تستحوذ المصارف الخليجية التي تتمتع بوفرة في السيولة على حصة متنامية في سوق القروض بالمنطقة مع قيامها بخفض الرسوم وتخفيف الشروط لتسحب البساط من تحت أقدام بعض المصارف الأجنبية التي هيمنت يوما على الإقراض.
هذا التغير يبرز الضعف الذي أصاب المصارف الأوروبية والأميركية عقب الأزمة المالية العالمية في ظل ما تواجهه من إجراءات لخفض التكاليف وضغوط تنظيمية في أسواقها المحلية بما يحول دون سعيها بقوة للفوز بأعمال في الخليج.
لكنه يرجع أيضا إلى تغير في بيئة عمل المصارف الخليجية. فبدعم من أسعار النفط المرتفعة والنمو الاقتصادي السريع في المنطقة تمكنت تلك المصارف من إصلاح ميزانياتها بعد الأزمة وكثير منها قلص مخصصاته للقروض المتعثرة وهو ما تمخض عنه سيولة وفيرة.
وتسارع المصارف الخليجية حاليا إلى إدارة هذه السيولة واستغلالها عن طريق الإقراض ولو بشروط ميسرة للغاية لم تكن لتفكر فيها قبل عام واحد.
وقال رئيس المديرين الماليين لدى شركة مشاريع الكويت القابضة (كيبكو)، بيناك مايترا، «الوقت مناسب حقا للمقترضين الذين يتمتعون بجدارة ائتمانية جيدة في الشرائح المتوسطة والصغيرة من السوق كي يفاتحوا المصارف المحلية«. أضاف «المصارف المحلية متحمسة للإقراض أمس أكثر من أي وقت في السنوات الخمس الماضية. فهي تقدم شروطا أفضل ولديها رغبة أكبر مما مضى (للإقراض) لآجال أطول«.
جداول التصنيف
يمكن رؤية هذا التغير في جداول «طومسون رويترز« لتصنيف القروض الخليجية المشتركة. ففي عام 2011 كانت القائمة المؤلفة من أكبر 25 مصرفا مرتبا للقروض المشتركة تضم 20 مصرفا أجنبيا. لكن في النصف الأول من العام الحالي لم تضم القائمة سوى 8 مصارف من خارج المنطقة. وتراجع اتش.اس.بي.سي الذي تصدر القائمة في النصف الأول من 2013 إلى المركز الثالث وحل محله مصرف سامبا السعودي في الصدارة. ونزل ستاندرد تشارترد إلى المركز الحادي والعشرين من المركز الرابع.
وقال مصرف الخليج الأول في أبوظبي الذي قفز إلى المركز الثاني من المركز الثالث والعشرين إن صعوده جاء نتيجة تبنيه نهجا أكثر جاذبية بكثير تجاه السوق.
وقال رئيس قسم تنظيم الديون والقروض المشتركة في المصرف، ستيف بيري، «انصب تغير استراتيجية مصرف الخليج الأول منذ تموز من العام الماضي على زيادة المنتجات المعروضة ومن ثم توفير مزيد من الحلول المناسبة لتلبية متطلبات عملائه الأساسيين«.
ويظهر تنامي رغبة المصارف الخليجية في الإقراض في حقيقة أنه حتى مع زيادة إجمالي حجم الإقراض في المنطقة خلال السنة الأخيرة فقد تراجع حجم القروض المشتركة بالفعل نظرا لأن المصارف تبرم مزيدا من الصفقات الثنائية الكبيرة بدلا من المشاركة في القروض مع مصارف اخرى.
ففي السعودية على سبيل المثال، أظهرت بيانات المصرف المركزي أن حجم الإقراض المصرفي للقطاع الخاص قفز 12 في المئة مقارنة بمستواه قبل عام ليصل إلى ما يعادل 319 مليار دولار في أيار. وفي الإمارات العربية المتحدة زاد إجمالي الإقراض 8.3 في المئة إلى 357 مليار دولار.
لكن بيانات «طومسون رويترز ال.بي.سي« تشير إلى أن القروض المشتركة الجديدة في الشرق الأوسط تراجعت 45 في المئة عن مستواها قبل عام إلى 17.5 مليار دولار في الأشهر الستة الأولى من 2014.
وربما يظهر هذا الاتجاه أيضا في الشروط الأكثر جاذبية التي تقدمها المصارف للمقترضين. وتشير بيانات «طومسون رويترز ال.بي.سي« إلى أن متوسط آجال استحقاق القروض المشتركة الخليجية منذ بداية العام بلغ 6.27 سنوات ارتفاعا من 5.77 سنوات قبل عام.
وقال مصدر مطلع إن بورصة دبي الشركة القابضة لبورصات الإمارة استطاعت الحصول على قرض قيمته 500 مليون دولار لأجل 3 سنوات من مصرف دبي الإسلامي الشهر الماضي بفائدة 90 نقطة أساس فوق سعر الفائدة بين مصارف لندن (ليبور).
وكان هذا السعر منخفضا للغاية وبخاصة لشركة بدت على شفا العجز عن السداد قبل 5 سنوات.
وبعض المصارف الخليجية على استعداد لخفض رسومها بنسبة كبيرة لجذب المقترضين. وأظهرت بيانات «طومسون رويترز« أن إجمالي رسوم القروض المشتركة في الشرق الأوسط انخفض إلى 101.2 مليون دولار في النصف الأول من 2014 مقارنة مع 216.3 مليون دولار قبل عام. وكان هذا الانخفاض البالغة نسبته 53 في المئة أكبر من التراجع في حجم الإقراض.
ونتج عن ذلك أن المصارف الأوروبية التي يعود بعضها الآن إلى منطقة الخليج كمؤسسات إقراض بعد تخارجها من أنشطة الأسواق الناشئة قبل عامين تجد هذا المناخ أقل ربحية.
وقال مدير القروض المشتركة الإقليمية في «رويال مصرف أوف سكوتلند«، سيمون ميلدروم، «لا شك أن زيادة المتطلبات التنظيمية والرأسمالية زادت تكاليف الإقراض لمعظم المصارف الأجنبية وهو ما جعل بعض الفرص غير جذابة من الناحية الاقتصادية«.
سندات
من الآثار التي نجمت عن تحمس المصارف الخليجية للإقراض تراجع إصدار سندات الشركات في المنطقة. فلم يعد لدى الشركات حافز يذكر لخوض الإجراءات المعقدة لإصدار السندات في حين أن بإمكانها الحصول بسهولة على قرض من المصارف المحلية.
وجرت العادة أن تجمع الشركات في الولايات المتحدة نحو 80 في المئة من ديونها عبر السندات و20 في المئة عبر القروض. وفي أوروبا بلغت هذه النسبة نحو 30 في المئة للسندات و70 في المئة للقروض.
أما في الخليج فيعتقد أن كفة الميزان تميل ناحية القروض نظرا لتأخر سوق السندات بالمنطقة نسبيا ويبدو أن إقبال المصارف الخليجية على الإقراض زاد من ترجيح هذه الكفة على مدى السنة الأخيرة.
وقال مايترا من شركة مشاريع الكويت «تستطيع المصارف إعداد صفقات تناسب الاحتياجات التجارية للمقترض بشكل أكبر بكثير من سوق السندات. هذه أداة تنافسية حقيقية يمكن للمصارف استخدامها. ولا يقل أهمية عن ذلك أن المقترضين يتمتعون بمرونة أكبر في السداد بسوق القروض مقارنة مع سوق السندات«.
وتشير بيانات «طومسون رويترز« و«فريمان« للخدمات الاستشارية إلى تراجع إصدار السندات في الشروق الأوسط 16 في المئة مقارنة به قبل عام إلى ما يعادل 22 مليار دولار في النصف الأول من 2014.
وفي الشهر الماضي، وقعت موانئ دبي العالمية إحدى كبرى شركات تشغيل الموانئ في العالم اتفاقا للحصول على قرض بـ3 مليارات دولار لأجل 5 سنوات لإعادة تمويل ديونها بفائدة أقل. ولو كان الحال غير الحال لربما لجأت إلى إصدار سندات.
لكن يبقى سؤال: إلى متى يستمر هذا الاتجاه؟ ربما تكون نسب القروض إلى الودائع في المصارف الخليجية أحد المعوقات التي قد تعرقل إقراض هذه المصارف. لكن هذه النسب ما زالت تبدو بعيدة عن المستويات التي قد تحد من إقراضها.
فعلى سبيل المثال، بلغت نسبة إجمالي قروض المصارف السعودية للقطاع الخاص والحكومة إلى إجمالي ودائعها 0.86 في أيار بما يقل عن مستواها في 2009 الذي بلغ 0.89. ووصلت نسبة قروض المصارف الإماراتية إلى ودائعها 0.98 في نيسان انخفاضا من 1.07 في نهاية 2011.
أحد العوامل الأخرى يتمثل في القواعد التنظيمية. فعلى مدى العامين الماضيين أخذت الجهات التنظيمية السعودية تضغط على المصارف لتجنيب مخصصات كبيرة للقروض المتعثرة للحد من المخاطر في النظام المصرفي. وفي العام الماضي فرضت الإمارات سقفا للإقراض المصرفي للكيانات شبه الحكومية والحكومات المحلية.
ومن شأن معايير بازل- 3 المصرفية الجديدة المقرر تطبيقها في أنحاء العالم خلال السنوات القليلة المقبلة أن تلزم المصارف بتخصيص مزيد من السيولة كرؤوس أموال.
وفي النهاية من المرجح أن تحد هذه العوامل من حجم الأموال التي تستطيع المصارف الخليجية إقراضها ومن ثم تشجع الشركات على إصدار مزيد من السندات.
لكن هذه العملية قد تسير بخطى بطيئة. فكثير من المصارف الخليجية تتجاوز بدرجة كبيرة معايير بازل-3 المتعلقة برأس المال ومازال أمام المصارف الإماراتية خمس سنوات لتطبيق القواعد الجديدة المتعلقة بانكشاف المصارف على المؤسسات الحكومية.
وقال ميلدروم من رويال مصرف أوف سكوتلند إن من المهم عدم الاهتمام أكثر من اللازم بجداول تصنيف القروض المشتركة التي قد تتغير سريعا. لكنه أضاف أن من الواضح أن المؤسسات المحلية تتجه للاضطلاع بدور أكبر في سوق القروض الخليجية.
وتابع «المصارف الإقليمية تتمتع حاليا برؤوس أموال جيدة وهذه السيولة تعني أن بمقدورها تقديم مزيد من القروض. وهي ترغب في السعي للاستحواذ على حصة أكبر من محفظة العملاء والصفقات عن طريق ترتيب الصفقات بدلا من مجرد المشاركة فيها«.