Site icon IMLebanon

محطات لمؤشرات اقتصادية: العدوان يستهدف مثلث النمو ومرافق الخدمات

Safir

عدنان الحاج

لم يحصر العدو الإسرائيلي في تموز من العام 2006 عدوانه باستهداف المقاومة ومقوماتها فقط، بل حاول ضرب البنى التحتية للمجتمع اللبناني ومقوماته الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية، وصولاً إلى البنية المالية، بما في ذلك النشاطات المصرفية التي كانت الأصلب. هذا ما ظهر من خلال النتائج المالية على الدولة وخزينتها ونفقاتها، وعلى البطالة ونموّها نتيجة الأضرار على القطاعات المختلفة، وضرب مناخ الاستثمار لسنة على الأقل في الفترات الأولى من تاريخ العدوان الذي قضى على النمو في العام نفسه.
فبين شهر تموز من العام 2006 تاريخ انطلاق العدوان الإسرائيلي على لبنان وتموز من العام 2014، محطات كثيرة اقتصادية واجتماعية ومالية خلّفها العدوان منذ أيامه الأولى، واستمر بعضها لفترات طويلة قبل أن يتم تخطيها في السنوات اللاحقة مع استعادة بعض النشاط في العديد من القطاعات التي حققت تحسناً بعد السنة الأولى من العدوان قبل أن تعود إلى التراجع نتيجة أسباب داخلية واقليمية. غير ان الانقسامات الداخلية والتطورات الإقليمية في السنوات الأخيرة قضت على مظاهر التحسن التي كان يفترض أن يستفيد منها لبنان في ظل التطورات العربية والاقليمية.

إرهاق مالية الدولة
فالعدو الإسرائيلي مع استهدافه المقاومة عسكرياً مباشرة، حاول الإفادة من ضرب القطاعات الاقتصادية والمالية ضرباً مباشراً أو غير مباشر، بهدف إرهاق مالية الدولة نتيجة ضرب البنى التحتية والمساكن والمرافق العامة من كهرباء ومرافئ. كما استهدف القطاعات الاقتصادية الإنتاجية من صناعة وزراعة وتجارة بتعطيل المرافق العامة وقطاعات الخدمات.
1ـ في التفصيل، يمكن الانطلاق من القطاع المصرفي اللبناني والقطاع المالي عموماً، حيث ترافق العدوان، في خلال الأسبوعين الأوليين، مع خروج رساميل وودائع من القطاع المصرفي اللبناني بأكثر من 7 مليارات دولار، ما حتم على مصرف لبنان اتخاذ التدابير بتحديد حجم الأموال التي يمكن سحبها بالعملات الأجنبية من قبل الزبائن من المصارف، ومن خلال الصراف الآلي بحوالي الألف دولار للعميل الواحد تلافياً للوقوع بفقدان السيولة بالعملات الأجنبية، يضاف إلى ذلك ابتداع مصرف لبنان والمصارف طرقا جديدة بشحن العملات الأجنبية من خلال عمليات عبر الدول المجاورة نتيجة الحظر البحري، والحصار الذي فرضته قوات العدو الإسرائيلي على المرافئ اللبنانية.
غير ان هذا الأمر لم يقتصر على الموضوع المالي، بل على حصار البضائع وتأخير إدخال البواخر، ما رتب ملايين الدولارات على البواخر الآتية إلى مرفأ بيروت عبر قبرص وغيرها نتيجة رسوم بدل الانتظار المقدرة بحوالي 22 ألف دولار عن كل يوم انتظار للباخرة الواحدة في البحر.
يضاف إلى ذلك تزايد المخاطر، بمعنى آخر يمكن القول إن القطاع المصرفي استطاع أن يحافظ على بعض النمو خلال فترة العدوان، سواء في موجوداته أو ودائعه، وان كانت بمعدلات قليلة خلال السنتين الأوليين، ثم عاد إلى معدلات نمو ملحوظة اعتباراً من العام 2008 بشكل ملحوظ وكبير. وهذا الاستقرار يعود في جزء أساسي منه إلى السياسة النقدية المحافظة على الاستقرار النقدي التي انتهجها مصرف لبنان المركزي بالتعاون مع القطاع المالي والمصرفي لضبط السيولة، ومنع التقلبات الحادة نتيجة العدوان، وضرب المؤسسات، ونشر حال عدم الاستقرار في معظم المناطق والمرافق اللبنانية من الجنوب إلى البقاع وجبل لبنان حتى كسروان.
في الأرقام، لقد تطورت موجودات القطاع المصرفي من حوالي 76.1 مليار دولار في العام 2006 لتصل إلى حوالي 82.2 مليار دولار في نهاية 2007 بنمو 7.61 في المئة، وهي وصلت اليوم، وفي أواسط العام 2014 إلى حوالي 166.4 مليار دولار قبل تموز من العام 2014. هذا يعني أن نمو القطاع المصرفي الذي عانى من تراجع نموه في انطلاقة العدوان زاد بعد 8 سنوات حوالي 90.3 مليار دولار تقريباً بنسبة تفوق 118 في المئة.

تحرك اللوبي الصهيوني
2ـ لقد حاول الإسرائيليون من خلال العدوان على لبنان، بل سعوا إلى ضرب مثلث النمو الاقتصادي، وهو ما حصل جزئياً خلال العام 2006 والعام 2007 وصولاً إلى المراحل اللاحقة من التدهور نتيجة تحرك اللوبي الصهيوني بملاحقة المؤسسات المتعاملة مع «حزب الله» من خلال استصدار قرارات المقاطعة التي أصابت شظاياها القطاع المصرفي اللبناني بالتضييق والملاحقة والتحذير من قضية «البنك اللبناني الكندي»، وصولاً إلى إدراج العديد من الأشخاص والمؤسسات على لائحة الإرهاب، ومصادرة الأموال بتهمة التعامل مع إيران ومن ثم «حزب الله». قبل ان تتحول القضية إلى أهداف تهدد القطاع المالي من خلال القوانين الأميركية الجديدة والجاري تحضيرها. كل ذلك من مفاعيل استكمال العدوان على لبنان على الرغم من تقيد المؤسسات المصرفية بالمعايير الدولية والأميركية والأوروبية. وكانت التهديدات قد توسعت باتجاه مؤسسات أخرى منها المالي.
معروف ان عناصر مثلث النمو الاقتصادي في لبنان، وهي: الحركة السياحية التي تأتي بالأموال النقدية لتحريك الاقتصاد، كذلك الصادرات اللبنانية التي كان يفترض أن تحقق زيادات تفوق الـ15 في المئة سنوياً، تبعاً لحجم انتشارها المرتقب في الأسواق. والعنصر الثالث والأهم هو تدفق التحويلات والرساميل الخارجية، وكل هذه العناصر كانت تحتاج إلى عناصر الاستقرار بالحدود الدنيا لرد العدوان والحصار الذي فُرض على لبنان.
إلا ان هذه العناصر عادت وتحسنت بين العامين 2008 و2010 تحسناً كبيراً، ما عوّض الحركة إلى نسب تراوحت بين 5 و7 في المئة من النمو الاقتصادي، وهي سنوات استعادة بعض الثقة قبل اندلاع الربيع العربي.
بمعنى آخر، وحده القطاع المصرفي استطاع أن يحافظ على بعض النمو في موجوداته، وإن كانت قليلة بما لا يقاس مقارنة مع النصف الأول من العام، إلا انها ظاهرة صحية لقطاع تخطى العديد من القطوع في الحفاظ على ربحيته وأسواقه ومصداقيته.

الكهرباء وتأمين المياه
3ـ أما على صعيد التقديمات والخدمات، فقد تراجعت خدمات الكهرباء وتأمين المياه والمواد الغذائية، وحتى الرغيف، حيث تمت الاستعانة بالدول المجاورة واستعارة الطحين من سوريا وإجراء المساعي للسماح بمرور كميات عن طريق البحر بعد اتصالات دولية وصلت حتى تدخل الدول الكبرى، يضاف إلى ذلك أن ما تعرض له المواطن في التقديمات الاجتماعية والصحية من صندوق الضمان الاجتماعي، وتأخير المعاملات لأشهر أو سنوات، يذكّر بأيام التفكك بين المناطق اللبنانية، وعندها كانت التقديمات أفضل برغم العجز في الضمان الصحي والتعويضات العائلية، ما زاد التأزم الاجتماعي كثيراً نتيجة تشعب المشكلات. أهم هذه المشكلات التي تركت مفاعيلها كانت في الانعكاسات على أسعار العقارات والمساكن نتيجة حالات الهجرة التي رفعت الطلب على المساكن في مناطق بيروت والضواحي القريبة، وصولاً إلى مناطق عديدة بفعل الدمار الذي ألحقه العدوان في عشرات آلاف المساكن. وطبيعي أن تتبع ذلك ارتفاعات في أسعار مواد البناء وارتفاع الكلفة من الترابة إلى الحديد على الرغم من المساعدات ومساهمات الدولة والمساهمات العربية والعديد من المؤسسات. وكانت كلفة إعادة الإعمار كبيرة خلال فترة لم تكن قصيرة في أثرها على القطاعات المختلفة بما فيها النشاط السياحي والخدماتي.
يبقى الأخطر اليوم، وهو أمر على علاقة بنتائج الاعتداءات الإسرائيلية، هو قطاع الكهرباء الذي تعرّض لأضرار في معمل الجية والمحطات والخزانات، وبعض هذا القطاع يعيش أزمة مالية وعجزاً تاريخياً بات يرهق الخزينة والمواطن الذي يدفع فاتورتين ولا يحصل على الكهرباء والمياه بالشكل اللازم.
كانت أعطال الكهرباء التي أصابت المحطات سبباً إضافياً في تردي هذه الخدمة، تضاف إلى عجز الدولة عن معالجة موضوع الإنتاج وتوفير الحاجة، مع العلم ان الخسائر التي خلفتها إسرائيل في الخزانات والمحطات تم إصلاحها بمساهمات عربية ومحلية وكان أبرزها المساهمة المصرية في معمل الجية.
4ـ بالنسبة لموجودات مصرف لبنان، فقد تطورت سريعاً بعد العدوان الإسرائيلي، حيث ارتفعت موجودات مصرف لبنان بالعملات من حوالي 12.9 مليار دولار في نهاية العام 2006 إلى حوالي 36.1 مليار دولار في الثلث الأول من العام 2014.
وهذا يعني ان استعادة الثقة بوضع الاستقرار النقدي عاد سريعاً بعد خروج الودائع خلال العدوان، بما يعني استعادة الأموال الخارجة وأكثر منها مما انعكس فوائض كبيرة على ميزان المدفوعات، غير ان هذه النتائج التي تحققت في خلال فترات العدوان الإسرائيلي، وتحسنت بعده مع حكومات التوافق ما انعكست ان عادت إلى الجمود والتراجع بفعل الانقسامات الداخلية.

طيران الشرق الأوسط
5ـ تبقى إشارة إلى قطاع النقل، واضطرار طيران الشرق الأوسط إلى نقل طائراتها إلى قبرص بعدما تعرض مطار بيروت للقصف خوفاً من تعريض أسطول الشركة إلى التدمير كما حصل أواسط الستينيات. إلا ان تسيير رحلات طيران الشرق الأوسط عبر قبرص ودمشق بشكل محدود لم يعفها من الخسائر الكبيرة الناجمة عن إقفال مطار بيروت لأسابيع طويلة، وتعطيل مئات العمال الذين يستفيدون من هذا المرفق.
6ـ أما الضرر الزراعي والصناعي المباشر فكان بتضرر المصانع بمبالغ تفوق مئات الملايين من الدولار وحرق مئات الأشجار والمساحات في الجنوب وبعض البقاع. ناهيك عن أضرار المساكن التي كان لها حسابات أخرى وكلفت مئات الملايين من الدولار لأكثر من 35 ألف وحدة سكنية بين تضرر كلي وجزئي حسب تقاطع الإحصاءات.
أما مالية الدولة وتعطل الإيرادات نتيجة تعطل القطاعات فكانت الأقل مقارنة، كونها بلغت حوالي 2600 مليار ليرة بصورة غير مباشرة مع أضرار للاقتصاد فاقت الرقم بأضعاف في القطاع الخاص والخدمات والأكلاف الصحية والإغاثة.
عوضت المساعدات العربية ومؤتمر باريس ـ 3 لكنها بقيت ثقيلة لمدة سنة على القطاعات المختلفة، قبل أن تعود العجلة إلى الدوران بشكل أفضل مع حكومة ما يسمى «الوحدة الوطنية» التي تعطلت لاحقاً، وأعادت القطاعات إلى التراجع، وما زالت مستمرة نتيجة الانشقاقين العمودي والأفقي، ما انعكس على كل المؤشرات مزيداً من التراجع.

استهداف محطة الحاويات في المرفأ
عندما تعرضت محطة الحاويات في مرفأ بيروت لغارة إسرائيلية ولقصف البوارج عليها لتدمير بعض منشآتها، لم يتوقف البعض عند أسباب هذا الاستهداف، على اعتبار أن القضية عسكرية وضمن استهدافات مناطق عسكرية تخص المقاومة أو الدولة اللبنانية.
غير أن الحقيقة التي تبينت بعد التدقيق، أن الأسباب كانت اقتصادية بحتة، تتعلق بتفوق محطة الحاويات في مرفأ بيروت على حركة الحاويات في مرفأ حيفا، باستقبال حوالي 15 إلى 20 ألف حاوية، زيادة عن مرفأ حيفا خلال شهري أيار وحزيران من العام 2006. فكان العدوان مناسبة لضرب محطة الحاويات، وزعزعة ثقة الشركات التي تتعامل مع مرفأ بيروت لحساب مرفأ حيفا. أما السبب الأبرز فيعود إلى تحول محطة الحاويات في مرفأ بيروت إلى نقطة تفريغ واستقبال للبواخر العملاقة، ومنها توزع إلى مرافئ المنطقة.
إشارة إلى أنّ المنافسة قديمة بين مرفأ بيروت ومرفأ حيفا منذ الأيام الأولى لقيام دولة العدو الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، بل، وحسب بعض مؤسسي مرفأ بيروت، إلى أيام الانتداب الفرنسي في لبنان والبريطاني في فلسطين المحتلة. حيث كانت المنافسة على التسهيلات التي تمنح للتجار والمصدرين والمستوردين في ذلك الوقت. ولهذا السبب اخترع الفرنسيون المنطقة الحرة في مرفأ بيروت لإعادة التصدير رداً على تسهيلات التفريغ وإخراج البضائع مباشرة من الباخرة إلى الشاحنة في مرفأ حيفا.

الصناعة المنافسة لم تسلم
في المرحلة الأولى من العدوان الإسرائيلي، امتدت الغارات الجوية إلى منطقة البقاع، وكان من بين الأهداف ضرب معمل الحليب الأكبر في المنطقة “ليبان ليه”. الأمر كان مستغرباً بالنسبة للبعض، لكنه لم يكن مستغرباً بالنسبة للعدو الذي يدرس خطوات الضرر في الاقتصاد اللبناني، بما ينفع قطاعاته المشابهة.
وبعد فترة وجيزة، تبين من خلال المتابعة أن استهداف معمل الحليب اللبناني كان بسبب منافسته معامل إسرائيلية على مناقصة تزويد قوات الطوارئ في الجنوب بالحليب، والتي كانت من نصيب المصنع اللبناني. فأكل نصيبه من التدمير والغارات.
كذلك الأمر بالنسبة لاستهداف مصنع الزجاج “ماليبون”، الذي كانت أسواقه منافسة خارج المنطقة، فدمر كلياً، ما اضطر إدارته الهندية إلى إقفاله وانتقاله من لبنان كلياً، بعد ضربه من قبل إسرائيل وتشريد عشرات العمال والمستخدمين والمتعاملين.
إشارة إلى أن أضرار القطاع الصناعي، المباشرة في مختلف المناطق، حسب التقديرات فاقت 250 مليون دولار.