IMLebanon

هذا العجز العام في لبنان !!..

LebanEcon2

مكرم صادر

يصلح عنوان هذا المقال لتوصيف عمل مؤسسات الدولة وإداراتها دون استثناء، علماً أننا أردناه بمعناه الضيّق العائد لموازنة الدولة وماليتها العامة. طبعاً الشغور في موقع الرئاسة الأولى ينتج عنه ويرتبط به شلل متزايد وليس جديداً في عمل وأداء سائر مؤسسات الدولة وأجهزتها. بينما شؤون الناس وشجونها متروك أمرها للوقت وللصدف علَّهما يأتيان بسحر المعالجة الجيدة.
مخاطر كثيرة تحاصر البلد والاقتصاد. يمكن معالجة بعضها، لا سيّما في ما يخصّ الجوانب الأمنية والسياسية بإعطاء القوى السياسية في البلد الأولوية لمصلحة الوطن. ويمكن معالجة بعضها الآخر على المستوى الاقتصادي – الاجتماعي بإعطاء الأولوية لمصلحة الناس، ليس فقط في المدى القصير بل وكذلك مصلحتهم في المدى المتوسط والطويل. ويأتي في مقدّمها ملفات ضاغطة كالضمان الاجتماعي بشقّيه الضمان الصحي بعد التقاعد ومعاشات التقاعد ذاتها وحصة الأجور من الناتج المطلوب حكماً زيادتها من خلال توسيع وشرعنة عمل المؤسسات ومن خلال زيادة إنتاجية العمل. فإرتفاع حصة الأجور من الدخل القومي شرط ضروري لمعدّلات نمو أفضل وأبقى. فكيف نحلّ هكذا مسألة هامة في ظل نمو اقتصادي يقارب معدله الواحد ونصف بالمئة! هذا الواقع يؤدّي إلى تفاقم التفاوت الاجتماعي وإلى المزيد من انعدام التوازن في توزيع المداخيل.
ومن المخاطر الداهمة التي تحاصر البلد والاقتصاد والتي نوَّد التوقف عندها في هذا المقال مسألة المالية العامة والدين العام وتأثيرهما المحتمل على الاقتصاد.
يتضمّن مشروع موازنة العام 2014 والذي أعلن عنه معالي وزير المالية مؤخراً توسّعاً في العجز قدره 21،4% (من 4،2 إلى 5،1 مليار دولار) مقارنةً مع العام 2013. فالدولة تقدِّر مدفوعاتها الإجمالية بما يزيد عن 15،2 مليار دولار (!) تتوزّع بنسبة 37% على الأجور في القطاع العام ولواحقه وبنسبة 27% على خدمة الدين وبنسبة 36% على النفقات الأولية خارج خدمة الدين. فكل أبواب الإنفاق ازدادت نسبياً باستثناء خدمة الدين، نتيجة الجهد المنهجي والمنتظم من قبل المصارف ومصرف لبنان لتخفيض الفوائد وضبط خدمة الدين. وتأخذ بعض الأوساط على القطاع استفادته من مديونية الدولة! والحقيقة أن الإيرادات من موجودات المصارف لدى مصرف لبنان والخزينة لا تقارب 52% من مجمل إيراداتها، وهي أدنى من نسبة هذه التوظيفات البالغة 56% من إجمالي توظيفات المصارف.
وإذا كانت المصارف تستفيد من حجم إقراض الدولة، فلماذا لا تعتمد الدولة سياسة تخفّض ولو تدريجياً في مدى السنوات الخمس القادمة على سبيل المثال مديونيّتها لدى المصارف؟ ويمكن إرساء هكذا سياسة بل وإنجاحها من خلال تسويق سندات الدين لدى المواطنين، كما هي الحال في جميع أرجاء العالم! ويمكن من خلالها تطوير السوق المالية بإصدار الدولة سندات دين تدرجها في بورصة بيروت وتكون مخصَّصة للمستثمرين. ويمكن أخيراً أن يساعد مصرف لبنان في هذا الاتجاه، أي تخفيض مديونية الدولة على دفاتر المصارف من خلال تعاميم تربط الدين المموَّل من قبل المصارف برساميل المصارف. إقراض الدولة من قبل المصارف هو “أكره الحلال”. ويا ليتَ يوماً يأتي تعقلن الدولة فيه نفقاتها فتعتمد أقلّ على الاستدانة من القطاع المصرفي، فتتراجع مخاطر المصارف وتتحسّن درجة تصنيفها وبنية أرباحها.
المشكلة الأساسية على هذا الصعيد، والتي يعيها تماماً مصرف لبنان ووزارة المالية أن ترويج أوراق الدين الحكومية لدى المستثمرين مباشرةً وفي الأسواق المحلية والخارجية يتطلّب رفع مستوى المردود عليها بما يتناسب مع المخاطر السيادية للبنان. ويترتّب على ذلك مضاعفة كلفة الدين العام على الأقل!!… من غير أن يكون مؤكّداً أن تتجاوب الأسواق مع حاجات الدولة التمويلية بالعملات الأجنبية خاصةً. فمديونية الدولة، بدل أن تتحسّن، سجَّلت نسبة نمو أعلى بكثير من نمو الاقتصاد ما أدّى إلى ارتفاع نسبة الدين عام 2013 إلى 139% من الناتج المحلي الاجمالي مقابل 134% في نهاية العام 2012. ومن المتوقَّع، استناداً إلى مشروع موازنة العام 2014 ، أن تتدهور هذه النسبة لتصل مع نهاية العام 2014 إلى 144%!!…
وطبعاً لا نتكلَّم عن ودائع المصارف بالعملات الأجنبية لدى البنك المركزي الذي تدعم احتياطياته بالعملات الصعبة وتشكّل أساس الاستقرار النقدي، أي أساس استقرار القوة الشرائية للّيرة اللبنانية، علماً أن كل أجور ورواتب القطاع العام بما فيه رواتب وتعويضات السادة الوزراء والنواب محرَّرة بالليرة التي نشكّل نحن دعامة استقرارها والمحافظين على قوتها الشرائية. مع ذلك، على قول الشاعر، تأتي “مَذَمَّتي” إن في المؤسسات أم في الشارع، من أكثر الفئات استفادةً من الاستقرار النقدي!!… الفئات الأكثر استفادةً من الإنفاق العام تُريدُ محاكمة القطاع المصرفي مموّل هذا الإنفاق!.. ويريدون محاكمة قطاع يوفّر 97 ألف قرضٍ سكني للموظفين ولذوي الدخل المحدود بمبلغ فاق 8.824 مليون دولار مع نهاية شهر آذار 2014!… ويوفّر للفترة ذاتها 120 مليون دولار لأكثر من 9976 طالباً!…
متانة القطاع المصرفي هي الركيزة الأساسية لاستقرار سعر صرف الليرة، وليس الحجم المتزايد للعجز والمديونيّة العامة! المصارف تُدعِّم الاستقرار المالي، والدولة بإنفاقها الجامح تساهم في إضعاف الاستقرار المالي. ونُدرِج أدناه نصّين يضعان الإصبع على الجرح. يعود الأول لمصرفي مُجَرَّب وعريق والثاني لإقتصاديّ موثوق وموضوعي.
فقد ورد في خلاصة كتاب الأول الدكتور نعمان الأزهري، أن فرص تدارك المخاطر المالية على لبنان ما زالت متاحة، من جهة، بزيادة معدّل نمو الناتج المحلي الإجمالي، ومن جهة ثانية، من خلال تخفيض تدريجي ولكن جذري لعجز الميزانية.
وكتب الثاني، الدكتور توفيق كسبار، ما حرفيّته: ” لِنَعِد أخيراً إلى سياسة ضبط العجز المالي التي يتوجّب تنفيذها بأسرع وقت. وللتذكير، تقتضي سياسة التقشف الحفاظ على عجز للموازنة بحيث تبقى نسبة الدين إلى الناتج المحلي على مستوى انحداري، إذ إن هذا المؤشر هو الأساس لكي تستمرّ الأسواق المالية المحلية والأجنبية في إعادة تمويل استحقاقات الدين، وبالأخص حين تكون تلك النسبة مرتفعة جداً كما هي الحال في لبنان “.
مع الأسف، لا الاقتصاد ينمو بكفايةٍ ولا العجز يُخفَّض، بل يُزاد! والسياسة المالية تستنفد بسرعة حّيز الوقت الذي اشترته لها السياسة النقدية خلال عقدين من الزمن.