د. ماجد منيمنة،
كون الموازنة العامة وسيلة مالية ذات صلة بالشأن العام، لا يعني جعلها جزءاً أساسياً من الجدل السياسي العقيم. إن مناقشة وإقرار الموازنة العامة في المجلس النيابي، تمثل فرصة لطرح برامج إنمائية وإقتصادية واعدة, من خلال مشاريع بنّاءة تساعد على تحريك العجلة الإقتصادية الوطنية، بدلاً من هذا النمط السلبي المعمول به حالياً.
و في هذه الظروف الدقيقة التي يمر بها البلد فلا ينبغي القبول بهذا العبث السنوي. فالموازنة للمواطن أولاً، ويتوقف عليها مصير البلد بأسره حاضراً ومستقبلاً، وليست مناسبة للمبارزة السياسية وإستعراض العضلات من قبل الأفرقاء السياسيين. لقد أضعنا عقداً كاملاً في التخبط، وأوقفنا عملية الإصلاح المرجوة. وكانت لدينا بعد العام 1996 فرصة لتغيير واقعنا المرير, لكننا فرّطنا بهذه الفرص والتي يصعب تكرارها، أقلها من الناحية الإنمائية.
إن الموازنة الحالية، كسياسات وإجراءات، لا تستنزف الجهد والمال فقط، لكنها تفرّط أيضا بجهد اللبنانيين النبلاء والمخلصين منهم الذين كتبوا وبحثوا وناقشوا وقدموا كل ما لديهم من طروحات من أجل الإصلاحات الإقتصادية والمالية لإطلاق العجلة الإقتصادية لإعادة لبنان على الخارطة الإقتصادية العالمية، بينما لا يفعل السياسيون شيئاً، غير أن يبخسوا المواطنين أشياءهم من دون رحمة. إن غياب الشفافية، وإنعدام الوضوح، وضآلة الجدوى، وعقم الأسلوب في الإعداد والتنفيذ، هي التي تجعل الموازنة العامة جزءاً من الأزمة العامة في هذا البلد، وليست جزءاً من الحل.
فهذه الموازنة التي يعلو الصراخ بشأنها ، لا تمنحنا أية فرصة للتقدم في أي مجال، وعلى كافة المستويات الإقتصادية. وفي إطارها الحالي فإنه لا يمكن تحقيق أي شيء ذي جدوى: لا تنمية بشرية، ولا نموا إقتصاديا حقيقيا، ولا إستثمارا ماليا في مشاريع ريعية، ولا تكاملا مع الخطط والإستراتيجيات المطلوبة، التي تم إعدادها في أكثر من مجال، لتتحول فيما بعد إلى مجرد غبار يغلّف البنود والمخصصات المالية وأرقامها المبهمة. فالموازنات العامة تجسد أسوأ ما في الإقتصاد الحاضر، ولا تعبأ بالإنماء المطلوب للمستقبل، ولا تعكس هموماً تنموية للمواطن، ولا تأبه بإستدامة العيش الكريم لمواطنين ذاقوا الأمرّين طيلة أربعين عاماً حتى الآن.
لقد قطعت بلدان كثيرة ومنها بلدان من العالم الثالث، أشواطاً في هذا الصدد وتعمل من دون كلل وملل لإصلاحات إقتصادية ومنها المحافظة على إعداد موازنة عامة متوازنة تفي حاجات الوطن والمواطن، بينما نراوح نحن في مكاننا ونحن البلد المتميز بأفضل الكفاءات البشرية ومصارفنا متخمة بالإيداعات المالية. لقد أضاع الحكّام السابقون والحاليون عقودا ً من التنمية، وقد نجحوا في حشر لبنان في زاوية مميتة. وبذلك فإن ضياع عقد آخر لن يعني سوى الفوضى، وربما ضياع الوطن كله. ولا ينبغي أن يكون هذا السلوك إختيارا لأي من الأفرقاء السياسيين, لأنه في محصلته النهائية سيكون إنتحاراً يقوّض البناء الإقتصادي والمجتمعي والمعرفي والمالي لوطن بأسره.
ومنذ عشر سنوات لا يحظى اللبنانيون بصخب سياسي موسمي أفضل من هذا الصخب. فالسياسيون جميعا يتحدثون بطلاقة وبوعود عندما يحين موسم مناقشة الموازنة في البرلمان عن مصالح وآمال والإحتياجات الضرورية للوطن والمواطن. أما المواسم الباقية فيعلو فيها صوت التقصير في تقديم الحد الأدنى من الخدمات العامة، والعجز الفاضح عن عمل أي شيء ذي قيمة، وذو إستدامة، مع بعض الإستثناءات النادرة هنا، وهناك. وإذا كان كل شيء في لبنان يتجاوز المهنية والكفاءة والإختصاص ويعمل في الغالب وفق منطق نظام المحاصصة، فكان يفترض بهذا النظام أن يعمل على تسهيل تمرير الموازنات في مجلس النواب لا العكس.
فالموازنة تعد في وزارة المالية، وتوزّع تخصيصاتها هناك. وهي أصلاً بيان تفصيلي يوضح تقديرات إيرادات الدولة ومصروفها التي تعكس في مضمونها خطة الدولة لسنة مالية مقبلة. وهذا البيان يفترض على كل وزير أن يناقشه تفصيلاً مع المسؤولين التنفيذيين في وزارته، قبل إرساله إلى وزارة المالية. ووفق هذا المنطق، فأن تكرار إعادة مشروع قانون الموازنة العامة من مجلس النواب إلى مجلس الوزراء، لإجراء تعديلات جذرية عليها هو مجرد عبث سياسي، لا طائل من ورائه إلا إرباك الفريق السياسي الآخر وتعطيل الحركة الإقتصادية على طريقة «عليّ وعلى أعدائي». فالكتل السياسية تعيد الموازنة إلى وزرائها ليتفقوا عليها في مجلس الوزراء ثم تسترجعها منهم لتختلف عليها في مجلس النواب من جديد. وهكذا يبدد الوقت والجهد وتعمّق الخلافات العميقة أصلا وتزرع الشكوك والهواجس وتوزّع التهم، وتمارس جميع أنواع الإتهامات والإتهامات المضادة.
في غياب الحد الأدنى من قواعد الشفافية في الموازنة العامة، وضعف الوعي المجتمعي بالمفاهيم المالية والمحاسبية المرتبطة بها، فإن الشرائح المختلفة في هذا المجتمع يتم حشدها وراء إدعاءات ومطالبات تفرضها عليهم الكتل السياسية والحزبية النافذة. وليس أمام هذه الشرائح من دور في المساهمة في رسم السياسة الإقتصادية العامة غير الإستماع إلى صخب هؤلاء النواب وهم يدَّعون سياسياً, تعبوياً وليس إقتصادياً أو تنموياً, تمثيلهم لمصالحها وإحتياجاتها الأساسية، بينما يقف الآخرون موقفاً معارضاً منها. وعندما يتم عرض وتوظيف الموقف السياسي بهذه الطرق الفجّة، يتم تحويل بنود وتخصيصات الموازنة العامة إلى مزاد سياسي علني، تُباع وتُشترى فيه أحجام الإنفاق، ويتم رفع وخفض العجز، والتشكيك في مصادر التمويل، والتلاعب بمفاهيم هي غير مفهومة أصلا إلا للمختصين والتعامل مع هذه المفردات وكأنها مجرد شعارات سياسية وليست موضوعا فنيا, مهنيا يعكس مصالح إقتصادية وطنية عليها لا ينبغي المساس بها تحت أي ظرف كان. وفي نهاية كل عام تجسد الموازنة العامة خلاف السياسيين المرير حول تفسير بنود الدستور ذات الصلة بالشأن الإقتصادي، وبمشروع الدولة على حد سواء. وبهذا الصدد لم تعد عملية إعداد الموازنة العامة بمثابة شأن سيادي يقع في صلب الإختصاصات الحصرية للسلطة التنفيذية.
يتضح مما سبق ذكره، أن إشكالية الموازنة العامة في لبنان، ليست إشكالية مالية وإقتصادية فحسب، بل هي إشكالية مشروع الدولة اللبنانية ذاته. إنها إشكالية مرتبطة بعدم الإتفاق بين اللبنانيين على توصيف هذا المشروع الوطني، ولكن على توصيف هذا النظام الإقتصادي والسياسي على أنه نظام إقطاعي. وإذا كان ما يحدث بهذا الصدد هو جزء من توافق سياسي، بين مكونات الدولة، فإن الموازنة بشكلها الحالي، ومضمونها الحالي أيضا، لا تصلح، بل وليست مهيأة بعد ولا تستطيع أن تعكس التجسيد المالي، والتوافق السياسي المنشود بل هي تؤكد الخلاف السياسي المزمن والمفروض على بنودها وتبويبها المالي.
لذلك فالمطلوب اليوم الإسراع لإيجاد الحلول المنشودة للرقي بإقتصادنا الوطني إلى المراتب العليا وأن تتوفر خطط للدفع نحو دينامية إقتصادية وإجتماعية وأن تأخذ تدابير إقتصادية ومالية بديلة قوامها البناء على أسس متينة وصلبة بهدف مواجهة التحديات المالية المفروضة علينا دوليا، ومواجهة التحديات والرهانات الوطنية. وعلى الحكومة أن لا تتبنى نهج سياسة «عفا الله عما مضى» معانقة بذلك بؤر الفساد أينما كانت في تناقض صارخ بين الخطاب المطمئن والممارسة العبثية. كما أنه مطلوب إلغاء الهيمنة على المؤسسة التشريعية مستندة في ذلك على أغلبيتها العددية. ونتمنى أن تقلب الحكومة هذه المعادلة وتفتح أبوابا مغلقة لمناقشة وإعداد الموازنة العامة بدلا من السماح وتشجيع الأطراف السياسية بعدم الإستماع للرأي الآخر والعمل على إقصائه!.