خليل زهر
إن كان إقرار سلسلة الرتب والرواتب في لبنان هو فعلاً هدف هيئة التنسيق النقابية، فإن بعض الوسائل التي توظفها الهيئة لا يخدم تحقيق هذا الهدف، بل يساهم في إضعاف مطالبها المحقة. فإقفال الإدارات العامة والتوقف عن تصحيح الامتحانات الرسمية وتعطيل الدراسة وغيرها من وسائل الضغط التي تزيد حياة المواطنين تعقيداً وصعوبة، هي مثابة جلد الذات، لا سيما أن أعضاء النقابات وعائلاتهم يمثلون أكبر شريحة من هؤلاء. بينما شريحة معارضي إقرار السلسة، وهم الهدف المنطقي للضغط، هم أقل تأثراً بهذه الضغوط التي لا تؤثر بالمقدار المطلوب في مصالحهم الاقتصادية أو السياسية.
كما أن موقف الهيئة بالنسبة لتمويل السلسلة، أي ألّا يأتي على حساب الفقراء وذوي الدخل المحدود، شرط ضروري وأخلاقي، لكنه غير واقعي. حيث إن أي عجز في الموازنة لا بد من تمويله إما بزيادة الضرائب أو بالاقتراض. أما ما تدعو إليه هيئة التنسيق من توفير الإيرادات المطلوبة من تحصيل حقوق الدولة من الأملاك البحرية وغيرها من الأملاك العامة، فإن المخالفات في تلك الأملاك هي نتيجة تراكمات مزمنة، وبالتالي لا يمكن تصحيحها خارج عملية إصلاحية جذرية تتطلب إرادة سياسية غير متوافرة عند أصحاب القرار الذين من بينهم يأتي معظم المستفيدين من الوضع القائم.
وعلى رغم التأييد المعلن من كل القوى السياسية الممثلة في الحكومة لإقرار السلسلة ولكن بشرط ألّا يؤدي ذلك إلى تهديد الاستقرار المالي والنقدي، فإن السلسلة تراوح مكانها في اللجان المختصة. بينما تتكاثر العوامل الدافعة لعدم إقرارها والتي كان أبرزها تقديرات وزارة المال لمشروع الموازنة التي صدرت الشهر الماضي، إذ يقدر عجزها للعام الحالي بحوالى 34,9 في المئة أو 10,7 في المئة من الناتج. وذلك لا يشمل النفقات الإضافية التي تتطلبها السلسلة، بينما تشمل كل الإيرادات الإضافية المتاحة كما تراها وزارة المال. من هنا، يتوقع للدين العام أن يقارب 69 بليون دولار في نهاية العام الحالي، أي بزيادة مقدارها 5,7 بليون على العام السابق. وقد دفع هذا الوضع كثيراً من المرجعيات المالية والاقتصادية، من بينها حاكمية مصرف لبنان، إلى التحذير من خطورة اتخاذ خطوات غير مدروسة ترفع أعباء الموازنة العامة.
يذكر في هذا السياق أن قضية تمويل السلسلة، مع أحقيتها الكلية، ليست القضية الوحيدة ولا الأهم بين مجمل القضايا التي تعتري الإدارة الاقتصادية والاجتماعية. فعلى رغم النقص الكبير في الخدمات العامة وضعف التجهيزات، لا تزيد النفقات الاستثمارية على 7 في المئة فقط من إجمالي النفقات، أو حوالى ربع نفقات الموازنة على بند الرواتب والأجور. كما تقترب فاتورة المحروقات من نسبة الرواتب والأجور ذاتها وتساهم بحوالى بليوني دولار في إجمالي العجز، بينما تساهم الكهرباء بمبلغ مماثل. في حين أن فاتورة المحروقات يمكن خفضها بما لا يقل عن النصف إذا توافرت الخدمة الكهربائية بانتظام من الشبكة العامة، حيث إن المولدات الخاصة التي أصبحت توفر الجزء الأكبر من الطاقة الكهربائية المستهلكة والشبكات الخاصة التي تستخدمها هي منخفضة الكفاءة، تستهلك كميات أكبر من الوقود قياساً إلى محطات التوليد المركزية، كما أن خسائرها من الطاقة المفقودة أعلى كثيراً من تلك على الشبكة العامة.
فضلاً عن ذلك، فإن الكلفة الاقتصادية غير المباشرة للوضع الحالي في قطاع الطاقة والمتمثلة بالتلوث الناتج من المولدات الخاصة، ومن وسائل النقل المنخفضة الكفاءة، وتأثيره في الصحة العامة، وبالتالي في الفاتورة الصحية، قد تبلغ بلايين الدولارات. وقد يكون من المفيد أن تقوم الحكومة بدرس التكاليف غير المباشرة للسياسات الاقتصادية، ولا تقتصر الإدارة الاقتصادية على التمرين المحاسبي في موازنة الإيرادات والنفقات المباشرة، من دون أي مراجعة وتقويم لجدوى السياسات والإجراءات المعتمدة.
إذا كان الهدف من إقرار السلسلة هو تحسين الوضع المعيشي لذوي الدخل المحدود، فإن أية إجراءات تؤدي إلى خفض تكاليف المعيشة هي موازية لزيادة في الدخل. فالمواطن اللبناني يسدد فاتورة الكهرباء مرتين، وكذلك فاتورة المياه. كما يتكبد المواطن فاتورة الاستشفاء، وأعباء انخفاض الإنتاجية نتيجة ازدحام السير وأخطار الطرق، وغيرها من تشوهات التنمية. إضافة إلى ذلك، يدفع المواطن فاتورة عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، إذ إن توافر الأخير يعتبر ضرورياً لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الكفيلة بتحسين مستوى المعيشة وتقليص الفقر.
إن الوسيلة الأكفأ للحركة النقابية لتحقيق غاياتها هي بلورة استراتيجية شاملة تتمحور حول برنامج متكامل للإصلاح الاقتصادي والسياسي. فالقضايا التي تعتري الإدارة الاقتصادية والاجتماعية ليست مالية فحسب، بل هي هيكلية وسياسية بامتياز. وقد تكون النقابات أفضل من يوظف هذه العوامل المشتركة نحو تجاوز الاصطفاف الطائفي والمذهبي وتوحيدهم سياسياً في خدمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية العادلة والمستدامة.