جيف داير وتشارلز كلوفر
إذا كان لقاء بعض البيروقراطيين يمكن أن يحلّ المشكلات السياسة الأكثر صعوبة في العالم، عندها فإن الولايات المتحدة والصين ستكون على أساس قوي. قام عدة مئات من المسؤولين في كلا البلدين بعقد لقاء لمدة يومين في بكين الأسبوع الماضي، جمع معاً تقريباً كل فرع من فروع حكومتيهما. وزارة النقل الأمريكية وحدها شاركت في خمس ورش عمل. حتى إن الشمس تمكنت من الشروق، لتخترق سماء بكين الملوثة للغاية.
لكن الخطابات المُنمقة وتبادل بطاقات العمل لم تتمكن من إخفاء التنافس المتجهم الذي يقوم ببطء بتحديد العلاقات بين أكبر اقتصادين في العالم.
حتى وقت قريب، كان يُفترض أن الروابط الاقتصادية والمالية الواسعة بين البلدين ستكون بمثابة حاجز ضد التوترات السياسية والعسكرية: العولمة تراهن على الجغرافية السياسية. اللقاء السنوي بين البيروقراطيين في كلا البلدين، أي “الحوار الاستراتيجي والاقتصادي”، هو محاولة لترسيخ ذلك الشعور بالمصالح المشتركة.
لكن مثل هذا الشعور بحسن النية يخاطر بأن يطغى عليه المد المتصاعد من الاختلافات المسببة للتوتر، بدءا من التنافس البحري في غرب المحيط الهادي مرورا بقرصنة المعلومات على الإنترنت، إلى الشكاوى بشأن الوصول للسوق التي تقوّض الثقة المحدودة أصلاً بينهما.
قال شي يونهونج، مدير المركز الأمريكي في جامعة رينمين في بكين “لا يوجد مكان آخر تقريباً ترى فيه مثل هذا التنافس الاستراتيجي” الموجود الآن بين الصين والولايات المتحدة.
إيان بريمر، رئيس مجلس إدارة مجموعة أوراسيا الاستشارية، يقول: “لم نصل بعد لنقطة التحوّل حيث المنافسة تفوق التعاون. لكن جوانب العلاقات التي محصلتها صفراً في ازدياد”. ويُضيف أن الرؤساء التنفيذيين للشركات الأمريكية “فشلوا بشكل منهجي في تقدير المخاطر طويلة الأجل في الصين”.
تماماً في الوقت الذي بدأت فيه اللقاءات في بكين، كانت الصين تواجه اتهامات جديدة حول قيامها بعمليات قرصنة واسعة في الولايات المتحدة. وذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” أن القراصنة الذين مقرهم الصين تمكنوا من الوصول إلى مكتب الحكومة الفيدرالي الذي يقوم بإدارة شؤون الموظفين، بما في ذلك طلبات التصاريح الأمنية.
عندما طُلب منه الرد على التقرير، أجاب جون كيري، وزير الخارجية، الذي كان يقود الوفد الأمريكي، إن الحادثة كانت لا تزال تحت التحقيق. وقال “إن ذلك لا يبدو أنه قد عرّض أي مواد حساسة للخطر. لكننا كنا واضحين للغاية لبعض الوقت مع نظرائنا هنا أن هذا على مدى أكبر يعد أمرا مثيرا للقلق”.
وتم تقليص جهود إدارة أوباما التي تبذلها للضغط على الصين للحد من أنشطة تجسسها الإلكتروني على شبكة الإنترنت بسبب تسريبات إدوارد سنودِن حول مدى المراقبة التي تمارسها وكالة الأمن القومي. مع ذلك، قامت الولايات المتحدة بإحياء حملتها في أيار (مايو) عندما أعلنت وزارة العدل عن اتهامات ضد خمسة أفراد في الجيش الصيني، متهمةّ إياهم بسرقة أسرار تجارية من الشركات الأمريكية.
ينظر الصينيون إلى شكاوى الولايات المتحدة على أنها نفاق، خاصة بعد نشر وثائق سنودِن. لكن الولايات المتحدة تعتبر سرقة الصينين للمعرفة التكنولوجية من الشركات الأمريكية أمرا يتعارض مع اقتصاد عالمي مفتوح، وتقول “إنها ستقوم بفرض ضغط أكبر على الصين، بما في ذلك مزيد من الملاحقات القضائية المحتملة”. ويقول مسؤول سابق في الإدارة “إن علينا التفكير في وسائل جديدة لجذب انتباههم إلى هذا الموضوع لأنهم حتى الآن لم يتراجعوا أبداً”.
وما أثار التوترات الجيوسياسية أيضاً هو نهج الصين الأكثر عدوانية على مدى العام الماضي بشأن مطالباتها الإقليمية في منطقة غرب المحيط الهادي، بما في ذلك الإعلان عن منطقة دفاع جوي في كافة أنحاء بحر الصين الشرقي ووضع منصة للنفط في قسم من بحر الصين الجنوبي تطالب به فيتنام أيضاً.
ويصرّ الصينيون على أن سلوكهم لم يكُن سوى استجابة لاستفزازات جيرانهم. ويقول أحد المسؤولين في الصين “إذا نظرت إلى هذه القضايا، اعتقد أن من العدل القول إن الصين ترد فقط على تصرفات الآخرين. نحن نرغب في استعادة وضع راهن كان قد خرقه الآخرون”.
ويُشير المسؤولون في الصين إلى أن ما يسمى محور آسيا الخاص بإدارة أوباما شجع البلدان مثل الفلبين واليابان على الضغط بشأن مطالباتها. لكن في المقابل ترى واشنطن التوترات المتنامية في الوضع المُعاكس تماماً. ويتحدث المسؤولون في الولايات المتحدة عن استراتيجية صينية متعمدة محسوبة وطويلة الأجل لتقوم ببطء بترسيخ سيطرتها على أجزاء كبيرة من منطقة غرب المحيط الهادي من خلال حوادث ذات مستوى منخفض لا توّلد استجابة أمريكية، لكنها تقوم بإقناع حلفاء الولايات المتحدة بأنه لا يمكنهم الاعتماد على واشنطن للدفاع عنهم.
ولا يزال بعض المسؤولين في الولايات المتحدة يتساءلون عما إذا كانت سيطرة الصينيين على عديد من الجُزر ومناطق الشعاب المرجانية في بحر الصين الجنوبي تمثّل فعلاً تحدياً لمصالح الولايات المتحدة الأساسية. آخرون، من بينهم حلفاء الولايات المتحدة، يشعرون بالراحة لحقيقة أن الصين تدفع عديدا من البلدان الآسيوية لتكون أقرب إلى الولايات المتحدة. ويقول مالكولم ترانبول، وزير الاتصالات الأسترالي “إن رؤية الفيتناميين وهم يُدفعون بصورة أقرب فأقرب إلى الولايات المتحدة من حيث الاستراتيجية هو بالفعل أمر غير عادي. وذلك يعتبر إنجازاً كبيراً بالنسبة لمراقبي التاريخ”.
مع ذلك، هناك وجهة نظر في واشنطن تقول “إن جهودها لردع العدوان الصيني في بحر الصين الجنوبي لم تكُن ناجحة وإن الولايات المتحدة تحتاج إلى إيجاد تكتيكات عسكرية جديدة لصد مثل هذه الغارات”.
مايك روجرز، الرئيس الجمهوري للجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأمريكي، اتهم الصين يوم الخميس الماضي بممارسة “عدوان شره ومكشوف” في بحر الصين الجنوبي. وقال “إن من مصلحة الولايات المتحدة الوطنية صد الجهود الصينية العدوانية في المنطقة”، مضيفا “نحن نخدع أنفسنا إذا لم نفكر في أن الوضع على وشك الوصول لمرحلة حرجة بشأن ما يحدث في بحر الصين الجنوبي”.
يدرس البنتاجون استخداماً أكثر قوة لمراقبة نشاط البحرية الصينية، مع مزيد من العمليات الجوية والبحرية الأمريكية في المناطق المتنازع عليها. ويقول إلي راتنر، من مركز الأمن الأمريكي الجديد “لم نقم فعلاً باختبار ما إذا كان بإمكاننا رفع التكاليف بالنسبة للصين بشكل يجعلها تغيّر طريقة صنع قراراتها. نحن نحتاج لرؤية ما إذا كانت هناك أدوات ضمن مجموعة أدوات البنتاجون يمكن أن تجعلها تغيّر قراراتها”.
النتيجة هي أن كلا البلدين يتم دفعه ببطء نحو ما يدعوه العلماء “معضلة أمنية”، حيث كل حركة عسكرية توّلد حركة مضادة من الطرف الآخر – الأمر الذي يزيد من مخاطر الصراع.
هذه التوترات الجيوسياسية تمت موازنتها من واقع الاعتماد الاقتصادي العميق بين البلدين، الذي يراوح من التجارة إلى أسواق السندات. ويعتقد بعض المراقبين أن هذه الروابط لا مجال أمامها إلا أن تزداد قوة. ويقول شي، من جامعة رينمين، “إن العلاقة الاقتصادية تتحسن في الوقت الذي تنمو فيه التوترات الأمنية. نصف الصورة أكثر إشراقاً، ونصفها الآخر أكثر ظُلمة من أي وقت مضى”.
وعلى الرغم من أنه لم تكُن هناك اختراقات حاسمة في لقاء الأسبوع الماضي، إلا أن البلدين يتفاوضان على معاهدة استثمار ثنائية يبدو أنها قريبة من تحقيق اتفاق بشأن تحرير التجارة في السلع ذات التقنية العالية.
يعتقد الصينيون أن الإصلاحات الاقتصادية التي تعهد بإجرائها الرئيس تشي جينبينج تعالج عديدا من الانتقادات التي تقدمت بها واشنطن بشأن تلاعب بكين بعملتها وأسواقها المالية.
وأحد المجالات الجديدة للروابط الاقتصادية المزدهرة هو الارتفاع الأخير في الاستثمارات الصينية في الولايات المتحدة. وبحسب مجموعة روديوم الاستشارية في نيويورك، كانت هناك 82 صفقة في عام 2013 بلغ مجموعها 14 مليار دولار، أي ضعف العام السابق.
لكن مجتمع الأعمال الأمريكي، الذي كان بشكل تقليدي الداعم القوي لروابط أقرب مع الصين، قد أُصيب بخيبة أمل من واقع العمل هناك. فكثير من الشركات متعددة الجنسيات في الصين تتذمر من السياسات الصناعية التي تفضل المنافسين المحليين وتحاول إجبارها على تسليم الأسرار التجارية شرطا لدخول السوق.
ومثل هذه الشكاوى تظهر بقوة في صناعة التكنولوجيا، خاصة منذ الاتهامات المستوحاة من سنودِن بأن الشركات متعددة الجنسيات ربما تكون متواطئة في عمليات التجسس الأمريكية. وفي الأسبوع الماضي أعلنت شركة صناعة السفن الأمريكية، كوالكوم، أنها ستعمل مع المجموعة الصينية، سميك، ضمن علاقة فسّرها بعض المحللين بأنها وسيلة لتسوية خلافاتها مع سلطات مكافحة الاحتكار الصينية.
في المقابل، لدى الصين شكاواها الخاصة حول ما تعتبره حماية اقتصادية مدفوعة سياسياً في الولايات المتحدة ضد شركاتها الأكثر نجاحاً – خاصة شركة هواوي، حيث تم منع شركة معدات الاتصالات من عديد من فرص العمل في الولايات المتحدة، جزئياً بسبب معارضة الكونجرس.
هي ماوتشون، مدير مركز الدبلوماسية الاقتصادية في جامعة تسينجهوا في بكين، يقر بأن بعض السياسات الصناعية الصينية لا “تنسجم مع روح التجارة الحرة”. لكنه يضيف أن “الصين ليست وحدها في ذلك. فالولايات المتحدة وأستراليا والبلدان الأخرى الناطقة بالإنجليزية ترفض شراء منتجات تكنولوجيا المعلومات من هواوي ولينوفو. كل بلد لديه سياساته الحمائية التجارية الخاصة به”.
ويقول بريمر “إن قدَر الإصلاحات الاقتصادية الطموحة التي وعد بها الرئيس تشي سيكون لها أثر هائل في الطريقة التي ستتعامل بها الصين والولايات المتحدة في نهاية المطاف مع بعضهما بعضا”.
وإذا أفلح الرئيس الصيني في مساعيه، واحتفظ الاقتصاد بمعدل عال نسبياً من النمو، فستستمر الشركات الأجنبية في الازدهار في الصين. لكن إذا فشلت الإصلاحات، وأصبح المناخ السياسي أقرب إلى معاداة الغرب، فإن الشركات متعددة الجنسيات ستعاني بصورة سيئة. ويقول بريمر “على الأمد المتوسط، لدى الصين مشاعر من اللبس تفوق ما لدى أي بلد كبير آخر. إذا بدأ تشي جينبينج في مواجهة مشكلات سياسية خطيرة في الداخل، فإن نهجه تجاه الولايات المتحدة يمكن أن يتغير بصورة جوهرية”.