IMLebanon

«خلوة الضمان»: المظلة فوق ناس وناس

Akhbar

محمد وهبة
حملت خلوة الضمان الاجتماعي التي عقدت أمس عشرات العناوين المتراكمة والعالقة. بعضها مطروح منذ بضع سنوات، مثل التطوير الإداري والوظيفي، وبعضها الآخر يعود إلى تاريخ نشأة الصندوق، مثل توسيع شرائح المستفيدين من تقديماته. إلا أن هذه الخلوة، كالتي سبقتها قبل نحو 5 سنوات، ينطبق عليها المثل: «جعجعة بلا طحين».

ليس في الأمر حكم مسبق على نتائج الخلوة التي تنتهي أعمالها اليوم، بل هو الانطباع الذي أعرب عنه المشاركون في الخلوة، وهو يستند إلى واقع أن «التطوير» و«التوسيع» يتطلبان معالجة المشاكل البنيوية، وخصوصاً المتعلقة بتمويل الصندوق وإدارة أمواله وكفّ يد السياسيين عن إدارته وملاكاته، والإجابة عن الآتي: ما هي قدرة الضمان على اجتذاب كفاءات غير مفروضة عليه سياسياً؟ وما هي حصّة كل طرف من أطراف الإنتاج من تمويل عملية التوسيع؟
لم تجتذب خلوة الضمان حضوراً واسعاً، بل كانت أقرب إلى اجتماع بين «زملاء الصف» برعاية وحضور وزير الوصاية على الضمان، وزير العمل سجعان قزي. فاللقاء هو استعادة لمشاهد متكررة، سواء من الخلوة السابقة التي عقدت في عام 2009 والتي سبقتها أيضاً، أو من اجتماعات مجلس إدارة الضمان التي يحضرها وزير الوصاية. وباستثناء أنها اجتماعات طويلة تمتد على مدى يومين متتاليين، ليس في مضمون النقاش بين المجتمعين أي فكرة جديدة أو اقتراح يضفي حيوية على النقاشات. فالمطروح على طاولة الخلوة، ليست إلا مقترحات لمشاريع قديمة ولقضايا التطوير الغائبة.
في جلسة الافتتاح، كانت هناك نقطة مشتركة بين المتحدثين، متصلة بالأداء الإداري والشغور في ملاك الصندوق، وكان المتحدثون يجرون ربطاً تلميحياً بين ضرورة تطوير الصندوق وحاجة سدّ الشغور من خلال التوظيف. وفي الجلسة الأولى، قدّم المدير العام للصندوق محمد كركي خلاصة عن أوضاع الموارد البشرية في الصندوق تظهر أن هناك شغوراً فادحاً بنسبة 45% في الملاك، بينهم 12 مديراً، و34 رئيس مصلحة و50 رئيس دائرة و105 محاسبين ومراقبين ماليين، و369 مصفّي معاملات، و87 عامل مبطقية أو حافظ مستندات و36 طبيباً مراقباً و25 مدخل معلومات… أي باختصار، هناك 869 مركزاً شاغراً من أصل 1180 مركزاً متاحاً.

تكرّر الحديث عن الأداء الإداري والحاجة إلى التوظيف في جلسات الخلوة. وانتقد رئيس اللجنة الفنية سمير عون أداء أجهزة الصندوق الثلاثة لأنها «تعمل بالحدّ الأدنى من طاقتها لأسباب أبرزها ناجم عن السياسات الحكومية في ما يتعلق بالتعيينات والتوظيفات وبصحة ونقص التمثيل في مجلس الإدارة». طالب رئيس جمعية الصناعيين فادي الجميّل بصفته يمثّل كل هيئات أصحاب العمل في هذه الخلوة بتفعيل «أداء الإدارة من خلال تعيين مديرين أصيلين وملء الشواغر في كل المديريات ومراكز الصندوق وتفعيل جهازي المراقبة والتفتيش». ثم ختم الجلسة الافتتاحية وزير الوصاية سجعان قزي، مكرّراً مشروعه السابق بعنوان «لامركزية التوظيف». وأوضح أن الأمر يتعلق بحاجة كل مركز إلى وظائف يجب تعبئتها، أي أن يكون المرشحون لوظائف معيّنة في مكاتب محدّدة.
بدت الجلسة الافتتاحية كأنها مدخل إلى موضوع التوظيف في الصندوق، وخصوصاً أن هناك نقاشاً محتدماً في هذا الأمر على خلفية إعلان مجلس الخدمة المدنية فتح مباريات محصورة بموظفي الصندوق إلى الفئة الثانية. اللافت في هذا الإعلان أنه جاء بطلب من إدارة الصندوق التي اشترطت تضمين المستندات إفادة موقعة من المدير العام للضمان لكل مستخدم في الصندوق يريد الترشّح لهذه الوظيفة، إلا أن الإدارة لم تعط أي مستخدم إفادة، رغم مرور أكثر من 10 أيام على إعلان المباريات.
لكن هذه المشكلة ليست الوحيدة، فمن بين اقتراحات كركي، ورد بند يتعلق بإجراء مباريات لملء وظائف الفئة الأولى في الضمان، أي المديرين، والأطباء المراقبين، وهذا يعني أن المديرين لن يعيّنوا بالوكالة بعد إجراء هذه المباريات، إلا أن ما هو سائد بين المستخدمين أن هناك «سياسيين نافذين يرغبون بالإبقاء على تعيينات المديرين بالوكالة التي تحتاج إلى تجديدها مرّة كل سنة، وبالتالي يبقى المديرون تحت رحمة السياسيين».
في الواقع، إن تجربة التعيينات في الفئة السادسة كشفت عن فرز مذهبي للموظفين، فالمباريات التي أجراها الضمان لهذه الفئة قبل سنتين، نجح فيها أكثر من 300 مرشح، لكن الصندوق لم يوظّف أكثر من 200 منهم، بسبب حسابات مذهبية وسياسية… الـ100 الباقون باتوا بحكم المنبوذين من وظائف الضمان بسبب الفرز المذكور.
على أي حال، إن النقاش في موضوع الأداء الإداري أخذ أكثر من جانب، من بينها الحديث عن تطوير نوعية الموارد البشرية المطلوبة وأعمال المكننة الجارية في الضمان وآفاقها. فقد انتقد عضو المجلس عادل عليق، اقتراحات كركي، مشيراً إلى أنّ «من المعيب والعار أن كبار المسؤولين في الضمان لا يعلمون شيئاً عن الكيبورد»، مشيراً إلى ضرورة الاستعانة باختصاصات جديدة في الصندوق تتعلق بما يُعرف بـ«الإدارة الصحية»، مطالباً بأن تتضمن شروط التوظيف شهادات باختصاصات محدّدة. أما عضو المجلس رفيق سلامة، فقد لفت إلى أنه لا ينبغي الحديث عن المكننة لأنها «تحصيل حاصل. كل الإصلاحات التي جرى الحديث عنها هي من البديهيات المتعلقة بوجود المؤسسة ومن الأساسيات التي يجب أن تكون حاضرة من دون بحث».
هكذا بدا الحديث عمّا بقي من النقاط الإدارية والهيكلية أمراً خارج السياق، ولا سيما بالنسبة إلى ما يتعلق بربط الضمان بالأطراف التي يعمل معها، سواء أكانوا أطباء أم مختبرات أم مستشفيات أم مراكز أشعة، وبالنسبة إلى مسالك العمل الإدارية وتسهيل الإجراءات والمعاملات على المؤسّسات والمضمونين.
انتقل النقاش إلى نقطة أكثر محورية بالنسبة إلى عمل الضمان وأهدافه، أي توسيع شرائح المستفيدين من الضمان. وفيما جرى تضمين هذا الأمر في كلمات المتحدثين في جلسة الافتتاح من المدير العام ورئيس لجنة فنية وممثلي العمال وأصحاب العمل ووزير الوصاية، غاب النقاش في موضوع «التغطية الصحية الشاملة» التي كان يفترض أن تكون المشروع الأكبر والجامع لكل الأطراف. واللافت أن غياب هذا النقاش، لم يحصل صدفة، بل كان مقصوداً، لأن بعض المشاركين في الخلوة اعتبروا مشاريع التغطية الصحية الشاملة شبه مستحيلة. وهذا ما عبّر عنه قزي عندما قال للمشاركين في الخلوة: «لا أحد يفكّر أن الدولة ستموّل أي مشروع في هذا الوقت».
هكذا، حلّت مشاريع مجتزأة ومقتضبة بدلاً من مشروع التغطية الصحية الشاملة. لا بل إن هذه المشاريع «المتقوقعة» التي قد لا تمثّل مطلباً جامعاً، بدت غير قابلة للتحقيق، استناداً إلى ما قاله الوزير عن التمويل. فمن أسباب فشل إقرار هذه المشاريع، مثل مشروع ضمان الشيخوخة الذي لم يخلُ لسان من دون ذكره، هو عدم الاتفاق على حصص تمويلها، فأرباب العمل يريدون التملّص من حقوق العمّال، والدولة ترفض أن تحلّ بدلاً من أصحاب العمل وزيادة حصّتها في التمويل بذريعة عدم وجود مصادر كافية. أما العمّال، فهم يرون أن تحميلهم وزراً كبيراً من أعباء هذا التمويل هو إطاحة لمكاسبهم الاجتماعية.
هكذا، ذهب النقاش في اتجاه أضيق، أي في اتجاه مشاريع عالقة لضمّ شرائح جديدة مثل ضمان عمال ورش البناء، وهو مشروع لا يحتاج إلا إلى إعادة إقراره في مجلس الإدارة ورفعه إلى مجلس الوزراء، وضمان عمال البلديات الذي يتطلب قراراً في مجلس الإدارة ومن السلطة السياسية أيضاً. وهناك مشاريع توسيع فئوية، مثل ضمان خبراء المحاسبة، وضمان أصحاب العمل المسجلين في الصندوق، وضمان المعالجين الفيزيائيين، وضمان مزارعي التبغ والتنباك، وضمان صيادي الأسماك، وضمان الفنانين.
كل هذه الفئات لها الحق في الحصول على الضمان، لكن أليست التغطية الصحية الشاملة هي مشروع مشترك لكل اللبنانيين؟ الإجابة جاءت في إطار الاتفاق على إقرار مشروع التغطية الصحية للمتقاعدين، وقد شكّلت لجنة مصغّرة تضم ممثلي الأطراف الثلاثة (عمال، أصحاب عمل، دولة) للاتفاق على حصص التمويل لهذا المشروع من أجل إعداد المراسيم اللازمة والدراسات المطلوبة لرفعه إلى مجلس الوزراء وإقراره. لكن في هذا المجال كانت هناك ملاحظة لقزي قائلاً: «ألا تلتقون معي بأن الناس الذين لا يعملون اليوم سيجدون أنفسهم مظلومين عندما يقرّ مشروع التغطية الصحية للمتقاعدين. ألا يجب أن نقوم بمشروع تكميلي يرفع الغبن عن هؤلاء».
في الواقع، إن أزمة الضمان باتت أكثر وضوحاً في هذه الخلوة، وأصبحت معها حقيقة أن كل هذه المشاكل قابلة للعلاج لو توافرت الإرادة للمتحكمين بقرار الدولة. فالمشاريع الجدّية غائبة، وكل الأحاديث تدور حول إدارة الأزمات وتثبيت الظروف الموقتة والانصياع لأصحاب النفوذ والسلطة من أرباب عمل ودولة. فعلى سبيل المثال، إن أصحاب النفوذ تمكنوا من الضغط على الدولة لزيادة تعرفات الأعمال الاستشفائية التي يتلقاها المضمونون، وقد زادت الكلفة بنحو 30% على الضمان وعلى الجهات الضامنة، على أساس أن هذه الزيادة ستلغي ما كان المضمون يدفعه من جيبه الخاص، أو ما كان تفرضه عليه المستشفيات والأطباء… غير أن هذه الحالة استمرّت بالتنامي إلى الدرجة التي يعبّر عنها سمير عون، مشيراً إلى أن «طموحات تطوير تقديمات العناية الصحية للمضمونين لن تكون ذات مردود صحي أو اجتماعي ما لم يوضَع حد حاسم لغيلان المستشفيات التي تفرض الخوات على المضمونين عند دخول المستشفى وعند الخروج منه. أحذر من تكريس أمر واقع يحاوله ويمارسه العديد من المستشفيات، هو تقاضي أجر العمل الطبي مرتين، مرة من المضمون ومرة من الضمان».
إذا كان حديث اللجنة الفنية في الضمان، أي اللجنة المعنية بأعمال الرقابة على أعمال الضمان، فما هو الواقع؟ يجيب أحد العارفين بالإشارة إلى أن غياب الرقابة عن الضمان دفع المستشفيات نحو رفض قبول المضمونين وإجبارهم على دفع كلفة الاستشفاء في الدرجة الأولى بدلاً من درجة الضمان، وليس لديهم خيار سوى البحث عن مستشفى ثانٍ يستقبلهم. أصبح الأمر بمثابة استعطاء المستشفيات في ظل رقابة لم تفسخ العقد مع أي مستشفى بصورة كاملة.