بروفسور جاسم عجاقة
فاجأت مجلة «فاينشل تايمز» قرّاءها بالتصريح أن الإقتصاد الصيني سيحتل المرتبة الأولى عالمياً، وذلك ابتداءً من نهاية هذا العام. وإذا كان الإعتقاد بأنّ هذا الحدث لن يكون قبل العام 2019، إلّا أن ضعف اليوان قد يكون وراء تسريع حصول هذا الأمر. من المعروف في الإقتصاد أنّ الدول تعمد إلى إضعاف عملاتها خصوصاً في الدورات الإقتصادية الركودية لكي تُحفّز الطلب الخارجي عبر التصدير إلى الدول الأخرى.
أمّا في الصين، ومع النمو الهائل الذي تعيشه هذه القوة الإقتصادية، كان من الواجب أن يكون سعر صرف اليوان أعلى ممّا هو عليه من ناحية أنّ العملة تعكس الثروة الوطنية. وهنا يكمن سر السياسة الإقتصادية الصينية التي ضمنت الأسواق العالمية عبر يوان ضعيف. فكيف استطاعت الحكومات أن تُبقي على سعر صرف اليوان منخفضاً؟
تُعدّ الصين ثاني دولة إقتصادية في العالم من ناحية حجم الإقتصاد مع ناتج محلي إجمالي يبلغ 9761 مليار دولار خلف الولايات المتحدة الأميركية (16,720 مليار دولار). وهذه القدرة الإقتصادية اكتسبتها الصين نتيجة النموذج الإقتصادي الإجتماعي الذي اعتمدته في سبعينات القرن الماضي، والذي يحتوي على تدخّل متواصل من قبل الحكومة مع نفحة ليبرالية في الإقتصاد.
وهذا النموذج سمح للإقتصاد الصيني بالنمو بنسبة 10% منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى بروز الأزمة المالية العالمية في العام 2008. والمُلفت في الأمر هو قلّة تأثر هذا النموذج بالصدمات المالية والإقتصادية العالمية على المدى القصير.
وفي الفترة التي امتدت على أول عشر سنوات من القرن الحالي، بلغت مشاركة الصين في نمو الإقتصاد العالمي ما يوازي الثلث (Absolute Value) بالتوازي مع فقر كبير لدى الشعب الصيني وانحصار الثروة في طبقة محدودة من رجال الأعمال الذين يقطنون المدن الكبيرة (شنغهاي، هون كونغ، وماكاو). وهذا الفقر يتميّز بناتج محلي إجمالي يُقارب الـ 10000 دولار أميركي للفرد، وهو رقم ضئيل نسبة لحجم الإقتصاد الصيني.
وهيكلية الإقتصاد الصيني تتوزّع على الزراعة مع نسبة 10% من الناتج المحلي الإجمالي، والصناعة مع 47% والباقي للقطاع الخدماتي. وتحتلّ الزراعة المرتبة الأولى من ناحية الأيدي العاملة مع 34% من مجمل الأيدي العاملة، أمّا الصناعة التي تُنتج نصف الناتج المحلي الإجمالي فتُشغّل ما يوازي الـ 30% من مجمل الأيدي العاملة. وهذا يدلّ على مدى ارتفاع الكفاءة الإنتاجية الصينية.
لكنّ المُلفت في الاقتصاد الصيني هو الفائض في الميزان التجاري، والذي يُدخل إلى الخزينة أموالاً هائلة سمحت للصين بهامش تحرّك عال على الصعيد المالي مع احتياط في العملات يفوق الـ 3800 مليار دولار في أوائل هذا العام. وهذا الأمر أدّى إلى توسّع المالية غير التقليدية وغير المنظمة (Shadow Banking)، والتي تُقدر حالياً بنحو 5000 مليار دولار أميركي.
وإذا كان القطاع العام لا يزال يُهيمن على الإقتصاد، إلّا أن نمو القطاع الخاص له دور أساسي في النمو الصيني ودفع الاقتصاد الصيني إلى الإندماج بشكل هائل في الإقتصاد العالمي.
السياسية النقدية في خدمة الإقتصاد
قامت الصين باعتماد سياسة نقدية شرسة تقوم على إضعاف اليوان، وذلك بهدف ضمان تصريف الإنتاج الى الخارج. والإهتمام بالسوق الخارجي يأتي من منطلق أنّ السوق الداخلي الهائل (1,35 مليار شخص) يحتوي على نسبة عالية من الفقر وحتى لو أنّ نسبة السكان التي تعيش تحت خط الفقر هي 6%، إلّا أن القسم الكبير من الشعب الصيني ليس بعيداً عن هذا الخط ولا تسمح له إمكانيّاته المادية بشراء الإنتاج الداخلي، ما يعني ضعف الطلب الداخلي نسبة إلى الطلب الخارجي.
وتنقسم السياسة النقدية الصينية إلى عدة محاور، تهدف كلها إلى إضعاف اليوان:
1 – سياسة المصرف المركزي الصيني التي تقوم على طبع اليوان بشكل كبير مُبرّر بعدد السكان الهائل.
2 – أسعار الفائدة التي يفرضها المصرف المركزي الصيني والتي تُلزم بها المصارف الصينية بشكل مُطلق (6% حالياً).
3 – شراء سندات خزينة أميركية بحجم كبير (750 مليار دولار) وهذا يعني ارتباطاً عضوياً بين الدولار الأميركي ونظيره الصيني. أي أنّ كل ضعف في الدولار الأميركي ينعكس في اليوان نتيجة المحفظة الهائلة من الأصول الأميركية التي تحملها الصين. وهذا الأمر غير تقليدي وقد حاولت اليابان فِعله، إلا أنها لم تنجح كما نجحت الصين نتيجة قلة الأموال النقدية التي تمتلكها.
وقد خضعت هذه السياسة النقدية إلى كثير من الانتقادات من قبل الدول المتطورة إقتصادياً وتلك التي في طور النمو، وأدّت في معظم الأحيان إلى حرب عملات، إلّا أنّ الصين أثبتت قدرتها الهائلة في هذه اللعبة، دَعَمها في ذلك الفائض المالي الذي سَخّرته كسلاح فتّاك ضد الولايات المُتحدة الأميركية بالدرجة الأولى وضد الدول الأوربية واليابان في الدرجة الثانية.
النقلة الإقتصادية النوعية
من المتوقع أن تشهد الصين نسب نموّ عالية نتيجة تطور الطلب الداخلي والذي هو حالياً في حال سبات عميق لحالة الفقر التي يعيشها الشعب الصيني، إلّا أنّ 1,35 مليار شخص يستهلكون على النمط الغربي، يعني أن الماكينة الإنتاجية الصينية لن تكون قادرة على سد حاجاتهم. من هذا المنطلق عمدت الكثير من الشركات العالمية إلى فتح فروع لها في الصين مستفيدة بالدرجة الأولى من الكلفة الهيكلية المنخفضة للإنتاج، على أمل أن يستفيق المارد الأصفر في يوم من الأيام.
وتحت ضغوطات صندوق النقد الدولي، عمدت الصين إلى البدء بإنشاء معامل كهربائية في البلاد كلها. وهذا الأمر يأتي من منطلق أن الكهرباء هي عنصر أساسي في التطور الإجتماعي، والذي سيدفع الكثير من الصينين إلى الانخراط في سوق العمل، وبالتالي تزداد قدرتهم الإستهلاكية.
وقد وضعت الصين خطة إستراتيجية تقوم على بناء أكثر من 400 معمل نووي لإنتاج الكهرباء، إضافة إلى العديد من المعامل الموجودة التي أعادت العمل فيها مستخدمة الفحم الذي تمتلكه الصين بوفرة.
وفي لبنان
من الواضح أنّ عدم وجود أي خطة إقتصادية للنهوض بالإقتصاد اللبناني هو أمر معيب عندما نرى المخططات الصينية التي تُحاول ضمان استمرارية نمو الإقتصاد واستدامته. من هنا نُشجّع الحكومة اللبنانية على اتّباع النموذج الإقتصادي الإجتماعي الذي يُعطي للدولة دوراً أساسياً في السياسات الإقتصادية ويترك المجال في الوقت ذاته للنفحة الليبرالية التي ستشكّل أساس النمو الإقتصادي.