محمد كركوتي
“كلما ازدادت المعلومات عن كل واحد منا في ملفاتنا لدى المصارف، كلما نقص وجودنا” (مارشال ماك لوهان فيلسوف كندي)
أحسب أن مديري المصارف الأجنبية والأمريكية المتورطة حتى قمم خزائنها بانتهاك الحظر الأمريكي المفروض على عدد من الدول، يرددون قبل نومهم وفي الأحلام وعند الاستيقاظ، هذه اللازمة “أسرع.. أسرع. سوي قضاياك مع السلطات القضائية الأمريكية، قبل فوات الأوان”. وفي مكاتبهم، يجتمعون يومياً للوصول إلى الصيغة المثلى للتسوية. أو بمعنى أدق، للوصول إلى أقل الغرامات الممكنة التي تقبل السلطات الأمريكية فيها، دون اللجوء إلى ترك القضايا بين أيدي القضاة. فالقضاء الأمريكي لن يرحم، وسيضع أرقاما فوق أخرى ليصل إلى أعلى الغرامات. والقضاء (كما بقية الجهات) يعرف سلفاً أن هذه المصارف جنت أموالاً طائلة من القفز فوق قوانين الحظر، على مدى السنوات الماضية، وساعدت أنظمة مارقة في إيران والسودان وسورية وليبيا وغيرها، على تدوير الأموال وإعادة صبها مجدداً لدى حكومات هذه الدول.
غيرت المصارف نفسها منذ عقود، وبدلت أهداف وجودها أصلاً. وتحولت (بإرادتها مستغلة التسيب الرقابي المروع) إلى مؤسسات لجمع الأموال، بصرف النظر عن مصادرها، ومدى مشروعيتها. المهم أن الأموال تتجمع، ومسألة الأخلاقيات ليست ذات أهمية. في إحدى المسرحيات المصرية القديمة يقول الممثل” أنا عاوز أشتغل شغلانة شريفة، لكن المهم ما تمسكش”. ويقول الفيلسوف الأمريكي ناعوم تشومسكي “قبل السبعينيات كانت المصارف، مصارف. تعمل وفق معايير الاقتصاد الرأسمالي. تأخذ الأموال غير المستخدمة من حسابك، وتحولها للاستخدام، كمساعدة أسرة على شراء منزل، أو إرسال طالب إلى الجامعة”. بالفعل لم تعد المصارف.. مصارف، خصوصاً الكبرى في العالم الغربي ذات الأسماء الرنانة، ولا بأس من نسبة ليست قليلة من المصارف المتوسطة. المهم بالنسبة لها “ماتتمسكش”. لكنها “اتمسكت”، ليس فقط من نافذة انتهاك العقوبات، بل أيضاً من جحور غسيل الأموال، والتهرب من الضرائب، وتوفير ملاذات آمنة لأموال غير مشروعة. وماذا أيضاً؟ مسؤوليتها عن الأزمة الاقتصادية العالمية.
يظهر كل يوم مصرف هنا وآخر هناك، ليعلن اعترافه بذنب انتهاك العقوبات على عدد من الحكومات المارقة، واستعداده لتسوية الأمر مع السلطات الأمريكية عن طريق غرامة، يتمنى أن تكون مقبولة لدى الجانب الأمريكي. بالطبع أشهر هذه المصارف كان “بي إن بي باريبا” أكبر مصرف فرنسي، الذي قام بحساب سريع جداً، يقوم على المفاضلة بين تسعة مليارات دولار غرامة طوعية، أو 12 مليار دولار غرامة مؤكدة عبر القضاء. وقد عرف المصرف الفرنسي مبكراً أن تهديدات حكومته للإدارة الأمريكية، بما في ذلك فرض عقوبات تجارية على الولايات المتحدة، لا قيمة لها. بل كانت واشنطن تنشر في الأجواء حتى عدم سماعها لتلك التهديدات. فالدفع كان أفضل وسيلة لحماية المصرف، والدفع الفوري الأقل، أجدى من الدفع المؤجل الأكبر.
الغرامات تحط بالمليارات في خزائن الولايات المتحدة. ففي غضون عام تقريباً، جمعت واشنطن أكثر من 80 مليار دولار غرامات من مصارف أمريكية وأجنبية، تتعلق بانتهاك قوانين الحظر، وغسيل الأموال، والتهرب الضريبي، وحماية المتهربين من الضرائب الأمريكية، والمسؤولية عن الأزمة الكبرى. والأسبوع الماضي فقط، دفعت مجموعة “ستي جروب” المصرفية الكبرى سبعة مليارات دولار، عن دورها في الأزمة. وقبله دفع مصرف “جي بي مورجان تشايس” 13 مليار دولار (ضرائب وأزمة). و”بنك أوف أميركا” دفع 9.5 مليار دولار (أزمة). و”كريدي سويس” 2.6 مليار دولار (ضرائب). و”إتش إس بي سي” دفع 1.92 مليار دولار (تبييض أموال). و”جي بي مورجان تشايس” دفع 1.7 مليار دولار (احتيال). ووسط هذا التدفق من الغرامات، يظهر مصرف ألماني هنا وآخر إيطالي هناك، وبريطاني في أي مكان، ليدفع غرامات ما دون المليار دولار.
الوضع لا يتوقف عند دفع الغرامات، هناك منهجية “إذلالية”، تقوم بها السلطات الأمريكية ضد المصارف المتورطة في كل شيء تقريباً. ويبدو التشهير بها أقلها عنفاً وأثراً. فقد قدم (على سبيل المثال) مصرف “كريدي سويس” قبل أيام، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ المصارف قائمة بأسماء أكثر من ألف من موظفيه إلى السلطات الأمريكية. وهذه الأخيرة ستحقق معهم، وقد يقدمون للمحاكمة على الأراضي الأمريكية. ومن شروط الاتفاق المهين، أنه يجب على المصرف أن يذكر بدقة اختصاصات ومهام كل مسؤول فيه، والمصرف السويسري طلب من موظفيه أخذ الحذر في التحقيق. حرب “أمريكا” على المصارف المحلية والخارجية مستمرة. ولن تنتهي قريباً. ففي غضون ساعات من اتفاق “كريدي سويس”، أبدى 13 مصرفاً سويسرياً الرغبة في تسوية مماثلة سريعة.
بعض هذه المصارف بدأ يتأثر مالياً من جراء الغرامات الهائلة. والبعض الآخر يمكنه الاستمرار والنمو، ليس من فرط النجاح المصرفي الهائل، بل من العوائد المالية الضخمة التي تم جنيها على مدى عقود من العمليات غير المشروعة. مع ضرورة التأكيد دائماً على أن الأموال القذرة أنقذت المصارف نفسها خلال الأزمة الاقتصادية العالمية. إنها “مذبحة المصارف” بكل تأكيد، ولكن دون قطع شريان الحياة.