بقي لبنان في المرتبة 65 من بين 187 دولة مدرجة من قبل الامم المتحدة على مؤشر التنمية البشرية لعام 2014، فجاءت قيمة المؤشر 0.765، بلا تغيير يُذكر قياساً بالسنوات الثلاث الماضية؛ علماً أن قيمة المؤشر معدلاً بعامل عدم المساواة بين الجنسين تتدنى إلى 0.606، بفارق حوالى 21% عن قيمته الأصلية. «مؤشر التنمية البشرية هو قياس موجز لتقييم التقدم الطويل الأمد في ثلاثة أبعاد اساسية في التنمية البشرية: حياة طويلة، الصحة، الوصول الى المعرفة، ومستوى معيشي لائق».
بحسب تقرير التنمية البشرية لعام 2014 الذي أطلقه برنامج الامم المتحدة الانمائي اخيرا، تحت عنوان «المضي في التقدّم: بناء المنعة لدرء المخاطر»، يرصد التقرير مخاطر عديدة تعوق هذا التقدّم، من «أزمات مالية وتقلّبات في أسعار المواد الغذائية وكوارث طبيعية ونزاعات مسلّحة»، والعبارة الأخيرة مفردة «مهذبة» للإشارة إلى الاحتلال والعدوان العسكري والحصار والعقوبات. يدحض التقرير الفكرة السائدة بأن البلدان الثرية فقط تملك القدرة على تأمين الخدمات الاجتماعية الأساسية للجميع، ويدعو الحكومات إلى التزام مجددًا هدف تحقيق التشغيل الكامل، والتركيز على تحقيق «تحوّل هيكلي، بحيث تستوعب قطاعات التشغيل النظامي الحديثة تدريجياً معظم القوى العاملة»، محذراً من الإمعان في سياسات «التقشف» التي تؤدي إلى عكس أهدافها المعلنة.
بحسب التقرير، يبلغ العمر المتوقع عند الولادة في لبنان 80 سنة، ويبلغ متوسط سنوات الدراسة حوالى 8 سنوات، ويبلغ نصيب الفرد من إجمالي الدخل الوطني 16,263 دولاراً بمعادل القوة الشرائية بالدولار عام 2011. واعتبرت مديرة برنامج الامم المتحدة الانمائي هيلين كلارك أن لبنان يقع «ضمن الفئة المرتفعة في التنمية البشرية»، مشيرة إلى ارتفاع قيمة مؤشر التنمية فيه من 0.741 الى 0.765 بين عامَي 2005 و2013، أي بنسبة 3.2%، أو متوسط زيادة سنوية قيمتها 0.40%. أوضحت كلارك أن قيمة مؤشر عدم المساواة بين الجنسين في لبنان تبلغ 0.413، ليحل في المرتبة 80 من أصل 149 دولة على هذا المؤشر، شارحة أن معدل مشاركة المرأة في سوق العمل يبلغ 22.8%، مقارنة بـ70.5% للرجال، وأن المرأة تشغل 3.1% من المقاعد البرلمانية، في حين وصلت 38.8% من النساء البالغات الى مرحلة التعليم الثانوي، مقارنة بـ38.9% عند الرجال، وأنه في مقابل كل 100 الف ولادة، تسجل وفاة 25 امرأة لأسباب مرتبطة بالحمل، وأن معدل الولادات لدى المراهقات يبلغ 12 ولادة لكل 1000 ولادة حية.
تحدثت كلارك عن المخاطر التي تتعرض لها المنطقة العربية، بدءاً بـ«النزاع» وبطالة الشباب خصوصاً وعدم المساواة، بصفتها المعوقات الأبرز للتنمية البشرية، مشيرة إلى أن «الصراع في سوريا اضافة الى الصراعات الاخرى التي تشهدها المنطقة، أصاب العديد من الأسر بأضرار جسيمة وخلق أعداداً كبيرة من النازحين واللاجئين الذين باتوا يعيشون في ظروف اقتصادية واجتماعية قاسية»، لافتة إلى أن الاطفال والنساء يشكلون النسبة الأعلى من النازحين، وأنهم الأكثر معاناة من الحرمان من الخدمات العامة الاساسية كالرعاية الصحية والتعليم، مضيفة أن «الاعداد الكبيرة من الشباب في المنطقة تتطلب اهتماماً خاصاً على مستوى السياسة العامة ليحظوا بفرص العمل اللائق، ولتستفيد المنطقة من العائد الديموغرافي». يبلغ نصيب الفرد من الدخل الوطني في العالم العربي 15,817 دولاراً، ليتجاوز المتوسط العالمي بنسبة 15%؛ وتحل المنطقة العربية دون المتوسطات العالمية في العمر المتوقع عند الولادة وسنوات الدراسة، تقول كلارك. مشيرة إلى تأخر الدول العربية نسبة الى المتوسطات العالمية بمقياس دليل التنمية البشرية معدلاً بعامل عدم المساواة، وذلك في مجالات التعليم والصحة والدخل، ليصل متوسط عدم المساواة الى اكثر من 17%، عازية ذلك إلى عوامل عديدة منها ضعف تمثيل المرأة في البرلمانات والفوارق بين الجنسين في المشاركة في القوى العاملة، ما يضع المنطقة العربية في موقع متأخر بحسب دليل الفوارق بين الجنسين.
يدعو التقرير إلى «منهج مختلف» للسياسات الاقتصادية الكلية، فيؤكد أن بلداناً سريعة النمو مثل جمهورية كوريا، وبلداناً نامية مثل كوستاريكا، قادرة على «تأمين الخدمات الاجتماعية الأساسية للجميع»، على غرار مجموعة البلدان «التي اعتادت أن تكون في الطليعة في تأمين هذه الخدمات، كالدنمارك والسويد والنرويج». عندما بدأت البلدان النامية وسريعة النمو المذكورة باتخاذ تدابير للتأمين الاجتماعي، «كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فيها أقل مما هو عليه اليوم في باكستان والهند»، بحسب التقرير الذي يطمح إلى «إعادة (سياسة) التشغيل الكامل إلى مركز الصدارة في الاهتمامات العالمية»، بعد أن «انكفأت لمصلحة أهداف أخرى منافسة»، أي أهداف «التوازن المالي» والاستقرار النقدي. الحماية الاجتماعية ممكنة في مراحل مبكرة من التنمية، وهي في متناول جميع البلدان في مختلف مراحل التنمية، يؤكد التقرير. موضحاً أن «كلفة تأمين مستحقات الضمان الاجتماعي لفقراء العالم لا تتجاوز 2% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي»، وأن تقديرات كلفة تأمين «حد أدنى من الحماية الاجتماعية، يشمل معاشات التقاعد للمسنين وذوي الإعاقة ومستحقات رعاية الأطفال وتعميم خدمات الرعاية الصحية الأساسية وتقديم المساعدة الاجتماعية وتأمين 100 يوم عمل، وذلك لمجموعة من 12 بلداً من بلدان الدخل المنخفض من أفريقيا وآسيا، تتراوح بين حوالى 10% من الناتج المحلي الإجمالي في بوركينا فاسو، وأقل من 4% من الناتج المحلي الإجمالي للهند»! وفي حين يسلّم التقرير بالتحديات التي تواجه البلدان النامية في تأمين التشغيل الكامل، يدعو إلى التركيز على تحقيق «تحوّل هيكلي، بحيث تستوعب قطاعات التشغيل النظامي الحديثة بالتدريج معظم القوى العاملة».
«التشغيل الكامل هدف سعت إليه وحققته معظم بلدان أوروبا وأميركا الشمالية منذ منتصف القرن العشرين. وحققت اقتصادات شرق آسيا نتائج مماثلة خلال فترة النمو في السبعينيات والثمانينيات، وقد أدى ارتفاع مجموع المدخرات والاستثمارات إلى أكثر من 30% من الناتج المحلي الإجمالي إلى تحقيق نمو شامل وتحويل هيكلية الاقتصادات، وإلى التشغيل الكامل»، في حين «تبقى معظم الوظائف غير ثابتة وغير مستقرة» في كثير من البلدان النامية الأخرى، حيث «لا يقوى الفقراء المحرومون من تقديمات كافية من الضمان الاجتماعي على تحمل أعباء البطالة، فيضطرون إلى القبول بأي عمل وأجر يتوافر لهم، ويكون ذلك غالباً في القطاع غير النظامي».
يحذر التقرير من أن «التركيز المفرط على الإنفاق العام والديون يصرف الاهتمام عن مسألة أهم وأعمق، هي كيفية تحقيق النمو الشامل والمضطرد للجميع، وعلى المدى الطويل». «التقشف يقود إلى دوامة مقفلة، حيث يؤدي خفض الإنفاق العام الداعم للنمو، مثل الاستثمارات التأسيسية والإنفاق الاجتماعي، إلى إضعاف القاعدة الضريبية وزيادة الحاجة إلى المساعدة الاجتماعية، فتتفاقم مشكلة العجز المالي والدين، وتسفر عن مزيد من إجراءات التقشف. وهذا المسار التنازلي يقوض التنمية البشرية، ويطيح بالمكاسب التي تحققت بالكثير من العناء، ويفاقم مشكلة عدم المساواة التي تشكل بحد ذاتها عائقاً أمام النمو، وتزيد من خطر وقوع الأزمات الاقتصادية»، يؤكد التقرير، مبيناً أن سياسات «التقشف» تؤدي إلى عكس أهدافها المعلنة: «تظهر الوقائع أن سياسات الاقتصاد الكلي الحالية، لا سيما في البلدان المتقدمة، تؤدي إلى تقلبات في الإنتاج وأسعار الصرف، وتزيد من عدم المساواة».
«إجماع واشنطن» زاد التعرض للمخاطر
التعرض للمخاطر يعني أساساً التعرض لتدهور في مستوى المعيشة، وقد أُخذ على سياسات «إجماع واشنطن» (الخزانة الأميركية وصندوق النقد والبنك الدوليَّين) أنها أدت إلى زيادة التعرض للمخاطر، إذ سببت المزيد من الصدمات التي تؤثر على الأفراد والاقتصادات، وقلصت نطاق آليات التصدي لها»، بحسب جوزيف ستيغلتز، كبير الاقتصاديين في البنك الدولي سابقاً. يقول ستيغلتز إن تحرير أسواق رأس المال ورفع الضوابط عنها، مع تقلب حركة الأموال دخولاً وخروجاً من البلدان، عرّض البلدان النامية للمزيد من الأزمات الوافدة من الخارج، وأدى إلى «المزيد من الصدمات المحلية، مثل فقاعات الائتمانات والأصول التي سرعان ما تلاشت. كذلك أدى إضعاف نظم الحماية الاجتماعية، متزامناً مع ضعف عوامل التثبيت التلقائية وبعض السياسات المالية، إلى عوامل تلقائية مخلة بالاستقرار، بحيث باتت آثار أي صدمة آيلة إلى المزيد من التوسع والتفاقم. وأضعفت السياسات قدرة شرائح كبيرة من السكان على التصدي للصدمات التي هزت الاقتصادات. وكثيراً ما اقترنت سياسات إجماع واشنطن بإضعاف نظم الحماية الاجتماعية، فكانت الحصيلة مزيداً من التعرض لآثار الصدمات». يتابع ستيغلتز قائلاً إن «الإصلاحات» التي فرضها «إجماع واشنطن» «أدت إلى وضع الأفراد والنظام الاقتصادي ككل في مهب المخاطر؛ ودعوات التحول من المستحقات المحددة إلى الاشتراكات المحددة عرّضت الأفراد وكذلك النظم السياسية للمزيد من المخاطر».