IMLebanon

الدولار .. سلاح أميركا الفتاك

FinancialTimes

مارتن أرنولد

من الذي يحتاج إلى حاملات طائرات، أو قاذفات شبح، أو طائرات هجومية بدون طيار؟ الولايات المتحدة تملك سلاحاً أقوى بكثير لفرض سياستها الخارجية على العالم: الدولار.
فقط اسأل بي إن بي باريبا عن ذلك. في الأسبوع الماضي وافق أكبر بنك فرنسي من حيث الأصول على دفع غرامة تقدر بتسعة مليارات دولار، وتقديم إقرارين بالذنب، والقبول بتعليق غير مسبوق لحقوق المقاصة بالدولار الأمريكي لسنة واحدة على قسم تمويل النفط والغاز التابع له.
اعترف البنك بمعالجة معاملات لعملاء في السودان وإيران وكوبا في وقت تخضع فيه هذه البلدان لعقوبات أمريكية. وفي كل هذا لم يخالف بي إن بي باريبا القانون الفرنسي، لكن لأن تلك التعاملات تمت تسويتها بالدولار فإنها تعرض المقرض إلى الثقل الكامل للقانون الأمريكي. وتعتبر تسوية بي إن بي باريبا أقسى عقوبة على الإطلاق يتم فرضها على بنك أجنبي من قبل السلطات الأمريكية، وهي تتجاوز بسهولة أرباحه السنوية الصافية. وقد أصبح أول بنك عالمي كبير يعترف بالذنب بتهم جنائية منذ عقود.
وعلى الفور قفز السياسيون الفرنسيون للدفاع. أرنو مونتيبورج، وزير الاقتصاد الفصيح، اعتبر أن ما تقوم به حكومة الولايات المتحدة حيال بي إن بي باريبا بمثابة “حرب اقتصادية”. لكن أي شخص يقرأ بيان حقائق وزارة العدل الأمريكية حول قضية باريبا يجد أنه من الصعب أن يتعاطف مع البنك الفرنسي الذي تجاهل تحذيرات متعددة لوقف التعامل مع البلدان الخاضعة للعقوبات الأمريكية. وفي وقت مبكر من عام 2004 وقع البنك مذكرة تفاهم مع اثنين من الأجهزة التنظيمية في الولايات المتحدة، واعداً بتحسين نظم الامتثال لديه، التي وجد فيها عمليات رصد معلولة للتعاملات الخارجية.
وبعد ذلك بعام، تمت دعوة موظفي الامتثال في مكتب جنيف التابع لباريبا إلى اجتماع مع كبار المسؤولين التنفيذيين للتعبير عن قلقهم إزاء المعاملات الضخمة مع السودان، التي تعالجها شركة سويسرية تابعة. لكن جورج تشودرون دي كورسيل، كبير الإداريين التشغيليين ورئيس مجلس إدارة الأعمال السويسرية التابعة للبنك، رفض تحفظاتهم وطلب ألا تؤخذ أي محاضر عن الاجتماع.
وعندما وافق بنك إيه بي إن أمرو على تسوية بقيمة 80 مليون دولار مع السلطات الأمريكية لانتهاكه العقوبات باستخدام طريقة مماثلة لتلك التي استخدمها باريبا في عام 2005، كتب ستيفن سترومبيلاين، رئيس قسم الامتثال في أمريكا الشمالية، التابع لبنك باريبا، في رسالة بالبريد الإلكتروني إلى صديق: “إن السر الصغير القذر لم يعد سراً بعد الآن، أليس كذلك”؟
وحظر باريبا في نهاية المطاف المعاملات مع دول تخضع لعقوبات الولايات المتحدة في عام 2007، لكنها استمرت حتى عام 2012. وحتى عندما تم الإمساك به وهو يقوم بذلك، أخذ البنك يجرجر قدميه ولم يقدم أية مواد حول مكتبه في جنيف للادعاء الأمريكي لعدة سنوات، تمكن خلالها من تنقيحها بشكل كبير، متعللا بقوانين السرية المصرفية السويسرية. وقالت وزارة العدل إن هذا التأخير ساعد على منع توجيه اتهامات ضد أفراد، على الرغم من أن تشيدرون دي كورسيل وسترومبيلاين كانا من بين عشرات الموظفين الذين كان يتعين عليهم مغادرة البنك بناء على طلب الأجهزة التنظيمية في الولايات المتحدة.
ويقول أحد المساهمين في المملكة المتحدة إن المساهمين يخططون لاستجواب مجلس باريبا حول كيفية سماحه لمثل هذه الفظاعة الأخلاقية وإخفاقات الامتثال بالاستمرار دون رادع لفترة طويلة. وأضاف: “إنهم يدفعون ثمن الغطرسة”.
من الواضح أن باريبا يؤذي نفسه عند التعامل مع الأجهزة التنظيمية الأمريكية. لكن يتساءل بعض المساهمين عما إذا كانت الولايات المتحدة قد تمادت في استخدام النظام المالي لتحقيق أهداف سياستها الخارجية. ويقول مستثمر أمريكي كبير: “فكرة أن الأجهزة المنظمة نزيهة لم تعد صحيحة. لقد أصبحوا مسيسين في جميع أنحاء العالم”.
وعندما اندلعت الأزمة في منطقة اليورو في عام 2011، قالت الأجهزة التنظيمية الأمريكية لصناديق أسواق المال إنها كانت متعرضة بشكل مفرط لمخاطر المصارف الفرنسية، ما أدى إلى اندفاع للخروج تسبب في إثارة تساؤلات بشأن استقرار النظام المصرفي في البلاد. ونتيجة لذلك انسحبت المصارف الفرنسية من مجالات الدولار الثقيلة، مثل تمويل التجارة، وتركت الباب مفتوحاً على نحو متزايد لهيمنة مصارف وول ستريت لتأخذ حصتها في السوق.
وبالمثل، تراجع مصرف HSBC من العديد من البلدان منذ تسويته المقدرة بـ 1.9 مليار دولار مع السلطات الأمريكية لانتهاكه العقوبات وجرائم غسل الأموال في عام 2012.
ميشيل سابين، وزير المالية في فرنسا، دعا إلى “إعادة التوازن” للعملات المستخدمة في المدفوعات الدولية، وتساءل لماذا لا يمكن تمويل مبيعات الطائرات بين الدول الأوروبية باليورو بدلاً من الدولار. وأصدرت كل من روسيا والصين أصواتا مشابهة ووقعت الدولتان اتفاقاً لتوريد الغاز بقيمة 400 مليار دولار في أيار (مايو)، من المتوقع أن تموله الصين – على الأقل في جزء منه – بعملة الرنمينبي لتجنب أي عقبات يمكن أن تترتب على العقوبات الأمريكية ضد روسيا.
وهناك تشابه “على نحو ما” مع قطاع التكنولوجيا، حيث تستغل الولايات المتحدة هيمنتها بطريقة سيئة، عن طريق اعتراض رسائل البريد الإلكتروني والمكالمات الهاتفية، الأمر الذي يثير رد فعل عنيف ضد شركات معدات الشبكات الكبيرة ومقدمي الخدمة الأمريكيين.
الشكوك في أن الأجهزة التنظيمية الأمريكية بصدد تنفيذ حملة سياسية قد تكون غير عادلة، لكنها تكتسب صدقية. وإذا دفعت الولايات المتحدة سعيها وراء المصارف الأجنبية أكثر من الحد، يمكن لذلك أن يأتي بنتائج عكسية، وقيادة العالم لتنويع اقتصاده بعيداً عن العملة التي تعطي المصارف في وول ستريت مثل هذه الميزة.