أنطوان فرح
تُدرك ادارات المصارف اللبنانية ان من غير المسموح لها بالتحديد، ارتكاب اية هفوة قد تُفسّر بأنها اهمال او تقصير او نوع من أنواع التواطؤ. هذا الحذر لا يعود الى السياسة الأميركية التي اتبعت مؤخرا، لجهة عدم التسامّح في فرض عقوبات قاسية بل ربما قاتلة على المصارف العالمية فحسب، بل يرتبط أيضا، بكون السلطات الأميركية تراقب القطاع المصرفي اللبناني بعين الشك والحذر منذ العام 2006. ولولا سياسة الاوراق المكشوفة، والشفافية في الاجراءات، التي اتبعها مصرف لبنان لطمأنة الشكوك الأميركية، لكان الوضع أسوأ.
وهذا ما يفسّر التزام المصارف اللبنانية بتطبيق القوانين الاميركية والدولية، والعقوبات التي تفرضها الامم المتحدة، او اميركا منفردة، انطلاقا من مبدأ حماية القطاع المصرفي اولا، بصرف النظرعن الاعتبارات السياسية الداخلية، واذا ما كانت العقوبات تتماهى والسياسة الرسمية للحكومة اللبنانية ام لا. وهذه هي الحال، على سبيل المثال، في طريقة التعاطي مع حزب الله.
حيث تفرض المصارف على نفسها مبدأ الالتزام بالعقوبات الاميركية على الحزب الذي تصنفه ارهابيا، ولا تقبل بمرور امواله في الجهاز المصرفي، في حين ان الحزب جزء من الدولة والحكومة، وهو بطبيعة الحال غير مُصنّف سياسياً من قبل الدولة اللبنانية بأنه حزب ارهابي، والدولة لا توافق على التوصيف الاميركي.
لكن السؤال هو لماذا تنظر السلطات الأميركية بعين الريبة والحذر الى المصارف اللبنانية، رغم ان تجربة التعاون منذ سنوات أظهرت ان هذه المصارف قد تكون فوق الشبهات، أو على الاقل، هي أفضل من بعض المصارف العالمية، وهذا ما أظهرته الاحداث، بعد انكشاف فضائح مخالفات وألاعيب وتحايل، تورطت بها مصارف عالمية مرموقة؟
بدأت قصة الريبة منذ العام 2006، وتحديدا بعد حرب تموز، حيث خرجت البلد من حرب مدمرة، نتج عنها تدمير قسم كبير من البنية التحتية، وآلاف الوحدات السكنية، خصوصا في الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت، بالاضافة الى تهجير عشرات آلاف المواطنين، وخسائر بمليارات الدولارات.
في هذه الاوضاع شهد البلد الجريح، شبه المُدمّر، حدثين بارزين:
اولا- قرار حزب الله توزيع مبالغ نقدية على كل المواطنين الذين تضررت منازلهم. وكان ذلك يعني توزيع مبالغ نقدية طائلة.
ثانيا – تماسّك القطاع المصرفي اللبناني، ونجاحه في الخروج من الحرب معافى، وكأن الاضرار لم تصل اليه. وعدم انهيار اسهمه او هبوطها، بنسب مُقلقة، كما هي الحال عادةً مع المصارف التي تواجه دولها أزمات أقل خطورة من حرب تموز.
هذا «الحدثان» استوقفا واشنطن التي اعتبرت ان ما يجري موضع شُبهة. وقد أوضح في حينه مصرف لبنان ان الاموال النقدية التي يوزعها حزب الله، لم تمر في الجهاز المصرفي اللبناني، بما يعني عملياً، ان الاموال تصل الى الحزب نقداً، عبر بوابات أخرى، لا علاقة للمصارف بها.
وبقي «الحدث» الآخر المرتبط بصمود المصارف في الحرب، وخروجها بنتائج مُذهلة بالنسبة الى الاميركيين. ومنذ هذا النجاح غير المتوقع، قررت السلطات الأميركية انها تحتاج الى رقابة لصيقة أكثر، لمعرفة «سر» المصارف اللبنانية.
وفي هذا الاطار، قد يكون قرار افتتاح مكتب لصندوق النقد الدولي في بيروت، هو الاول من نوعه، بعد حوالي الشهرين على انتهاء حرب تموز، أحد مؤشرات القرار الاميركي بتشديد الرقابة على المصارف اللبنانية، لاكتشاف اذا ما كان هناك قنوات تبييض، مخفية حتى ذلك الوقت. ومن المعروف، ان التعاون بين صندوق النقد وواشنطن لصيق الى درجة الانصهار أحيانا، في قضايا يعتبرها الطرفان مشتركة.
أما أسباب الشكوك في أن يكون مكتب صندوق النقد الدولي في بيروت، هو بهدف المراقبة، الى جانب المساعدة من خلال تقديم النُصح، هي التالية:
اولا- اختيار شخصية على علاقة مميزة مع الأميركيين، هو السويسري اريك موتو، الذي كان قد أمضى 13 عاما في العمل في الادارة المركزية لصندوق النقد في واشنطن، لتولي مهام مكتب بيروت.
ثانيا- اتخاذ قرار فتح مكتب في لبنان بعد انتهاء حرب تموز مباشرة، ولو ان التدشين الرسمي تمّ في كانون الثاني 2008. وعلى رغم ان لبنان هو من الموقعين على انشاء صندوق النقد الدولي منذ اربعينيات القرن الماضي، ورغم انه مرّ بحروب مدمرة عديدة قبل العام 2006، ورغم ان قطاعه المصرفي تعرض لأزمات في سنوات ماضية، أدّت الى اقفال بعض المصارف وتصفيتها، ورغم ان الليرة عرفت فترات انهيار في قيمتها، كل هذه الاعتبارات لم تدفع صندوق النقد الى المجيء الى لبنان، في حين ان القرار بالقدوم اتخذ بعد صمود المصارف والليرة بعد حرب تموز، بما يدفع الى التساؤل حول الاهداف.
في كل الاحوال، لم يكن افتتاح مكتب لصندوق النقد الدولي في بيروت، مضراً للقطاع المصرفي، بل العكس هو الصحيح. اذ كلما زادت الرقابة الدولية على القطاع، كلما كان ذلك بمثابة مدعاة اطمئنان اضافي. وهذا الامر ينطبق على تطبيق قانون فاتكا، الذي تحرص المصارف اللبنانية على عدم ارتكاب هفوات في تطبيقه. وقد كلفها ذلك مبالغ طائلة، سوف تؤثر بلا شك على مستويات ربحية القطاع، خصوصا المصارف المصنّفة متوسطة وصغيرة.