Site icon IMLebanon

«الدولة الغنائمية» والريع: زواج الاستبداد والعولمة

Akhbar
فراس أبو مصلح

يقدّم الباحث في «الإسكوا» أديب نعمة مفهومه لما يسمّيه «الدولة الغنائمية واقتصادها»، ويدعو، في كتاب صدر عن دار الفارابي بعنوان «الدولة الغنائمية والربيع العربي»، إلى تبني نماذج اجتماعية _ اقتصادية تنموية بديلة كشرط للخروج من دائرة الاستبداد والإفقار والتبعية للخارج.

ينسب نعمة كتابه إلى «الحراك المجتمعي الذي تشهده كيانات عدة من العالم العربي منذ 2010 وحتى اليوم، بهدف المساهمة معرفياً في مسار التغيير الحاصل باتجاه الأهداف المشتركة المعلنة للحراك، المعبّر عنها بشعار «بناء الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة، نقيض نمط الدولة الغنائمية» السائد.
التغيير السياسي مدخل لكل تغيير آخر، اجتماعي _ اقتصادي وثقافي، بحسب نعمة الذي لا يبحث عن «نموذج محدد» للدولة، بل عن «صيغ متعددة لبديل يستند إلى مرجعية حقوق الإنسان، تتحقق فيه مستويات عالية من التنمية المتمحورة حول الإنسان، في ظل دولة مدنية ديموقراطية يكون تداول السلطة فيها سلمياً وفعلياً».

«الريع» و«الغنائمية» مفهومان متلازمان
الريع هو «العائد الذي ينتج من وضعية من يحصل عليه بحكم ملكيته، أو موقعه، أو أفضلية يتمتع بها من دون انخراطه المباشر في عملية الإنتاج»، كالريع العقاري، والسماح باستثمار النفط والموارد المنجمية، والمياه، والفوائد المصرفية، واحتكار أو ملكية الحقوق، والتحكم بالإجازات أو الإجراءات، وفرض المشاركة بالأعمال أو الأرباح… يشرح نعمة أن مفهوم الدولة الريعية «يشمل نمط العلاقات النفعية _ المادية الذي يسود بين الحاكم والرعايا»، حيث تجبي الدولة الريع لزيادة ثروة الحكام، وتوزع حصة منه على الرعايا بحسب درجة القرابة والولاء لمركز القرار، وبما يخدم استقرار الحكم، بغرض «إعادة إنتاج علاقات الولاء والتبعية، واستبعاد إمكان بناء علاقات مواطنة قائمة على الحق والرقابة والمساءلة». النظام اللبناني ببعديه السياسي والاقتصادي ريعيٌ بامتياز، يقول نعمة، إذ تلعب أجهزة الدولة دور «إعادة إنتاج السلطة بالأشخاص والتيارات نفسها، ووسيلة ريع اقتصادي أيضاً، من خلال التحكم بإجراءات النشاط الاقتصادي، والفساد واستغلال المنصب العام، والرشوة». «الفساد ظاهرة أو نتيجة لواقع الأنظمة العربية التسلطية، وليس سبباً لطبيعتها هذه»، فالزبائنية «إحدى وسائل تعميم الفساد وتوزيع الريع الناجم عنه» يجري استخدامها لتشكيل «قوى الثورة المضادة» المناهضة للتغيير، بحسب ما يقول.

«تحول الفساد إلى ظاهرة عضوية في النظام النيوليبرالي المعولم، مع تضخم الاقتصاد المالي وانفصاله عن الاقتصاد الحقيقي، وتحول الشركات العالمية العملاقة الى مصادر الفساد العالمي الأكثر أهمية وتأثيراً»، يقول نعمة. واعتبر أنه «يصعب تصور فساد فعلي في العالم الثالث، على المستوى السياسي والاقتصادي، دون الشركات والمؤسسات العالمية التي غالباً ما تكون إداراتها شريكاً كاملاً في النشاط الاقتصادي وفي الصفقات السياسية الاقتصادية في هذه البلدان». يتحدث نعمة عن تحوّل اقتصادات المراكز الرأسمالية إلى الريع، إذ أصبح ناتجها بمجمله «ناجماً عن عوائد العمليات المالية غير المرتبطة بالإنتاج والتداول الحقيقي للسلع والخدمات»، فبلغت القيمة الكلية للتداول في القطاع المالي في العالم عام 2007، عشية الأزمة الاقتصادية العالمية، 288 ضعف القيمة الإجمالية للتجارة العالمية يومياً، و40 ضعفاً القيمة الإجمالية للناتج العالمي اليومي المجمع؛ فتكرّس الفساد «عنصراً عضوياً مكوناً للنظام العالمي، الذي استعاض عن الربح الرأسمالي المتولد عن فائض القيمة الناتج من استغلال العمل في عملية الإنتاج، بالريع المتولد عن القدرة على السيطرة على النظام والتحكم بآلياته، من خارج العملية الاقتصادية المنتجة».
يقول نعمة إن «الطابع الريعي للاقتصاد وتآكل الديموقراطية داخل مجتمعات بلدان المركز الرأسمالي نفسه هو سمة للنظام العالمي وليس للاقتصادات العربية فقط»، ذلك أن «اندماج الاقتصاد بالسياسة والقوة العسكرية في الاقتصاد العالمي» تكرس في «تحالفات معولمة شملت الحكام في البلدان النامية، في علاقة استتباع معممة في السياسة والاقتصاد والثقافة». «من الخطأ الاعتقاد أن استمرار الاقتصاد الريعي أو توسعه يعتبر مساراً مناقضاً لمسار العولمة النيوليبرالية»، فهو حقيقةً «استجابة للتوجه العام للعولمة النيوليبرالية نفسها». ويشرح أنه «كما على الصعيد الكوني، فإن الاقتصاد الريعي يستدعي مستويات أعلى من الاندماج بين السلطة والدولة والاقتصاد، خلافاً للاعتقاد السائد بأن العولمة النيوليبرالية تتطلب تحرير الاقتصاد من تقييد الدولة والقطاع العام»، موضحاً أن «ما تعترض عليه النيوليبرالية هو الدولة التي تريد لنفسها دوراً تنموياً يأخذ في الاعتبار المسؤولية الاجتماعية وتتبنى مفهوم دولة الرفاه والرعاية، وبالتالي (الدولة) تقيّد آليات السوق وتضبط القطاع الخاص في إطار مبدأ اجتماعي أعلى قيمة من الربح». أما «الوجه الثاني الذي تريد العولمة النيوليبرالية التخلص منه في دور الدولة فهو تموضعها بصفتها تعبيراً عن المستوى الوطني الذي يتمتع بسيادة تسمح له بالتدخل في العلاقات الاقتصادية بين المستوى الكوني والاستثمارات والمشاريع التي تنفذ محلياً»، يقول نعمة إن الأدبيات المعولمة ترفض الاعتراف «بالاقتصاد الوطني وبمتطلبات قيامه المستقل ذاتياً من خلال إنشاء إدارة وطنية مستقلة، يحق له من خلالها أن ينتقي خياراته وأن يقرر وجهة النشاط الاقتصادي، وأن يتدخل رفضاً أو تعديلاً أو قبولاً مشروطاً بالوصفات التي تأتي من المؤسسات الدولية أو الدول المانحة أو المستثمرين الأجانب»، وأن «العولمة النيوليبرالية لا ترتاح حتى إلى الدولة الليبرالية في البلدان النامية إذا كانت هذه الأخيرة تود أن تحتفظ لنفسها بدرجة معينة من حرية الحركة والخيارات».
الوطني الشرير في العولمة النيوليبرالية

«كل ما هو فوق وطني هو معاصر ومحمود في منطق العولمة، وكل ما هو دون وطني، سواء كان إثنية أو قبيلة أو مجموعة محلية أو طائفة، يستحق الاحترام والاعتراف له بالحقوق»؛ لكن كل ما يتعلق بالمستوى الوطني، الدولة والسيادة على الاقتصاد والجيش المستقل وخلافه «يبدو كأنه ينتمي إلى حقبة انقضت بحسب إيديولوجية العولمة النيوليبرالية؛ ويُعتبر تدخل المستوى الوطني دائماً من الشرور التي ينبغي تجنبها عندما لا تتصرف الحكومة الوطنية باعتبارها مجلس إدارة مكلفة من قبل العولمة بأداء وظائف محددة في خدمة المتحكمين بالنظام العالمي».
«الصيغة الطرَفية للعولمة تحمل كل سلبيات العولمة النيوليبرالية بشكل مضخم، دون معظم إيجابياتها»، يجزم نعمة، محملاً العولمة هذه مسؤولية «توحيد السياسة والاقتصاد في بنية النظام والدولة والأشخاص» في البلدان العربية المستتبعة، «واستعادة العناصر الثقافية والاجتماعية المتخلفة من تاريخنا، والتراجع عن بعض التقدم والتحديث الجزئي الذي تم في مرحلة بناء الدولة الوطنية؛ فجمعت النظم الحاكمة في بلداننا أسوأ ما في العولمة النيوليبرالية مع أسوأ ما في تراثنا وتاريخنا، لتصنع منهما صيغة فريدة للسياسة والحكم والدولة تتجاوز في سلبياتها كل ما سبق»! لا يكفي وصف الأنظمة العربية بالاستبدادية أو الأبوية أو الفاسدة أو الريعية، يقول نعمة، «فهي كل ذلك وأكثر، ونقترح وصفها بـ«الدولة الغنائمية»»، حيث «الحاكم هو الدولة، والدولة هي المال والأعمال»، حيث «الوزراء والمسؤولون هم إما رجال الأعمال أنفسهم، أو هم وكلاؤهم وحُماتهم والموظفون لديهم، وتتداخل في كل ذلك علاقات القرابة والمصاهرة والشراكة في الأعمال، والأمن والعسكر، والشراكة مع المستثمرين الأجانب، والصداقات مع المسؤولين في الدول الأجنبية، ومع المنظمات المالية الدولية، لينبني من كل ذلك نظام أقرب ما يكون إلى المافيوية»!
«محاولة الخروج من النظام الغنائمي من خلال تطوير رأسمالية السوق والاندماج في الأسواق العالمية»، هي محاولة محكومة بالفشل، يجزم نعمة، مستنداً «إلى التجارب الواقعية، حيث لم يتلازم التحول إلى اقتصادات السوق في العقدين الماضيين مع تحولات ديموقراطية حقيقية، بقدر ما كان الأمر يقتصر على بعض الإجراءات الليبرالية ضمن النظام الغنائمي نفسه». بناءً عليه، يرى نعمة أن على الحراك «الثوري» العربي مهمة «استكمال الأجندة السياسية بأخرى اقتصادية واجتماعية تتضمن خيارات بديلة للسياسات التي فرضها تحالف العولمة مع النظم الغنائمية في العقود السابقة؛ ومن شأن عدم بلورة بدائل تنموية أن يعيد إنتاج النظم الغنائمية تحت أسماء جديدة، ويدفع نحو دورة جديدة من التأزم والانفجار».