توفيق كسبار
إنها مجازفة خطيرة أن تكون على حق حين تكون السلطة على خطأ. (فولتير)
النازح الفقير السوري ينافس العامل الفقير اللبناني على عمله وأجره، وصاحب العمل يستغلّ هذا الوضع ليزيد أرباحه، في حين أن اهتمامات المسؤولين السياسيين والأحزاب والنقابات بعيدة كلياً عن هذا الوضع المأسوي لعشرات آلاف العمال اللبنانيين والذي يتفاقم يومياً في حين أن المسؤولين غافلون عنه كأنه قائم في عالم آخر. إننا نستغرب هذا الصمت المطبق حول مسألة البطالة والتدهور المعيشي لآلاف العمال اللبنانيين من جراء النزوح السوري، في حين أن هذه المسألة لها طابع
القنبلة الموقوتة اجتماعياً وسياسياً.
العامل اللبناني الذي نتكلم عنه يعاني بشكل مستمر من تدهور في وضعه المعيشي وهاجس استبداله بعامل أجنبي مستعد للعمل بأجر أدنى بكثير من أجره، المتدني أصلا. وهذا العامل ذو الوضع غير المستقر يتوزع في مختلف القطاعات في الزراعة والصناعة والخدمات، مع أن ظاهرة التنافس المذكورة أعلاه طاغية في قطاع الخدمات. ومن المجالات الخدماتية التي تشهد ظاهرة استبدال العامل اللبناني بالعامل السوري نذكر على سبيل المثال المطاعم الصغيرة والكبيرة، والفنادق، وآلاف محلات البيع بالجملة وبالتجزئة، والمستودعات، وقيادة سيارات الأجرة والشاحنات، وخدمات الصيانة المتفرقة، إلخ. وهذه أمثلة قليلة من قطاع الخدمات فقط، بدون ذكر الصناعة، والبناء والزراعة بشكل خاص حيث العمالة السورية كثيفة تاريخياً. ويجب أن نضيف إلى المنافسة العمّالية المنافسة المؤسساتية، إذ إن العديد من النازحين أنشأ مؤسسات صغيرة لا تتطلب رأس مال كبيراً. وهذه تُعدّ بالمئات إن لم يكن بالآلاف، وجلّها في قطاع المأكولات والخدمات البسيطة.
والعامل اللبناني الذي يواجه منافسة العامل الأجنبي في لبنان هو عادة ذو مستوى تعليمي لا يتعدّى المرحلة المتوسطة ويعمل إجمالاً بدون شكل منتظم، أي هو عامل موسمي أو مؤقت أو بالساعة. ولا يجوز التوهّم بأن عدد هؤلاء قليل، فهم يشكّلون غالبية العمالة اللبنانية، وذلك استناداً إلى آخر الإحصاءات الرسمية التي أجريت عام 2007، وخلافاً للاعتقاد السائد في لبنان حول المستوى التعليمي المرتفع للعمالة اللبنانية. لذلك فعدد العمال اللبنانيين المهدّدين بعملهم وعيشهم من جراء منافسة العامل النازح يربو على مئات الآلاف. والمنافسة بدأت تصل إلى مهن أخرى تتطلب مهارات متخصصة، كما يبدو أنها بدأت تطاول الأطباء.
من المهّم ألاّ ننظر إلى الأمر بشكل عنصري ضد النازح السوري. فالنازح غالباً ما يكون مغلوباً على أمره، ترك بلاده مرغماً ويحاول أن يكسب أدنى مستوى معيشي لعائلته، وهذا تصرّف إنساني طبيعي. المسؤولية تقع أولاً على السلطة السياسية التي سمحت أن تصل الأمور إلى هذه الدرجة من الخطورة بدون أي استدراك أو تنظيم، وثانياً على أصحاب المؤسسات الذين يستبدلون، غالباً بشكل غير قانوني، العامل اللبناني بالعامل السوري الذي يتقاضى أجراً أدنى بشكل ملحوظ وطبعاً بدون أية تقديمات اجتماعية. فإذا أردنا السير بهذا التوجّه إلى نهايته المنطقية نتساءل لماذا لا يكون لبنان البلد الرائد في العالم، وهو منذ زمن على هذه الطريق، بأن يشرّع كل اسواق العمل لديه لكل عمّال العالم لكي يستفيد صاحب المؤسسة في لبنان من أدنى أجر ممكن؟ هذا بالطبع تصرّف غير طبيعي في كل دول العالم، إنما هو أمر واقع في لبنان بالنسبة لمئات آلاف العمال اللبنانيين، وذلك خلافاً للواقع في كل الدول الأخرى حيث يُعتبر السبب الأول والأخير لوجود السلطة هو حماية أمن ومصالح مواطنيها.
يتأثر الوضع المعيشي للعامل اللبناني سلباً على مستويات عدة. هناك أولاً التأثير المباشر المتمثّل بخطر البطالة حين يتمّ استبداله بعامل أجنبي. أضف إلى هذا خطر تدني الأجر من جراء المنافسة من عامل أجنبي مستعد لقبول أجر أدنى وبدون أية ضمانات أو تقديمات اجتماعية. وكثيرون هم أصحاب العمل في لبنان الذين يتجاهلون القوانين لكي يدفعوا أجراً أدنى، ومن المعروف أن تطبيق القانون ليس من الأمور السائدة في لبنان، علماً بأن عدم تطبيق القانون لا يترتب عليه عادة عواقب مكلفة. والتأثير غير المباشر على الوضع المعيشي للعامل اللبناني قد لا يقلّ عن التأثير المباشر. فقد ارتفعت كلفة إيجار الغرف والمساكن المتواضعة بشكل كبير، وهذه الكلفة تشكّل جزءاً مهماً من الكلفة المعيشية للعامل اللبناني ذي الدخل المحدود. أضف إلى هذا صعوبة توافر سلع أساسية كالماء والكهرباء وارتفاع كلفتها مع عدة سلع استهلاكية أخرى من جراء ازدياد الطلب عليها بشكل لافت.
من يدافع عن حقوق العمال اللبنانيين ومصالحهم؟
السلطات السياسية والقانونية لا تفعل شيئاً، وكأن تواطؤاً قائم ضمنياً بين هذه السلطات وأصحاب العمل والمؤسسات تاركاً لهؤلاء حرية التصرف بدون أي رادع قانوني. هل من دولة في العالم، غير الدولة اللبنانية، تتعاطى
مع مواطنيها العمال بهذه الطريقة؟
أما النقابات العمالية – والدفاع عن مصالح العمال هو سبب وجودها أصلاً – فهي أيضاً غائبة تماماً عن هذه المسألة العمالية الخطيرة. لقد كانت النقابات العمالية اللبنانية من أولى ضحايا اشتداد القبضة السورية على لبنان بعد انتهاء الحرب اللبنانية في أوائل التسعينات من القرن الماضي، فاستكانت وصمتت. ونشهد منذ بعض الوقت إعادة إحياء للعمل النقابي، مع أن هذا الانتعاش النقابي يتجاهل تماماً الوضع العمالي العام الذي نتكلّم عنه إذ هو محصور بوضع موظفي القطاع العام، بمن فيهم عشرات الآلاف الذين “أُدخلوا” إلى جنة القطاع العام تكريساً لمواقع سياسية، وبالأخص في قطاع التعليم. ولقد أصبح الجزء الأكبر من القطاع العام غير تابع عملياً لسلطة الدولة وخارج مفهوم الخدمة العامة وبات تابعاً بالفعل لسلطة سياسية خاصة.
يبقى دور الأحزاب في الدفاع عن العمال اللبنانيين في محنتهم الاستثنائية، إلا أنه أيضاً دور غائب كلياً. ومن المفارقات الغريبة، في هذا الصدد، غياب أي برنامج اقتصادي أو اجتماعي محدد لأي من الأحزاب أو التجمعات السياسية اللبنانية، حتى في مواسم الانتخابات حين تنشط الشعارات الكبيرة والتمنيات بدون محتوى عملي. وهذا الواقع ينطبق خاصة على الأحزاب اليسارية العريقة، التي نشأت لتكون الناطقة باسم العمال، كالحزب الشيوعي اللبناني الذي لا يزال مأخوذاً بالتصدي للمؤامرة الأميركية-الصهيونية.
إن العامل اللبناني وحيد في مأساته المعيشية. وعلى كل عامل لبناني، من أية فئة أو مستوى، أن يعي أنه ليس من سلطة سياسية، أو قانونية، أو نقابية أو حزبية في لبنان تفكّر في حقوقه الطبيعية ومصالحه أو تدافع عنها. وكل من يعتقد عكس ذلك هو واهم. ربما حان الوقت لحزب يساري حقيقي في لبنان.