بروفسور غريتا صعب
في الوقت الراهن يشكل استخدام الدولار وبهذه الطريقة استياءً متزايداً عبر العالم، من فرنسا الى موسكو قبكين، ما يعني انه لا بدّ وفي نهاية الأمر من البحث عن نظام بديل لا يكون الدولار فيه عملة الاحتياط العالمية الوحيدة.
وما حدث أخيراً مع Paribas BNP هو واحد من مجموعة عمليات احادية الجانب وتُعتبر إذا جاز التعبير اقرب الى عملية ابتزاز صاخبة منها الى العدالة، وللعلم فإنّ تغريم Paribas BNP مبلغ ٩ مليارات دولار لم يأتِ نتيجةً لخرق قوانين فرنسية او أوروبية، او معاهدات أوروبية- أميركية، او ايّ التزامات مع منظمة التجارة العالمية او الأمم المتحدة، ولا حتى معاهدة فرنسية- أميركية محدّدة.
إنما وبالحرف الواحد انتهاك مجموعة من العقوبات الأحادية الأميركية لم يؤكدها او يوافق عليها الاتحاد الأوروبي، او فرنسا، ولا كان الاميركيون من المشترين او البائعين. كلّ هذا جاء نتيجة الدور المحوري الذي يلعبه الدولار اليوم في الاقتصاد المعولم. لذلك قد يكون السؤال البسيط والذي يتبادر الى الأذهان ما فعله هذا المصرف لكي يدفع غرامةً قدرها بالتحديد ٨،٩ بليون دولار اي أكثر من أرباحه السنوية.
لقد خرق الـ BNP مجموعة من القوانين فرضها مسؤولون أميركيون ومدعون عامون وقضاة محلفون من الذين يتهمون الشركة- اي شركة- بأنها مذنبة ويهدّدونها بإمكانية عدم الوصول الى الدولار ومن ثم يفرضون عليها عقوبات.
وحسب مجلة الـEconomist انّ هذه الإجراءات القانونية ضدّ Paribas BNP، ومع عدم وجود قواعد متفق عليها وضوابط، في حين تبدو إمكانية الطعن فيها اقرب الى عملية ابتزاز منها الى العدالة كما سبق وذكرنا، وهذا يعني انه يمكن للأميركيين والجهات الرقابية المحلية مواصلة برامجهم عن دوافع ذاتية ولا يمكن سؤالهم عن الامر كون الدولار مسيطراً ويُستخدم كسلاحٍ أميركي قاتل في مقاضاة ما يرونه مناسباً لمصالحهم وأحكامهم وتقديرهم للأمور، وكيف أنّ هذه الأشياء والعمليات تدور في فلكهم وتنفذ مآربهم.
وللعلم فإنّ عملية Paribas BNP جاءت نتيجة صفقات أجراها المصرف بمليارات الدولارات مع السودان وإيران وكوبا، الدول التي فرضت عليها عقوبات أميركية حسب وزارة العدل الأميركية. وأتُهم أيضاً
باستخدام شبكة من البنوك في الشرق الأوسط وأوروبا وإفريقيا كقناع لإجراء هذه العمليات، كذلك قام الموظفون بإزالة السجلات كي لا تُكشف هوية البلدان التي جرت معها هذه العمليات، واعتراف رئيسParibas BNP بهذا الخطأ يعني انه اعترف بانتهاك قانون التجارة مع العدوّ (Trading with the enemy act) كذلك انتهاك قانون (International Emergency Economic Power Act) محاربة الكيانات الضالعة في اعمال الإرهاب.
وهذا المصرف واحد من مجموعة مصارف عارضت الى حدّ ما قوانين أميركية ودفعت غرامات نتيجة لذلك والـ HSBC واحد منها عندما دفع غرامة ١،٩ مليار دولار الى الولايات المتحدة الأميركية بعد اتهامه بالتعامل مع عصابات المخدرات المكسيكية في عمليات تبييض أموال، وكذلك Credit Suisse الذي دفع ٢،٦ مليار دولار للسلطات الأميركية بعد اتهامه بمساعدة الأثرياء الأميركيين للتهرّب من دفع ضرائبهم.
لكن وحسب ما ذكرنا فالغرامات التي تعرّض لها الـ BNP قد تكون الأكبر التي استُخدمت ضدّ مؤسسات مالية، وقد تكون برهاناً يثبت حسب دائرة العدل الأميركية انّ لا مؤسسة مالية «كبيرة جداً ولا تحاسب» «too big to jail».
لذلك قد تكون في بعض الأحيان غير عادلة ومتحيزة وجائرة في دول عدة وقد يكون استخدام سلاح الدولار فتاكاً، والى الآن ليس نظاماً بديلاً. والسؤال الذي يُطرح يتراى من هذا المنظار هو – كيف يمكن لأميركا محاكمة العالم اقتصادياً بهذا الشكل (هذا عدا عن محاكمتها بالسلاح الحقيقي).
والجواب بسيط إذ إنه وعلى سبيل المثال إذا ما أرادت شركتان أجنبيتان التواصل بين بعضهما فمن المرجح أن تكون هذه العملية بالدولار، وإذا ما كان كذلك سوف تمرّ العملية في مرحلة معينة مع مؤسسة مصرفية أميركية التي من خلالها تصل الى الاحتياطي الفيديرالي، ومن دون هكذا سلسلة تواصل لا يمكن لأيّ مصرف أن يتفاعل مع الاقتصاد العالمي.
هذا ما يحصل في القطاع المصرفي والمالي حول العالم وهذه هي الجزاءات والتي تُعتبر إذا جاز التعبير حرباً بوسائل اخرى تشنّها أميركا حول العالم تشتمل ولا تقتصر على القطاع المالي والمصرفي، ونجاحاتها قد تكون متفاوتة ولا سيما اذا ما نظرنا في النتائج التي تتأتّى منها، علماً انّ معظمها جاءت احادية الجانب وطالت المؤسسات العالمية بأجمعها ولأسباب متعدّدة مستهدِفة من خلالها الأفراد والتنظيمات وشبكات المخدرات والوسطاء في عمليات تجارة الموارد الطبيعية، خصوصاً «الماس الملطخ بالدماء» والمموّل للصراعات «blood diamonds» مثلما هي الحال في جمهورية الكنغو الديمقراطية.
وما ذكرناه هو بعض من جملة عقوبات تتخطّى ٢٤ برنامجاً مختلفاً وتطال جميع النشاطات وحتى الإيديولوجيات (كما في كوبا) والذي للعلم وبعد خمسة عقود متتالية من هذه العقوبات لم تستطع أميركا إسقاطَ نظام كاسترو.
وهذه العقوبات على الـ BNP اثارت سخط الرأي العام في فرنسا ولا سيما الجبهة الوطنية اليمينية التي اتهمت الولايات المتحدة بـ»الابتزاز» مشيرة الى انّ «هكذا عملية هي محاولةٌ لإضعاف المصرف امام منافسية الأميركيين». هذا وقال Hollande إنّ «عقوبةً كهذه قد تضرّ بالنظام المالي الأوروبي وقد تُشجّع الشركات على وقف استخدام الدولار في المعاملات الدولية».
لكن وعلى ما يبدو أميركا ماضية في عملية معاقبة المصارف والمؤسسات المالية التي لا تلتزم قراراتِ الكونغرس واللجان الأميركية، وعلى ما يبدو أيضاً هناك عمليتان على الأقل لا تزالان قيد التحقيق وتشتملان مصارف فرنسية وهي Credit Agricole SA وSociété Générale وهما المصرفان رقم ٢و٣ من حيث القيمة السوقية، أضف اليهما مصرفين المانيّين يواجهان التحقيق من قبل وزارة العدل الأميركية حول انتهاكات محتمَلة وغسل أموال وهما Commerzbank وDeutsch Bank.
واذا كانت اوروبا مكتوفة الأيدي امام قوة أميركا وقدرتها على الضغط على المصارف الأجنبية وتحميلها مسؤولية كسر القوانين بينما تترك المصارف الأميركية مثل JP Morgan chase النفادَ من هكذا عقوبات مقابل الأعتراف بسوء الفعل فقط، ما يجعل القوانين الأميركية جائرة بحق النظام المصرفي العالمي وغير محقة بشكل عام حتى لو كان الـ BNP يستحق العقاب وتعامله مع السودان معيب، إلّا انه لم يخالف لا قوانين بلاده ولا الاتحاد الأوروبي، ولكنه خالف القوانين الاميركية وتعاطى مع الدولار كعملة لتمرير عملياته، ما جعله عرضةً لقوانين اميركية صارمة اتُخذت بحقه ولن تتوانى عن ملاحقة مصارف أخرى عدة.
هذه لمحة عن عقوبات تفرضها اميركا على النظام المصرفي والمالي العالمي كون الدولار هو العملة الملاذ وكون العولمة والشفافية تجعل من الصعب التهرّب من الملاحقة. واذا كان برنامج عقوبات اميركا سارياً لا محال، واذا كانت اوروبا غير قادرة إلّا على الالتزام بما تراه وزارة العدل الاميركية محقاً، يبقى أجدى القول إنها قادرة على استيفاء اموال من خلال هذه العقوبات ولكنها غير قادرة على فرض عقوباتها وبالشكل الذي تريد على العالم اجمع.
واذا ما نجحت في اوروبا وسويسرا وانكلترا فانها قد لا تنجح في فرض هيمنتها الاقتصادية على العالم اجمع وآخرها العقوبات على روسيا وإن كانت تهدّد بتعطيل الاقتصاد الروسي إلّا انها تبقى محدّدة وحسب قول الرئيس اوباما نفسه «لا حرب باردة جديدة» انما مسألة محدّدة تتعلق باعتراف روسيا بأنّ أوكرانيا يمكنها أن ترسم طريقها بنفسها.
ولغايته يبقى الدولار عملةَ احتياطٍ وتداولٍ عالمي وتبقى التعاملات الدولية رهناً ببقائه وعدم وجود ضوابط تحدّد صلاحيات الولايات المتحدة الأميركية في هذا النظام المالي العالمي.