صبحي حسين عبد الوهاب الهندي
تكثر الأحاديث عن مشاريع لإعادة تأهيل خط «سكة الحديد» بين طرابلس والعبودية. وتنطوي هذه المشاريع في حال أبصرت النور على إحياء دور تجاري تاريخي لهذا المرفق الحيوي له إنعكاساته الإنمائية المباشرة على قطاعات إقتصادية متعددة، فضلاً عن توفيره لفرص عمل أحوج ما تكون إليها منطقة شمال لبنان.
والواقع أن لمحطة سكة الحديد في طرابلس لها تاريخ عريق يمتد عبر العصور الغابرة. فقد أنشئت في زمن الحكم العثماني بهدف ربط أجزاء السلطنة ببعضها البعض. ومن ثم، وبعد سقوط الدولة العثمانية وإنفصال العرب عن تركيا، تسلم لبنان الخطوط الحديدية المتواجدة على أراضيه. وكانت محطة طرابلس. وبعد إستقلال لبنان بدأت تعمل دون إنقطاع الى أن توقفت من حيث الدور مطلع الظروف الإستثنائية التي عاشها لبنان خلال حرب 1975. وتكشف معظم الدراسات والتقارير الإقتصادية التي وضعها الباحثون والخبراء الإقتصاديون الأجانب لا سيما الفرنسيون منهم خلال أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عن الأهمية الإستراتيجية لبلاد الشام في قطاع المواصلات والنقل التجاري البري بالرغم من خضوعها لسلطان الدولة العثمانية.
وكان قد بوشر في عهد السلطان عبد العزيز (1861- 1876) بمنح الرخص الى الشركات الأجنبية لمد الخطوط الحديدية في أنحاء السلطنة. فحصلت مؤسسة ألمانية على موافقة الحكومة العثمانية لمد خط حديدي يصل الى أنقرة. وتأسست بذلك شركة خط حديد الأناضول من قبل نقابة ألمانية للقيام بهذا العمل وكان ذلك في عام 1888.
وفي عام 1889، قام الأمبراطور الألماني فيلهالم الثاني بزيارة الآستانة على الرغم من معارضة بسمارك (1815- 1898) لتلك الزيارة. وبعد سقوط هذا الأخير من واجهة الحكم تبلّور الاتجاه الأمبراطوري الجديد بشكل واسع. فقام الأمبراطور المذكور بزيارة ثانية للسلطان العثماني وكان ذلك في عام 1898.
وتشكّل بلاد الشام هنا بمفهومها الجغرافي المشرقي العربي الشامل والأوسع راس الجسر لكل الطرق التي تمر براً من البحر المتوسط الى آسيا الداخلية.
وبحسب تقرير إقتصادي ألماني عن حال سوريا ولبنان في عام 1941، اي في زمن الإنتداب الفرنسي، أعدّه الباحث الألماني فولكر بيريتس ونشرت ترجمته العربية على صفحات العددين 31 و 32 عام 1989 من مجلة «دراسات تاريخية» التي تصدرها لجنة كتابة تاريخ العرب بجامعة دمشق وهي مجلة علمية فصلية. وصدر هذا التقرير الإقتصادي في الأساس في سياق سلسلة دراسات مديرية الإقتصاد الوطني الألماني في تموز 1941 ويقع في 100 صفحة منسوخة على الآلة الكاتبة. والغالب أن عدد نسخه لم يتجاوز المئة وزعت حينذاك على الجهات ذات العلاقة – أي دوائر حكومية وعسكرية وغرف التجارة والصناعة، ويتضمن عرضاً لإهتمامات ألمانيا النازية أيضاً بالطرق السورية والمطارات المدنية منها والعسكرية ونظام الدفاع الجوي. بالإضافة الى خط أنابيب النفط في طرابلس الشام. وانه لذلك كله يحسب حساباً للوجود الدائم لإحتياجات كبيرة في منطقة الإنتداب الفرنسي في حال الإنقطاع المؤقت لخط النفط العراقي، إذ تتعلق أهمية بلاد الشام بالنسبة لألمانيا، ومن وجهة نظر إستراتيجية، بالطموحات الالمانية بإتجاه العراق وحقوله النفطية.
وفي ضوء هذا التقرير، نشات مؤسسة السكك الحديدية بين دمشق وحماه. وقدّر رأسمالها وقتذاك بـ 15 مليون فرنك فرنسي. وجرى إفتتاح هذا الخط في 19 أيار عام 1911. وكانت محطاته الهامة هي حمص وتلكلخ وطرابلس. وبلغ طوله 102 كلم وعرضه 144 سم. وتنبّه المخططون الإقتصاديون الفرنسيون الى ما قامت به ألمانيا في إطار مشاريع إنشاء سكك الحديد، وما انتجه ذلك من شرايين مواصلات تؤمّن التواصل بين أرجاء مختلفة من البلاد الخاضعة جغرافياً لسلطان الباب العالي. والى الأهمية الإسترتيجية أيضاً لبلاد الشام كمنطقة عبور وحلقة وطل ما بين اقاليم منتجة وأخرى مستهلكة تفوقها ثروة يتحدد دورها الرئيسي كبلد ترانزيت مع إنشاء خطوط سكك الحديد.
وهكذا فإن إنتاج خط طرابلس جاء دعماً لحركة التجارة بين طرابلس وحلب، حيث أفاد رئيس المكتب التجاري للـ D.H.P أن 70% من الحمولة التي كانت تمر عام 1906 عبر بيروت – رياق – حماه. أخذت تمر منذ اللحظة في حزيران 1911 عبر طرابلس – حمص. وهو مشروع مموّل في الأساس برساميل فرنسية دُعي في العهد العثماني:
La Société Ottomane du Chemin de Fer de Damas à Hama et Prolongements
وشاعت تسميته بهذا المصطلح D.H.P.
وبالنسبة للعام 1912 فقد أشار مؤرّخ إجتماعي طرابلسي هو نور الدين الميقاتي الى انه تمّ بمسعى من التاجر الطرابلسي مصطفى عز الدين تدشين الخط الحديدي بين طرابلس وحمص. فإزدادت الحركة التجارية إتساعاً واصبحت المدينة تنعم بإزدهار إقتصادي منقطع النظير.
ويمكننا القول في المرحلة الراهنة ومن وجهة نظر إقتصادية معاصرة، ان مركز سكة الحديد في طرابلس يعتبر نقطة إلتقاء لبنان والعالم العربي من جهة، وبين لبنان وأوروبا والعالم من جهة أخرى، وبين لبنان وأوروبا والعالم أجمع من جهة أخرى. وقد عرفت هذه الخطوط عهداً ذهبياً حيث كانت المحطة تعج بالحركة والإزدهار 24 ساعة دون توقف… وذلك أيام الحكم التركي، وكذلك أيام الإستقلال. ونحن ما قبل الحرب اللبنانية التي حوّلت هذا المرفق الى مدينة للاشباح مدمرةًَ تماماً، كل شيء فيها محطم، الأبنية، المستودعات، الناقلات، القاطرات، الشاحنات، وحتى العمال باتوا يعدون على أصابع اليد الواحدة. أما التجهيزات الداخلية فلم يعد لها وجود على الإطلاق. والفوائد المتوخاة من إعادة الحركة الى سكة الحديد في طرابلس هي:
– خلق منافسة مشروعة بين وسائل النقل البرية (سيارات – باصات – شاحنات). والقطار بما يعود بالنفع للمواطن.
– ربط لبنان بالعالم .علماً أن لبنان عضو فاعل في جميع الاتفاقيات الدولية الخاصة بسكك الحديد على صعيد نقل الركاب أو البضائع.
– تنشيط حركة المرافئ وتخفيف الضغط على المستودعات والأوتوسترادات.
– إعادة توظيف الفريق العامل وتوفير أجواء إدارية لعمل يدوم 24 ساعة يومياً.
– الإستفادة من الأماكن الشاغرة داخل حرم المحطات كبديل للمستودعات، الأمر الذي يوفر الكثير على خزينة الدولة.