بيليتا كلارك
في الجزء الأول من موضوع مشكلة المياه العالمية تطرق الحديث إلى خطر نفاد المياه العذبة، وإلى جهود القطاع الصناعي لتفادي مثل هذه النتيجة. وكذلك ضرورة أن تحظى هذه القضية باهتمام أكبر من صناع السياسة.
وعلى الرغم من تركيز الجزء الأول على القطاع الصناعي ودوره في استنزاف الموارد المائية، يبقى القطاع الزراعي أكبر مستخدم للمياه وتأتي الصناعة في المرتبة الثانية وبمسافة كبيرة.
وتقول الأمم المتحدة: إن الزراعة تمثّل 70 في المائة من استخدام المياه، مقارنة بـ 22 في المائة للصناعة و8 في المائة فقط للمستخدمين في المنازل.
وهذه النسب تختلف من بلد لآخر، لكن المشكلة التي تطرحها ندرة المياه للشركات في أجزاء كثيرة من العالم هي أن النقص يؤدي إلى الصراع بين اثنين من أكبر المستخدمين، الزراع والصنّاع.
في العام الماضي حطم زراع خط أنابيب قالوا إنه كان يحوّل المياه إلى مصانع في مدينة قريبة. وفي أستراليا، شكلت مجموعة من الزراع حركة ضد التنقيب عن غاز الفحم الصخري بدعوى أنه سيُلحق الضرر بإمدادات المياه. وفي الهند المسؤولة عن أكثر من 30 في المائة من الزيادة في استنزاف المياه العالمي على مدى الأعوام الـ 15 الماضية، كانت احتجاجات الزراع بشأن المياه تستهدف شركات ترواح من شركات توليد الطاقة العاملة بالفحم إلى شركات صناعة المشروبات الغازية. وفي الشهر الماضي تم إغلاق مصنع تعليب آخر لشركة كوكا كولا، لكن هذه المرة في شمال الهند، بشكل مؤقت بعد أن اشتكى زراع محليون بشأن استخدامه للمياه.
لقد ارتفع عدد النزاعات المتعلقة بالمياه المُعلنة في جميع أنحاء العالم في الأعوام الـ 15 الماضية، وذلك وفقاً لمجموعة أبحاث المياه المعروفة باسم “معهد المحيط الهادي”. وقد أعرب مسؤولون في الاستخبارات الأمريكية أيضاً عن قلقهم بشأن مخاطر النزاع حول المياه. وقال تقرير للاستخبارات عام 2012 تم تحضيره لوزارة الخارجية الأمريكية: “نحن نُقدّر أنه خلال الأعوام العشرة المقبلة، ستُساهم مشاكل المياه في عدم الاستقرار في دول تُعتبر ذات أهمية لمصالح الأمن القومي في الولايات المتحدة”.
وأبرز التقرير المخاطر على أسواق المواد الغذائية العالمية جراء الاستنفاد السريع لمصدر مهم، هو المياه الجوفية.
وأكثر من 97 في المائة من المياه في العالم موجودة في المحيطات. ومن المياه العذبة البالغة 2.5 في المائة، نحو 70 في المائة محجوز في الأنهار الجليدية والقمم الجليدية، ويوجد نحو 1 في المائة في البحيرات والأنهار وغيرها من مصادر المياه السطحية. أما نسبة الـ 30 في المائة الباقية فهي المياه الجوفية، بعضها قديم جداً ومن الصعب استبداله ويُعرف باسم المياه الأحفورية.
الحفر العميق
قبل أقل من قرن كانت المياه الجوفية تُستخدم بشكل أقل نسبياً. لكن مع ارتفاع عدد السكان في العالم، زاد الطلب على المواد الغذائية، وأدى ذلك إلى طفرة في مجال التنقيب الذي بدأ في عدد قليل من البلدان، مثل إسبانيا والولايات المتحدة، لكنه الآن انتشر في أنحاء العالم كافة.
وما يُقدّر بملياري شخص يعتمدون على المياه الجوفية للشرب وري المحاصيل، لكن استخدامها غالباً ما يكون غير منظم ولا تتم مراقبته جيداً. هذا يعني أنه يتم ضخّ كمية أكثر مما يمكن تجديدها بسرعة.
مستويات المياه الجوفية في منطقة سنترال فالي الزراعية في ولاية كاليفورنيا الأمريكية تشهد تراجعاً سريعاً. بين عامي 2003 و2010، كانت خسارة كمية من المياه تعادل تقريباً تلك الموجودة في أكبر احتياطي في البلاد، وهو بحيرة ميد، وذلك وفقاً لدراسة ترأسها جاي فاميجليتي، من جامعة كاليفورنيا، الذي يستخدم بيانات الأقمار الصناعية الخاصة بوكالة ناسا لمراقبة الاستنزاف.
وفي الشرق الأوسط، خسرت بلدان من ضمنها إيران وسورية كمية من المياه تعادل تقريباً البحر الميت خلال نفس الفترة، على الأغلب بسبب ضخ المياه الجوفية.
لكن البروفيسور فاميجليتي يقول إن منطقة شمال غربي الهند تعتبر الأسوأ فيما يخص الاستنزاف. المزارع المتعطشة للمياه ونمو السكان السريع يعنيان أنه بين عامي 2002 و2008، خسرت طبقات المياه الجوفية في المنطقة كمية من المياه تعادل تقريباً ثلاثة أضعاف الحد الأقصى من الكمية التي تستطيع بحيرة ميد الاحتفاظ بها.
وعلى الصعيد العالمي ساهم ضخ كميات كبيرة من المياه الجوفية بزيادة “طفيفة لكن ليست تافهة” في مستويات البحار لأن المياه المستخرجة في نهاية المطاف تذهب إلى المحيطات، وفقاً لليونارد كونيكاو، من المؤسسة الأمريكية الرائدة الخبيرة في المياه الجوفية، جيولوجيكال سيرفاي.
مشاكل المياه
في قلب مشكلة المياه الجوفية هناك مجموعة من أوجه القصور التنظيمية التي لا تستطيع الشركات أن تفعل شيئاً يذكر لتغييرها، ويتضمن ذلك المياه المدعومة للزراع الفقراء التي تكره الحكومات المساس بها. ويقول سكوت ريكاردز، مؤسس جماعة ووتر فاند الأمريكية، التي تطور منتجات إدارة المخاطر المالية لصناعة المياه: “السياسة الزراعية هي أن ما من سياسي يمكنه أن يزيل الإعانات للزراع، سواء كان ذلك في ولاية كاليفورنيا أو في أي مكان آخر”.
إحدى الشركات المدركة تماماً لهذه المعضلة هي سابميلر، وهي واحدة من أكبر مصانع الجعة في العالم. لقد دفعت ملايين الدولارات للمحافظة على إمدادات المياه الخاصة بها وتحسينها، بما في ذلك ستة ملايين دولار لرفع مستوى الأنابيب ومعدات أخرى في أحد مصانعها في تنزانيا المتضررة من تدهور نوعية المياه. لكن في آخر منشآتها في ولاية راجستان الهندية تختفي المياه الجوفية بسرعة حيث أصبح ذلك يشكل “خطرا كبيراً جداً على مصنع الجعة”، كما يقول آندي ويلز رئيس الشركة للتنمية المستدامة.
واستثمرت سابميلر في عدة تدابير لتعزيز الإمدادات، واستبدلت المياه بمعدل أكبر بكثير من المياه التي تستخرجها كل عام. وكما يقول ويلز، لا يزال “هذا لا يكفي لحل المشكلة لأن الزراع لا يزالون يستخدمون المياه الجوفية”، مشيراً إلى أن مياه الري هي عادة ما تكون رخيصة جداً ويتم استخدامها بشكل غير فعال. وتدفع سابميلر، مثلا، نحو 50 سنتاً مقابل كل متر مكعب من الماء تستخدمه في جنوب إفريقيا، في حين أن الزراع الذين يقومون بري الشعير المستخدم في صناعة الجعة التابعة لها يمكنهم دفع نصف 1 في المائة من هذا السعر لنفس الحجم من الماء.
وبحسب ويلز “الحل الوحيد للشركات هو حقاً فهم تلك المخاطر المحلية؛ وتحسين الكفاءة بشكل كبير والانخراط مع المجتمعات المحلية والحكومات وغيرها لوضع المشاريع في المكان الذي يحمي مكامن المياه لجميع المستخدمين”.
ومن غير المرجح أن تنخفض تكلفة هذه التدابير عندما يصبح سكان العالم أكبر، وأكثر ثراء.
جدلية المياه والطاقة
وبحلول عام 2030، يتوقع أن يزداد عدد سكان العالم من سبعة مليارات اليوم إلى ثمانية مليارات. وفي الوقت نفسه، من المرجح أن ترتفع الطبقة الوسطى العالمية من ملياري شخص تقريباً إلى خمسة مليارات، وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وإلى حد كبير في الاقتصادات الآسيوية السريعة النمو. ومثل سابقيهم في البلدان المتقدمة، من المرجح أن يرغبوا في أكل الهمبرجر، وليس مجرد وعاء من الخضراوات. وتشير حسابات الأمم المتحدة إلى أن ذلك يتطلب 2400 لتر من المياه لإنتاج شطيرة الهمبرجر، مقارنة بأقل من 30 لتراً للبطاطا أو الطماطم. وسوف يحتاجون أيضاً إلى تكييف الهواء وأجهزة التلفزيون وغيرها من الأجهزة التي تتطلب الكهرباء، وعلى رأس ذلك السيارات العائلية والعطلات في الخارج، التي تتطلب المزيد من الطاقة.
وهناك حاجة للمياه تقريباً في كل جانب من جوانب إنتاج الطاقة، من الحفر لاستخراج الوقود الأحفوري إلى تكرير النفط وتوليد الطاقة. وكمية المياه التي يستهلكها القطاع في طريقها لتتضاعف في غضون السنوات الـ 25 المقبلة، وذلك وفقاً لوكالة الطاقة الدولية.
في الشرق الأوسط، شيدت “رويال داتش شل” و”قطر للبترول” أكبر مصنع في العالم لتحويل الغاز إلى وقود سائل. ويشتمل المصنع القطري المعروف باسم “اللؤلؤة” على نظام لاستخلاص ومعالجة المياه يعتبر بحد ذاته فتحاً في هذا المجال، وهو نظام تقول “شل” إنه يلغي استخدام إمدادات المياه المحلية. ورفضت “شل” الكشف عن السعر، لكن تقديرات جلوبال ووتر إنتيليجانس تشير إلى أنه يكلف 640 مليون دولار.
ويقول لوران أوغست، مدير الابتكار والأسواق في مجموعة فيوليا الفرنسية لخدمات المياه، التي ساعدت على تصميم وبناء النظام “إنه مشروع ضخم. إنه بالتأكيد شيء لم تكن لتفكر به على الأرجح منذ سنوات، لكنه شيء يعتبر في غاية الأهمية”.
وإمدادات المياه ذات أهمية حاسمة لأحد القطاعات الأكثر حيوية في صناعة الطاقة، وهي صناعة النفط الصخري الأمريكية المزدهرة. فالتكسير الهيدروليكي، وهو اسم العملية المستخدمة لاستخراج الغاز والنفط الصخريين، يتطلب عادة نحو مليوني جالون من الماء أو أكثر في كل بئر. وأثار ذلك المخاوف بين جماعات مثل سيريس، مجموعة المستثمرين المستدامة، التي تقول إن ما يقارب نصف الآبار الأمريكية المحفورة منذ عام 2011 توجد في مناطق تعاني إجهادا عاليا، أو إجهادا حادا للغاية في مجال المياه.
وتلاحظ تارا شميت، من وود ماكنزي لاستشارات الطاقة، أن صناعة الصخر الزيتي جزء واحد فقط من قطاع الطاقة الذي يواجه ندرة المياه. وتقول: “لم يعد يمكن لذلك أن يكون مسألة عابرة. لقد أصبحت في الصدارة. تدرك معظم شركات الطاقة أنها بكل تأكيد تحت تدقيق متزايد من الحكومات والجمهور حول كيفية استخدام إمدادات المياه الخاصة بها”.
والخطر يعتبر واضحاً في الصين، حيث أصبح إلزامياً في بعض مناطق محطات الطاقة التي تعمل بالفحم أن يتم تبريدها بالهواء بدلاً من الماء. وتركيب نظام تبريد الهواء يكلف نحو 100 مليون دولار في مصنع متوسط الحجم، ويقلل من الكفاءة لأن المصنع يحتاج إلى حرق المزيد من الفحم لإنتاج الكهرباء لتشغيل النظام. وينتج عن ذلك الكثير من ثاني أكسيد الكربون المسؤول عن تغير المناخ، وهو ما يبرز صعوبة المقايضات البيئية التي تشكلها قضية ندرة المياه.
تحلية المياه مجال آخر حيث تؤدي ندرة المياه عن غير قصد إلى زيادة استخدام الطاقة، وذلك بفضل الزيادة المرتفعة في عدد المصانع التي تحتاج إلى الكهرباء للتشغيل. قبل 40 عاما كان من الصعوبة بمكان أن تجد أية محطة لتحلية المياه. اليوم هناك أكثر من 17200 محطة تنتج كميات من الماء تزيد قليلا على ما يعادل 21 عاماً من المطر على نيويورك، كما تقول الجمعية الدولية لتحلية المياه.
ولم يعد يقتصر ذلك في الغالب على صحاري الشرق الأوسط. فقائمة أفضل عشرة بلدان، من حيث سعة وحدة تخزين تحلية المياه العاملة، تشمل إسبانيا وأستراليا والصين، والشركات هي أحد أسباب ذلك. وبحسب المؤسسة الدولية للتنمية، منذ عام 2010 تم طلب ما نسبته 45 في المائة من المصانع الجديدة من قبل المستخدمين الصناعيين مثل محطات الطاقة ومعامل التكرير، ارتفاعاً من 27 في المائة في السنوات الأربع السابقة.
والمشكلة هي أن المياه المحلاة تعتبر في العادة أكثر تكلفة من المياه من مصادر أخرى. وكما يحذر علماء المناخ مراراً وتكراراً، تصبح المناطق الرطبة أكثر رطوبة والمناطق الجافة أكثر جفافاً، واحتمال ارتفاع هذه التكاليف يبدو مؤكداً.
ما العمل؟
الحل لندرة المياه هو إلى حد كبير في أيدي الحكومات وليس الشركات، لأنه يتطلب سياسات من قبيل القوانين التنظيمية الأفضل لمياه الري الجوفية، أو المزيد من الاستخدام الرشيد لمياه الصرف.
بعض الدول بينت كيف يمكن عمل هذا. لدى إسرائيل وسنغافورة إجراءات لتدوير وإدارة المياه تعتبر على نطاق واسع أنموذجا يحتذى. لكن الأمثلة التي من هذا القبيل نادرة نسبياً، وهذا أدى إلى أن تقوم بعض الشركات بأخذ الأمور بأيديها.
مجموعة من الشركات، من بينها نستله وكوكا كولا، ضمت صفوفها مع مؤسسة التمويل الدولية، وهي الذراع الاستثمارية الخاصة للبنك الدولي، لتشكيل “مجموعة موارد المياه 2030″، وهو جهاز يحاول إبراز أبعاد مشكلة ندرة المياه وأقل الطرق تكلفة للتصدي لها. وقد أنتج تقارير واقعية، بما في ذلك تقريرا يبين أن الطلب على المياه العذبة يرجح له أن يفوق العرض العالمي بـ 40 في المائة بحلول 2030، ما لم تتخذ المزيد من الإجراءات لتحسين العرض وإيقاف الاستخدام الذي يفتقر إلى الكفاءة.
لكن بعض أنواع الإجراءات معقولة من الناحية المالية أكثر بكثير من غيرها، وفقاً لتقرير آخر في السنة الماضية من إعداد شركة آروب للاستشارات الهندسية. مثلا، يمكن في حالة سد الفجوات المتسربة في نظام إمدادات الماء القائم أن يتصدى لندرة المياه من حيث توفير التكاليف من 50 إلى 100 مرة أفضل من إنشاء معمل مكلف لمعالجة المياه.
بعبارة أخرى، الحلول لندرة المياه معروفة ولا تحتاج إلى أن تكون مكلفة بدرجة كبيرة. لكن المخاطر التي يخشاها عدد متزايد من قادة الأعمال هي أنه سيتم تأجيل مثل هذه الخطوات حتى الدقيقة الأخيرة، وهو ما يجبر الأطراف المعنية على التدافع لاتخاذ إجراءات سريعة، تكون مكلفة.
يقول بيتر برابيك، من نستله: “إذا لم نعالج قضية المياه سينفد منا الماء، وعندها سنبدأ في محاولة اتحاذ قرارات لن تكون دائماً أفضل القرارات بالضرورة”.