رغم أنّ البعض لا يزال يؤمن بتلك المنظومة القديمة التي تؤكد أن لبنانَ مصدرُ المياه وأصلها، يعتقد بعضُ الباحثين أنّ الحالَ قد تغيّرت، لأن البلاد باتت تواجه أزمة شحّ فعلية طاولت مختلف القطاعات، وتجلّت ملامحها بالمحاولات الحثيثة الرّامية الى استيراد المياه من تركيا، لكنّ الدراسات تشير الى أن المضي بالسياسة المتبعة حالياً ستقضي على أي بصيص أمل قد يجنّب اللبنانيين الجفاف الذي بات حتميّاً.
فيما يواجه المزارعون في البقاع وسائر المناطق مشكلات فعليةً ألقت بثقلها على نوعية محاصيلهم، التقت الجهود المبذولة والاقتراحات التي تقدّم بها الاختصاصيون وجمعية المزارعين للحدّ من أخطار شح المياه مع تقصير الدولة واهمالها كلّ الخطط المطروحة، هذا الى جانب كميات المياه الهائلة التي يحق للبنان الافادة منها والناتجة من الأنهر، لكي يصبح لبنان على مسافة قصيرة من
الجفاف.
وفي هذا السياق، يكشف رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة الاميركية للعلوم والتكنولوجيا بسام هَمدر أن نسبة المتساقطات السنوية على لبنان تبلغ 9 مليارات م3، لكنه يخسرُ أكثر من 50% منها ما بين التبخّر وتسلّل المياه الى الطبقات الجوفية، الى جانب خسارة مليار متر مكعّب على شكل إهدار، لكي تصبح حصته 3 مليارات م3 فقط، في حين أن الحاجة الى المياه في لبنان تفوق نسبة المتساقطات بكثير، ما يضعُ البلادَ أمام تحدّ كبير خصوصاً أن الارقام تشير الى استحواذ القطاع الزراعي على 60% من مجموع هذه المتساقطات، ما لا يكفي الا لريّ 49% من المساحات الزراعية، فيما يُخصص مليار متر م3 للمنازل و300 مليون م3 للقطاع الصناعي.
وبالعودة الى السبعينيات، كانت حصّة الفرد في لبنان من الثروة المائية بين 1600-1700 م3، لتصبحَ حالياً أقلّ من 700 م3 في السنة في الوقت الذي كانت حددت فيه الامم المتحدة حاجة الفرد الى المياه ولكي يعيشَ حياةً نظيفةً بما بين 1400-1700م3، لكنّ المنظمة الدولية اضطرت الى تعديل هذه النسبة في ما بعد مع تزايد اعداد السكان والحاجة الى المياه، ليصبح هذا الرقم قرب 1000م3 سنوياً.
واذا طُبّقت هذه الأرقام على لبنان، بعد الأخذ في الاعتبار وجود اللاجئين السوريين الذي تخطى العدد المسجل منهم المليون و نصف المليون لاجئ بالاضافة الى عدد اللاجئين الفلسطينيين على الأراضي اللبنانية ما يرفع عدد سكان البلاد الى نحو 6 ملايين نسمة، (تزايد نسبة الكثافة السكانيّة بمعدل 1.3 في المئة) تصبح الحاجة الى المياه قرب 6 مليارات م3 بالصورة المثالية. وتقدر بعض الدراسات أن يصل العجز المائي في لبنان بحلول سنة 2030 الى حوالى 1660 مليون م3.
وعلى خطٍ مواز، يعتبرُ همدر أن الطبيعة مسؤولة عن اهدار جزء من الثروة المائية نتيجة ارتفاع الحرارة في المنطقة، فيما الدولة مسؤولة عن خسارة الجزء الثاني، إذ أن غض النظر عن تنفيذ مشروع الليطاني الذي يمكن أن يوفّرَ 85 مليون دولار وأن يساهم بريّ عدد كبير من القرى، يؤدي الى اهدار 500 مليون م3 من المياه التي تصبّ في البحر. وفيما يفترض أن يستفيدَ لبنان، بموجب الاتفاقات بينه وبين سوريا، من 80 مليون م3 من نهر العاصي، لا تحصل البلاد إلاّ على نسبة تقلّ عن النصف. وكذلك الأمر بالنسبة الى الحاصباني الذي يؤمن 6 ملايين م3 بسبب غياب البنية التحتية، بينما يستطيعُ لبنانُ أن يستفيدَ من 35 مليون م3، والوزاني الذي يحصل لبنان على ما بين 4 و 5 ملايين م3 من مياهه، فيما يفترض أن ينعم بنسبة لا تقلّ عن ما بين 14 و 15 مليون م3 منها.
الحلول الاساسية للأزمة
أما بالنسبة الى الحلول التي يمكن تبنّيها، فأكّد همدر أن ترشيد استهلاك المياه سيوفّر ما بين 100 و300 مليون م3، خصوصاً أن أكثر من 50% من المزارعين ما زالوا يعتمدون على الطرق التقليدية لري مزروعاتهم، فضلاً عن أهمية الثقافة المائية ودورها في بناء المجتمعات، مشدّداً على أهمية عدم اعطاء رخص بناء قبل التأكد من أن طالب الرخصة التزم بوضع خزانات لتخزين المياه على أسطح المباني.
وأيضاً من الحلول الأساسية التي قد تساعد لبنان في تخطي هذه الازمة هي السير سريعاً بعملية إنشاء السدود التي وضعت سلسلة خطط لها المديرية العامة للموارد المائية والكهربائية في وزارة الطاقة والمياه ضمن الخطة العشرية للإدارة المتكاملة للمياه والتي تشمل تنفيذ 27 سدا وبحيرة جبلية، بهدف تخزين الكميات الممكنة من المياه في فصل الشتاء والتي تقدر بحوالى مليار متر مكعب سنويا. ومن المهم الاشارة الى أن لبنان قادر على تأمين حاجاته المائية حتى سنة 2030 في حال تم تنفيذ الخطة العشرية للسدود والمياه، لكن حتى اليوم لم ينفذ منها سوى سد شبروح الذي تصل طاقته الاستيعابية الى 8.5 ملايين م3 فقط والذي تم تدشينه في 3 تشرين الأول 2007 بهدف سد العجز الحاصل في ميزان مياه الشفة والري وإلى تغذية قضاء كسروان بكمية 60 ألف متر 3يومياً من مياه الشفة خلال فصل الصيف وحوالى 12 الف متر3 لمنطقة المتن، كما تم تلزيم سدود العاصي وبقعاتا واليمونة (يؤمن مياه الشفة النظيفة مباشرة من الينابيع بكمية تقدر بـ 10.000 م3 يومياً) وسد القيسماني. الآن أمام إنجاز هذه الخطة معوّقات عديدة منها تأمين الاعتمادات اللازمة وإتمام عمليات الاستملاكات بالاضافة الى العوائق الامنية والسياسية.
وبالتالي أصبح وضع المياه في لبنان يستوجب إعلان حالة الطوارئ الفعلية للأزمة مع تراجع المخزونات ومستويات الأمطار ولم يتبقّ أمام اللبنانيين سوى شراء صهاريج المياه في الوقت الذي تشير فيه التقديرات الى ان انفاق المواطنين على شراء حاجاتهم من المياه، سواء للشرب أو الحاجات المنزلية، او الفنادق والمستشفيات تفوق الـ 2 % من الدخل القومي القائم، ما يوازي حالياً 660 مليون دولار يمكن توفيرها في حال اقرار خطة عامة لحفظ الموارد المائية وتأمين توزيعها .
… وأيضاً العالم العربي في أزمة مياه
تشير الدراسات الحديثة الى ان المعدلات السنوية لهطول الأمطار في العالم العربي تراوح ما بين 250 -400 ملم، وتتجاوز الألف ملم في بعض مناطق جبال لبنان والساحل السوري ومرتفعات اليمن وجنوب السودان في وقت تصل نسبة المتساقطات على دول العالم العربي الى ما بين 2100 و 2300 مليار م3 في السنة. أما بالنسبة الى حجم الموارد المائية المتاحة في المنطقة العربية فيبلغ حدود 372 مليار متر مكعّب يتم إستخدام 209 مليارات متر مكعب منها كما يبلغ نصيب الفرد العربي من المياه أدنى نصيب للفرد في العالم حيث تراجع من حوالى 3300 متر مكعب سنوياً عام 1960 إلى قرب 1255 متر مكعب في العام 2000، في وقت من المتوقع فيه ان يصل الى قرب 650 متراً مكعباً بحلول سنة 2025 نتيجة إرتفاع عدد سكان المنطقة الذي تجاوز الـ 250 مليون
نسمة.