Site icon IMLebanon

شربل سِكران بالله… (بقلم ريتا الطرق)

“بس تغلّط قول غلّطت، قرّ بغلطتك، اعترف فيها، وصلّح قد ما بتقدر. الغلط اللي بتعترف فيه وبتصلّحو بيكبّرك ما بيصغّرك”.. هذا ما قاله القديس شربل مخلوف إبن بقاعكفرا الضيعة التي تقع في أعالي شمال لبنان.

يوسف الذي عرفه العالم بـ”القديس شربل” ترك منزل والديه بعمر الـ23 ليسلك درب الرب، قال يومًا: “نيّاتك السليمة ما بتكفي تا توصل عَ السما، لازم تكون أعمالك سليمة مثل نيّاتك”، هذا ما فعله، صفّى نواياه وقصد الترهّب في الرهبانية اللبنانية المارونية. درس اللاهوت في دير كفيفان، ورسم كاهنا في بكركي في 23 تموز 1859، متمرّسًا بأسمى الفضائل الرهبانية، بالصدق بالإيمان وبالتواضع.

شربل كان يقول إنّ “الجهل مثل النوم، ما بتعرف إنّك كنت فيه إلاّ لمّا بتطلع منّو. وعّي النايمين، بس لمّا بيوعوا رح يعرفوا إنّهم كانوا نايمين”. كان يقصد بالجهل البعد عن الله والكنيسة، داعيًا إيّانا للتقرّب من يسوع المسيح والإتّكال عليه في أعمالنا وممارساتنا كافة. “لي بخاف من بكرا ما بكون بحضرة الله”، هذا ما لم يفعله شربل، لم يخف من الغد لأنّه يعلم أنّ أمسَه صنعه الرب وحاضره تمّمه الرب، ومستقبله سيكون مع الرب.. “سكران بألله” هذا اختصار لوصف يمكن أن يعبّر عن حياة شربل مخلوف.

استحبس الراهب في دير عنايا ـ جبيل عام 1875، حيث قضى 23 عامًا متعبّدًا لوالدة الله مريم العذراء ومتمسّكًا حتى آخر أنفاسه بسبحة الوردية التي حارب الشيطان بها. دعانا الى عدم “التعمشق بالشرير أو الوقوف بدربه”، وقال: “كلّ همّو يزوّر صورة الله بذهنك وبقلبك، ويزوّر صورتك بنظرك. بدّو ياك تعرف الله غلط وتشوف حالك غلط. بيزوّر وبيشوّه وبيخدع. بيجرّب يوقّفك وقت اللي لازم تمشي، ويمشّيك وقت اللي لازم توقف. بكلّ الحالات بدّو يخدعك. الشيطان هو المخادع الأكبر، المزوّر الأعظم غشّاش خبيث، كرمال هيك نعتو الرب بأبو الكذب”.

نام شربل على فراش حقير على الأرض ليصعد الى ملكوت الله السماوي، اتّكأ على جذع خشبي وأكل خبزًا عفنًا لينال حياة القداسة، ضوّى سراجه بالماء ليبقي لنا زيت النعمة الإلهية. هذا هو شربل.. راهب من لبنان أطلّ على العالم أجمع، عندما تمّ تطويبه في 5 كانون الأوّل 1965 على أثر شفاء إحدى راهبات القلبَين الأقدَسَين واسكندر نعّوم عبيد من بعبدات، وأعلنت الكنيسة قداسته بتاريخ ۹تشرين الأوّل 1977 بعد شفائه مريم عوّاد من حمّانا.

ما لبث أن انتشر عرف قداسته، حتى قصده الناس من أصقاع الأرض لنيل بركته والتماس شفاعته لشفاء النفوس والجسد.

شربل عرف أن الجلجلة ستكون عنوان حياة المسيحيين المشرقيين، وهو قال في إحدى رسائله: “درب جلجلتكن طويل بهالنقطة من العالم، وصليب المسيح بهالشرق على اكتافكن، أعداؤكن كتار لأنّن أعداء الصليب. ما تجعلوا منهم أعداء لإلكن. احكوهم دايمًا بلغّة الصليب ولو كانوا أعداؤكم بسببو”.

أجرى الله على يد القديس شربل عجائب عديدة، فعرف القديس بـ”أبو العجائب”، ولا تزال العجائب التي لا تحصى ولا تعدّ تسجّل في أرشيف دير مار مارون ـ عنايا بعد التأكّد منها وإثباتها. والجدير بالذكر أنّ نعم القديس اللبناني تطال مختلف ديانات العالم ومختلف طوائفهم، ولا تعصى الأمراض الخبيثة والمستعصية. وما يكفي لنيلها هو الإيمان.. والإيمان فقط.

عارض الفالج الذي أصاب شربل لم يمنعه من الإستمرار برفع كأس القربان المقدس، ولو بصعوبة. ذاق مرارة الألم ولم يتوقف عن الصلاة حتى صعد الى حضن الآب السماوي ليلة عيد الميلاد في العام 1898.

شربل نبّهنا من أنّ “الشهور والسنين اللي جايي رح تكون صعبة كتير، وقاسية ومرّة وثقيلة ثقل الصليب، العنف رح يملّي الأرض، الكوكب رح يتجرّح بسكاكين الجهل والحقد، الشعوب المحيطة فيكن كلّها رح تترنّح تحت الألم، الخوف رح يكون على كلّ الأرض متل الرياح، والحزن بقلوب كلّ البشر”. هذا ما يحصل في يومنا، شربل لا يتنبأ أو يتكهّن، شربل ينطق فقط بلسان الرب.

شربل الذي تحتفل الكنيسة الأحد في 19 تموز بعيده، دعانا لحمل الأثقال بصلاة عميقة من الإيمان، وبصبر من الرجاء، وبمحبّة من الصليب. فلنتّخذ من الراهب القديس عبرة ونحمل سراج الزيت ونضيء قلوبنا بالمحبة والتسامح، ولنسكر به كما سكر بالله ونتذكر ما قاله “اللي بيصلّي بيعيش سرّ الوجود، واللي ما بيصلي بالكاد موجود”.