع منسوبها.
أبرز هذه الإشكالات بدأت في بلدة قرصيتا في أعالي جرد الضنية، التي تعتبر واحدة من أكبر البلدات المنتجة لثمار الإجاص في لبنان (نحو 400 ألف صندوق سنوياً)، وقد بدأ المزارعون فيها يشكون قلة مياه الري وعدم توافرها بنحو كافٍ لري أراضيهم، ما يستدعي تدخل بعض وجهاء المنطقة وفاعلياتها لحل النزاعات.
وما يزيد المخاوف أن الضنية المشهورة بوفرة الينابيع فيها مقارنة ببقية المناطق اللبنانية، «معرضة لفقدان مياه الري في غضون شهر إلى شهر ونصف تقريباً» حسب مصادر في المنطقة، ما قد يعرض القطاع الزراعي الذي يعتاش منه أكثر من نصف أهالي الضنية «لنكسة غير مسبوقة»، وهي دفعتهم إلى «الاستغناء عن زراعة أنواع كثيرة من الخضراوات الصيفية، من أجل توفير المياه لري الأشجار المثمرة».
رئيس بلدية قرصيتا محمد علوش أكد لـ«الأخبار» هذا الأمر، وأوضح أنه «من أجل معالجة المشكلة وعدم حصول مشاكل بين المزارعين، تشكلت لجنة من بلدات نمرين وقرصيتا والسفيرة، بعد لقاء موسع مع مصلحة مياه الضنية وفاعليات المنطقة، مهمتها توفير المياه لري الأشجار منعاً من يباسها، وليس من أجل إنقاذ الموسم، الذي قضي على أكثر من 80 في المئة منه عملياً».
هذا الوضع دفع علوش إلى تحميل مجلس الإنماء والإعمار مسؤولية الجزء الأكبر من المشكلة، لأنه «لم ينفذ أشغال سد بريصا، الذي يتسع لنحو مليوني متر مكعب من المياه، وفق الأصول (لم يستخدم السدّ بعد برغم الانتهاء منه، بعدما تبيّن أن أرضيته لا تحفظ المياه المتجمعة فيه)، وهو كان يمكن في حال استخدامه حل المشكلة».