حسن شقراني
لطالما عانى لبنان من أوضاع مالية صعبة بعد انتهاء الحرب، أو بالأحرى هكذا كان الوهم لتغطية مآثر الفساد والمغانم. حتى عندما كان يزخر بمعدلات نمو تفوق 9%، وبفوائض أولية في ميزانيته العامة، لخمس سنوات متواصلة، استمرّت التحذيرات بأنّ وضعيته غير سليمة، وبالتالي لا يجب الاسترسال بالمطالب الاجتماعية.
السبب وراء هذه الحالة الرديئة هو سوء إدارة الأموال المتوفرة في خزنة وزارة المال وفي خزنة القطاع المصرفي؛ السوء هنا هو بمعنى توظيف الأموال لصالح القلة أو زعماء الملّة وليس بهدف التنمية.
تكرار هذا الكلام ضروري، وخصوصاً عندما تصدر التقارير الدورية عن أحوال لبنان الاقتصادية والمالية. آخرها التقويم الشامل الذي أعدته بعثة صندوق النقد الدولي التي زارت لبنان في بداية العام الجاري في إطار برنامج المادة الرابعة من نظام الصندوق (Article IV).
تطبع صفحات التقرير اللهجة التحذيرية نفسها: إن إقرار سلسلة الرتب والرواتب من دون البحث بمصادر تمويل جدية يُعدّ خطوة نحو التدهور المالي؛ إن تجاهل الإصلاحات المالية سيؤدي إلى عودة الدين العام إلى التضخم.
يرى الصندوق أنه «من دون حل للأزمة السورية، فإن الأداء الاقتصادي سيبقى ضعيفاً» ومن المتوقع أن يراوح معدل النمو هذا العام حول 2%. «وبهدف تسهيل التحليل والتوقعات، نفترض أن النزاع في سوريا سينتهي عام 2016، وعندها سيعود النمو إلى مستوى 4%، وسيبدأ اللاجئون بالعودة إلى سوريا». ولكن رغم ذلك، ستبقى معدلات البطالة مرتفعة ولن ينتهي عبء النزوح السوري إلا في عام 2019.
ويُذكّر التقرير بتقديرات البنك الدولي حول تأثير الأزمة السورية، وبأنه خلال فترة 2012 – 2014، ستبلغ الكلفة 2.6 مليار دولار على المالية العامة، – أي قرابة 6% من الناتح المحلي الإجمالي – إضافة إلى 2.5 مليار دولار مطلوبة لإعادة الخدمات العامة إلى ما كانت عليه قبل الأزمة.
صحيح أن الأزمة السورية تبقى الخطر الأول المحدق بلبنان مالياً واقتصادياً، إلا أن المخاطر المحلية من جراء ضعف السياسات المالية وتأخر الإصلاحات الهيكلية، إضافة إلى المخاطر الخارجية وأساسها الارتفاع غير المتوقع لمعدلات الفائدة العالمية… تُعدّ بمستوى الخطورة ذاتها.
«إن تبلور هذه المخاطر قد يقضي على النمو ويرفع الكلفة التمويلية للحكومة ويكون له انعكاسات سلبية على ديناميات الدين العام»، يُحذّر الخبراء. ومن شأن هكذا سيناريو أيضاً أن يؤثر سلباً على تدفق الودائع، على معدل الدولرة وعلى الاحتياطات.
يُقدّر خبراء الصندوق أن الدين العام الإجمالي سيبلغ 68.8 مليار دولار بنهاية عام 2014. ويرون أنه سيرتفع تدريجاً ليصبح 101.4 مليار دولار في عام 2019، ما يُشكّل زيادة بنسبة 47.3%.
الدين مستمر بالارتفاع – وهي الحال نفسها خلال السنوات العشرين الماضية. ولكن ما يبقى ثابتاً هو ما يحمله الجهاز المصرفي من هذا الدين، وتبلغ نسبته 77%.
غير أنّ هذا الوضع، على ما يبدو، لم يعد مستداماً، بالحد الأدنى وفقاً لتحليل الصندوق.
كماشة المصارف
تحت عنوان تقوية الجهاز المالي، تجدّد البعثة تأكيدها أن المصارف أثبتت أنها مرنة أمام التحديات الماثلة. يشيد التقرير بقدرة مصرف لبنان على إرساء الاستقرار عبر سحب العملات الأجنبية من المصارف وتجييرها لتمويل الدولة، ما يُفسّر المستوى العالي للاحتياطات عند 35 مليار دولار في نهاية نيسان الماضي. غير أن البيئة التي تحيط بالمصارف تزداد صعوبة. بدايةً، أدت الاضطرابات الإقليمية إلى توقف الانتشار في البلدان المحيطة، فيما الفرص المتاحة لإقراض القطاع الخاص هي محدودة حالياً. وكنتيجة مباشرة لهذه العوامل خلال الفترة الماضية، ارتفع مستوى القروض المتعثرة، وإن بقيت منخفضة. كذلك تراجعت المؤونات التي تخصصها المصارف للتحوط من تلك القروض. من جهة أخرى، استمر الانكشاف على الدين السيادي أي الدين العام. هكذا «تدهورت ربحية المصارف، حيث أضحى العائد على الأصول حالياً 1% فقط».
بناءً على هذه المعطيات، تنصح بعثة الصندوق بضرورة تقوية الدفاعات المالية في الجهاز المصرفي؛ أي الاحتياطات الرأسمالية التي يُمكن الاعتماد عليها في الأوقات الصعبة.
فعلياً، يفرض مصرف لبنان على البنوك تأمين هامش سلامة رأسمالية يفوق الحد الأدنى المحدد وفقاً لاتفاقية «بازل 3» بواقع 1.5%، يُضاف إليه نسبة الحيطة والحذر التي تبلغ 2.5%.
«نرحّب بهذا الإجراء، ولكن في الوقت نفسه نحث السلطات على اعتماد مقاربة مستدامة لانكشاف المصارف على الدين العام بالتماهي مع مقررات اتفاقية بازل»، يقول خبراء الصندوق. ويذكر التقرير مجالين إضافيين يجدر أن تنطلق فيهما إصلاحات. الأول هو التصنيف التقني للقروض واعتماد القواعد الواضحة لإعادة هيكلتها. «على الرغم من أن السلطات تراقب انكشاف المصارف على البلدان المجاورة – أي تأثرها بالمخاطر في تلك البلدان – نشجّعها على البقاء حذرة وواعية لإمكان حدوث تدهور إضافي في الأصول محلياً وفي الخارج».
المجال الثاني هو تعزيز الإجراءات الخاصة بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب (AML/CFT). وهنا تقول البعثة إنّ توصل المصارف إلى «فهم أفضل لمصادر ودائعها وتحديد هوية المستفيدين منها من شأنهما تعزيز الرقابة على العمليات المصرفية وتحسين استقامة الأعمال في القطاع المالي».
غير أن التوصية المفاجئة في هذا الإطار تتعلق بأساس عمل المصارف اللبنانية. إذ يقول التقرير إنّه «مع الوقت قد يكون هناك مجال لحث المصارف على إعادة تقويم نموذج أعمالها الذي يقتصر حالياً على تحويل الودائع إلى القطاع العام»، أي تحويلها إلى دين عام.
يُقدّر خبراء الصندوق أن نمو الودائع بنسبة 8% يُعدّ كافياً لتأمين المتطلبات التمويلية للبلاد، وفي الوقت نفسه الحفاظ على احتياطات عالية. وبالتالي «على المصارف أن تتجنب تكرار تجربة نمو ودائعها بنسبة تفوق 10% لأنها تفرض كلفة تعقيم عالية يتكبدها مصرف لبنان». هكذا يُمكن المصارف أن تُخفض هامش الفوائد التي تمنحها للمودعين، مقارنة بالفوائد العالمية لتخفيف تدفق الودائع في حال احتاجت إلى ذلك.
وفي الإطار نفسه، يُتابع الخبراء في تقريرهم «هناك حاجة الى خفض اعتماد المصارف على الدين السيادي»، أي على تمويل الدولة إن عبر سندات الخزينة مباشرة أو بواسطة مصرف لبنان. «ويجب أن تنظر المصارف في خفض حجم ميزانياتها إذا تراجعت الاحتياجات التمويلية للقطاع العام على نحو ملحوظ وإذا بقيت الفرص الإقليمية محدودة».
النقاط الخمس
تعكس هذه النصيحة توجهاً جديداً في سياسة الصندوق. غير أن توصياته الأساسية التي تعكس وجهة نظر خبراء الصندوق هي مستهلكة، وجرى استعراضها في تقريرهم الأولي الذي نُشر في أيار الماضي (راجع: صندوق النقد: احتواء السلسلة).
صحيح أن الأزمة السورية تبقى الخطر الأول المحدق بلبنان، لكن هناك معطيات محلية ودولية بالخطورة نفسها
باختصار، هناك خمس نقاط أساسية يعتمدها خبراء الصندوق لتقديم النصح إلى السلطات اللبنانية لاحتواء أي تدهور مقبل، وتحديداً على المستوى المالي (راجع الكادر المرفق).
أولاً، إقرار موازنة عامة يُعد خطوة أساسية لصوغ السياسة المالية الملائمة. ثانياً، احتواء سلسلة الرواتب عبر تقسيطها وإلغاء مفعولها الرجعي وتنفيذ إصلاحات في القطاع العام عبر اعتماد مؤشرات قياس الإنتاجية. ثالثاً، «إصلاح» تعرفة الكهرباء مع ضمان حماية المستهلكين عند أسفل سلم الدخل. رابعاً، إعادة توزيع النفقات لتعزيز الاستثمارات والإنفاق الاجتماعي. خامساً، ضمان أن تكون الإجراءات الخاصة بزيادة الإيرادات عادلة، وهنا تنصح البعثة مجدداً برفع الضريبة على القيمة المضافة تدريجاً إلى 12% في 2015، ومن ثم إلى 15% عام 2017.
يُخصّص الخبراء حيزاً من التحليل لشرح نظرتهم حول سلسلة الرتب والرواتب. مع إقرار زيادة الحد الأدنى وتطبيق زيادة غلاء المعيشة، يبقى عنصر سلسلة الرواتب الذي يُضيف 970 مليار ليرة إلى فاتورة الأجور.
«إذا طُبقت السلسلة، فإنّها ستفاقم تعقيدات الموازنة/ المالية العامة» يقول التقرير. ويذكّر بأن فاتورة الأجور تتخطى حالياً 30% من الإيرادات العامّة وأكثر من 20% من النفقات، وأن الزيادة تضيّق المجال المتاح أمام المالية العامة.
يذكّر خبراء الصندوق بأنّ أكثر من 70% من الإنفاق العام الجاري – أي غير الاستثماري – يصب في ثلاث خانات فقط: التحويلات إلى مؤسسة كهرباء لبنان؛ الأجور والرواتب في القطاع العام؛ أقساط الفوائد على الدين العام.
وانطلاقاً من مسوغاته، يرى الصندوق أن «التركيز على الرواتب والأجور وحدها قد يكون مضللاً». يقول إن موظفي القطاع العام يتلقون نحو 20 بنداً وتعويضاً، إضافة إلى راتبهم الأساسي، وهذه التعويضات وحدها تمثل نحو ثلث الراتب الأساسي، وبين عامي 2003 و2012 مثّلت 2.7% من الناتج المحلي؛ ما رفع كلفة الرواتب في القطاع العام إلى 10% من الناتج.
يبدو من هذا الكلام أن خبراء الصندوق لا يعون البتّة الفروقات الكبيرة الموجودة في القطاع العام، تماماً كما هي حال عدم العدالة السائدة في المجتمع برمته؛ الأرجح أنهم يعون تلك الفروقات فيتجاهلونها: ببساطة، المخصصات والتعويضات التي يحصل عليها الضابط في الجيش لا يحلم بها الموظف في وزارة التربية مثلاً، رغم أن راتبيهما قد يكونان متطابقين.
على أي حال، يعترف الصندوق بأن فاتورة الأجور – كنسبة من الإيرادات الإجمالية – ليست بحجم السائد في البلدان العربية المشابهة، مثل تونس والمغرب، وإن كان أعلى من الأردن، غير أنّه رغم ذلك يبقى مصراً على ضرورة عدم بت السلسلة من دون إجراءات؛ منها المتعلق بزيادة الإيرادات والآخر بتعزيز الإنتاجية مثل رفع ساعات العمل الأسبوعية إلى 35 ساعة والحد من ساعات العمل الإضافية المتاحة.
الإيرادات لا تكفي
بناءً على «الضغوط الكبيرة التي تتراكم على المالية العامة»، يصوغ خبراء صندوق النقد الدولي رؤيتهم حول سلسلة الرواتب. يقولون إنّ السلسلة (باستثناء تعويضات نهاية الخدمة) تشكل إنفاقاً يوازي 1.3% من الناتج. هناك أيضاً الإنفاق الخاص بمشاريع الكهرباء الذي يكلّف 1% من الناتج؛ كذلك الإنفاق الاجتماعي المرتبط بالأزمة السورية الذي سيمثل 0.3% من الناتج حتى 2016.
في مقابل هذه النفقات المرتقبة، يذكّر الصندوق بالإجراءات التي اجترحتها السلطات أساساً لتأمين التمويل اللازم لسلسلة الرتب والرواتب: زيادة الضريبة على ربح الفوائد من 5% إلى 7%؛ رفع ضريبة الأرباح إلى 17%؛ فرض ضريبة على العمليات في القطاع العقاري؛ وزيادة الرسوم على التبغ وعلى بعض الرسوم والطوابع.
«نقدّر أنّ جميع هذه الإجراءات ستؤمّن 1% من الناتج المحلي الإجمالي المتوقع تحقيقه عام 2015»، يجزم خبراء الصندوق.
ويُشيرون في الوقت نفسه إلى أن زيادة الضريبة على القيمة المضافة إلى 11% ــ وهو إجراء يؤيدون تطبيقه وإن بعد حين ــ ورفعها إلى 15% على بعض السلع الفاخرة، لا يزالان في دائرة النقاش والبحث.
إذا تحقق سيناريو النفقات الإضافية من دون إيرادات ملائمة، يُحذّر الصندوق من أن الاحتياجات التمويلية ومعدل الدين العام سيستمران بالارتفاع وسيبلغان على التوالي 40% و155% نسبة إلى الناتج.