بينيديكت ماندر، وإلين مور، وجون بول راثبون
كان مساء شديد الحراراة في مانهاتن الأسبوع الماضي، عندما واجه أكسيل كيكيلوف، وزير الاقتصاد الأرجنتيني، الكاميرات، وإصراره على أن بلاده لم تُصَب بالعجز عن سداد سنداتها الدولية للمرة الثامنة في تاريخها، لكن بدلا من ذلك كانت قد عانت “حادثة غريبة”.
قبل دقائق فقط من ذلك الوقت، كانت وكالة التقييم الائتماني، ستاندرد آند بورز قد أعلنت أن الأرجنتين في حالة “عجز انتقائي”.
ولتأكيد تلك النقطة، أصدر وسيط عينته المحكمة في ذلك الحين بياناً في منتصف طريق إعلان كيكيلوف، قائلاً فيه إن المفاوضات في نيويورك بين الوزير ومجموعة من الدائنين الرافضين من أجل إيقاف العجز، قد فشلت.
الخلاف في معنى الكلمات حول كلمة “عجز” هو مجرد واحد من الالتباسات التي تم إلقاؤها من قِبل ما يُسمى “محاكمة الديون السيادية الأكثر أهمية في هذا القرن”. التباس آخر هو سبب صمود أسعار السندات الأرجنتينية بقيمة تصل إلى 80 سنتاً للدولار. حتى لو قبلنا بوجود استمرار “تراجع” السوق، الذي يقف في تقابُل حاد مع أعقاب عجزها الكارثي البالغ 95 مليار دولار قبل 13 عاماً، عندما كان يتم التداول بالسندات المتعثرة، بقيمة منخفضة بحدود 15 سنتاً للدولار.
يقول روبرتو لافانجا، وزير الاقتصاد الأرجنتيني السابق: “نحن ندخل منطقة مجهولة. على أنه ليس هناك سوابق، لهذا السبب يوجد الكثير من الحيرة”.
مع ذلك، الذي على المحك الآن، هو أكثر من مجرد ما إذا كان هناك ما يُبرر مثل هذه الأسعار المرتفعة للسندات، من قِبل المستثمر المؤمن بالسوق الصاعدة، بحيث أن بوينس أيرس ستعقد صفقة مع الدائنين الممانعين.
بإمكان صفقة ناجحة أن تعمل على تهدئة المخاوف، من أن معركة الأرجنتين القانونية المستمرة منذ عشرة أعوام مع مجموعة من صناديق التحوّط الأمريكية، قد تُلحق الضرر بمكانة نيويورك باعتبارها مركزاً مالياً دولياً.
إن نجاح الصناديق برفع دعاوى قضائية للسداد التام على السندات الصادرة بموجب القانون الأمريكي، قد تجعل من السهل على الدائنين الرافضين تعطيل ترتيبات الديون السيادية في المستقبل، وتشجيع البلدان على إصدار ديون ضمن مناطق اختصاص قضائية أخرى.
أوليفييه بلانشار، كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، حذّر الشهر الماضي من “أن هناك تكلفة بالغة على العالم” جراء ذلك الوضع.
كذلك بإمكان صفقة معينة أن تعمل على تخفيف الشكوك بشأن التوقعات طويلة الأجل بالنسبة لثالث أكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية، وما إذا كانت رئيسة الأرجنتين، كريستينا فيرنانديز الغامضة، ترغب حتى في حل الوضع الذي كان قد عزز شعبيتها في البلاد، حتى الآن، في الوقت الذي انعزلت فيه البلاد تماماً عن الأسواق الدولية.
يقول ماريو بليجر، محافظ البنك المركزي الأرجنتيني السابق الذي يبقى متفائلاً من أنه يمكن التوصل إلى اتفاق: “لقد وصلنا إلى هذه الحالة مصادفة، وليس عن قصد. لم يكن هناك أحد يرغب في حدوث عجز”.
بعد عجزها عام 2001، تملك الأرجنتين نوعين من السندات الخارجية. الأول هو نتيجة لعمليتين من إعادة الهيكلة عامي 2005 و2010 حيث دفعت 30 سنتاً على الدولار، وكانت مقبولة من 93 في المائة من الدائنين. حيث يُشار إليها باسم “سندات الصرف”، وقد استمرت الأرجنتين في تقديمها. لهذا السبب كانت البلاد، حتى الأسبوع الماضي، تتمتع بتصنيف ائتماني دون عجز، وتحتفظ إلى حد ما بشكل من أشكال سداد ديونها في الوقت المحدد.
المجموعة الثانية هي سندات لم تعمل الأرجنتين على خدمتها (أي سداد ما عليها من التزامات)، وهي مملوكة للدائنين الرافضين مثل صناديق التحوّط في نيويورك، بقيادة “إليوت مانيجمنت” و”أوريليوس كابيتال”.
قبل عامين فاز هؤلاء المستثمرون بحكم قانوني بارز بأن شرطا “على أساس المساواة”، في عقود سنداتهم يتطلب أن يتم الدفع لهم بالكامل ــ تماماً كما كان يتم أيضاً الدفع لحاملي سندات الصرف بالكامل، كما هو منصوص عليه في عقود سنداتهم التي أعيدت هيكلتها.
نتيجة لذلك، حكم القاضي توماس جريسا، القاضي الأمريكي الذي أشرف على هذه القضية منذ عشرة أعوام، بأنه إذا كانت الأرجنتين قد دفعت لحاملي سندات الصرف، عندها بموجب شرط “على أساس المساواة”، عليها الدفع للدائنين الرافضين أيضاً. وهذا هو ما يفسر الحيرة بشأن “العجز”.
الأرجنتين الشهر الماضي أودعت 539 مليون دولار لدى بنك نيويورك ميلون، الذي يدير أصولها، وذلك للدفع لحاملي سندات الصرف، لكن لأن بوينس أيرس لم تدفع للدائنين الرافضين كذلك، تم منع بنك نيويورك ميلون من دفع الأموال لأصحابها. وبما أن عقود دائني سندات الصرف تتطلب أن يحصلوا على الأموال، ترك ذلك البلاد في حالة عجز.
في الوقت الراهن، تظل أسواق السندات هادئة. لقد قاوم دائنو سندات الصرف “تسريع” سنداتهم للمطالبة بسداد فوري بالكامل، الذي قد يصل إلى مطالبات بقيمة 30 مليار دولار، وهذا أكثر من احتياطيات النقد الأجنبي في الأرجنتين. بالتالي سوف يتطلب الدفع كذلك إعادة هيكلة أخرى، بما يمكن تماماً أن يؤدي حتى إلى حالة أسوأ تتألف من “الجيل الثاني من الرافضين”.
على الصعيد العالمي، معظم المستثمرين يرون الأرجنتين أيضاً حالة فريدة من نوعها مع القليل من التداعيات. إصدار السندات الدولية، الذي تغذّيه أسعار الفائدة الغربية المنخفضة للغاية، يستمر في التضخم: الحكومات والشركات في الأسواق الناشئة أصدرت 796 مليار دولار على شكل سندات هذا العام، مقارنة بـ 734 مليار دولار في عام 2013، وذلك وفقاً لبيانات وكالة ديلوجيك.
جهات الإصدار غير المألوفة مثل باكستان وزامبيا ومنغوليا والإكوادور، نجحت في إصدار ديون سندات، في الوقت الذي تستمر فيه معركة الدائنين في الأرجنتين.
التوقعات بأن الأسواق الناشئة ستعيد كتابة عقود السندات لتجنّب تعطيل الرافضين لم تتحقق أيضاً. لذلك تبقى شروط “على أساس المساواة” قائمة، وعلى عكس دول منطقة اليورو، فإن مُصدّري الأسواق الناشئة لم يتحوّلوا إلى شروط الإجراءات القضائية الجماعية، التي تسمح لأغلبية المستثمرين بتجاوز مواقف الأقلية من الرافضين.
يقول بيتر يونج، وهو شريك في شركة نورتون روز فولبرايت، التي قدمت المشورة لباكستان حول إصدار بقيمة ملياري دولار: “إن المصدّرين يميلون إلى تقييم السندات الجديدة باعتبار السندات القديمة كمعيار، كما يترددون في إصدار سندات بشروط وظروف تختلف. لم يكن هناك أي حركة جماعية لإدراج شروط (التقاضي الجماعي) هذه من بلدان الأسواق الناشئة، حيث الديون موجودة بالفعل”.
مع ذلك، فإن المشاركين في السوق لم يجلسوا مكتوفي الأيدي. وكالة الرابطة الدولية للأسواق الرأسمالية ستضع مبادئ توجيهية بإمكانها إجبار الرافضين على المشاركة في إعادة هيكلة الديون، في حال وافق أغلبية المستثمرين.
ويحذر آخرون من أن القضية، التي تعزز ظاهرياً حقوق الدائنين، يمكن أن تشجع المستثمرين على التحوّل إلى السندات القانونية المحلية، لتجنّب وقوعهم ضحية بالطريقة نفسها. بعد كل شيء، حتى القاضي جريسا كان في بعض الأوقات غير متأكد بخصوص أي من سندات الصرف في الأرجنتين، مثل تلك الصادرة بموجب قانون المملكة المتحدة أو اليابان، قد تأثرت بحكمه ــ وهو ارتباك بالكاد يوحي بالثقة بالقانون الأمريكي.
قال جان ديهن، رئيس قسم الأبحاث في شركة آشمور لإدارة صندوق الأسواق الناشئة المتخصصة: “إن حاملي السندات قد يستنتجون أن الإطار القانوني الذي يضع مصالح الأقلية فوق مصالح الأغلبية من حاملي السندات ــ الحادثة السابقة المحددة في هذه الحالة بالذات ــ مخاطرة كبيرة. المستقبل في الأسواق الناشئة ينتمي بشدة إلى القانون المحلي”.
مهما كانت الآثار الدولية غير مؤكدة، ما سيحدث بعد ذلك في الأرجنتين هو غير مؤكد للغاية. محادثات الوساطة التي أمرت بها المحكمة بين الأرجنتين والرافضين أصبحت سامة، ما يُقلل من احتمالية عقد صفقة.
الأرجنتين هددت بمقاضاة بنك نيويورك ميلون والتشكيك باستقلالية الوسيط. كما ترغب أيضاً بإجراء تحقيق في ما إذا كان صندوق إليوت قد دفع الأرجنتين إلى العجز عن السداد، بحيث يمكن أن يستفيد بعد ذلك من تأمين العجز.
صندوق إليوت ينكر أنه يملك عقود المقايضة على العجز عن سداد الائتمان على سندات الصرف الأرجنتينية. على الرغم من الأجواء المريرة، لا يزال المستثمرون يؤمنون بالسوق الصاعدة فيما يتعلق بالأرجنتين. السبب الأول لهذا هو الاعتقاد أن بوينس أيرس رفضت إجراء تسوية مع الرافضين، لأنها لا تريد إثارة ما يُسمى شرط روفو في سندات الصرف، الذي يتطلب منها دفع المبلغ نفسه لجميع الدائنين ــ وهو اقتراح مُكلف للغاية من شأنه أساساً عكس عمليات إعادة الهيكلة لعامي 2005 و2010.
عندما تنتهي مدة صلاحية شرط روفو في نهاية هذا العام، ستختفي تلك المشكلة.
لذلك سيستمر الاعتقاد بأن الأرجنتين يمكنها بعد ذلك تسوية القضية، واستعادة إمكانية الوصول إلى السوق، وإصدار ديون جديدة لسداد الالتزامات وتعزيز الاستثمارات في احتياطياتها الهائلة من الغاز الصخري.
عندها ستنخفض مخاطر الائتمان، وهو ما يُبرر أسعار السندات الحالية.
هكذا تقول النظرية، إلا أن البعض يتساءل عما إذا كان شرط روفو هو مجرد وسيلة تمويه بالنسبة للرئيسة فيرنانديز، البالغة من العمر 61 عاماً، حيث إن مواجهتها لصناديق التحوّط، “الهوامير” أي الكواسر كما تدعوهم، تعتبر أمراً أساسياً لمنصتها السياسية المحلية. ويُشير ستيوارت كولفرهاوس، كبير الاقتصاديين في “إكزوتيكس”، وهو مصرف مختص في الاستثمار في الأسواق الناشئة، إلى أن شرط روفو قد يكون مجرد “أمر مريح يصرف الانتباه عن الموضوع الأساسي”.
ينعكس مثل هذا التفكير من خلال زيادة الشكوك في الأرجنتين بشأن صفقة يقودها القطاع الخاص، التي بموجبها قد تشتري مجموعة من مصارف وول ستريت، من ضمنها مصرفا جيه بي مورجان وسيتي جروب، بشراء ديون الرافضين ومن ثم بيعها إلى الحكومة، بمجرد انتهاء مدة صلاحية شرط روفو.
ويعتقد نيكولاس دوجوفن، وهو اقتصادي في بوينس أيرس، أن مثل هذه الصفقة” “غير مرجحة أبداً”، خاصة لأن شرط روفو يعني أن الحكومة لا تستطيع منح المصارف أي ضمانة بأنها ستشتري الديون في العام المقبل. علاوة على ذلك، ربما لا تعتقد فيرنانديز أن إجراء صفقة هو ضرورة قصوى. مع أن الاقتصاد في حالة ركود، ويعاني معدل تضخم مرتفع واحتياطات أجنبية متضائلة، إلا أنه قد تم فصله عن أسواق الائتمان الدولية لمدة تزيد على عشرة أعوام، ولم يكُن أداؤه سيئاً.
يقول ألدو فيرير، وهو اقتصادي أرجنتيني: “إن العالم لن ينهار فجأة إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق. الأرجنتين لم تكُن عاجزة في الماضي، ولن تكون كذلك الآن. مشكلتنا هي نفسها سواء كان مع الجشعين أو دونهم”. ربما تكون فيرنانديز أيضاً تعتمد على المساعدة من اقتصادات ناشئة أخرى لتمُد لها يد العون. فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي وهو زعيم شعبوي آخر لاقتصاد قائم على تصدير السلع الأساسية، ويتأوه تحت ثقل العقوبات القانونية الغربية، زار بوينس أيرس الشهر الماضي. كذلك فعل الرئيس الصيني، تشي جينبينج، عندما أعلن عن مقايضة عملة تبلغ عشرة مليارات دولار، يمكن أن تعزز الاحتياطيات الأجنبية المستنزفة.
في حال احتاجت الأرجنتين إلى مزيد من الدعم لميزان الدفعات، يُشير البعض إلى أنها قد تكون الزبون الأول لبنك التنمية الجديد لدول بريكس، الذي تم إنشاؤه وسط ضجة كبيرة الشهر الماضي، في استجابة من العالم الناشئ للمؤسسات المالية التي يسيطر عليها الغرب.
يقول دانيال كيرنر، وهو محلل في مجموعة أوراسيا لاستشارات المخاطر: “إن ذلك من شأنه أن يكون أمراً منطقياً تماماً من حيث الجغرافيا السياسية، من وجهة نظر دول البريكس”.
سواء قررت فيرنانديز إجراء التسوية أم لا، فإن السبب الثاني لاستمرار انتعاش سندات الأرجنتين، هو أن فترة رئاستها ستنتهي في كانون الأول (ديسمبر) من عام 2015. عندها، يعتقد البعض، أنه ستحلّ محلها إدارة تكون أكثر تودداً إلى السوق، وتجعل حل مشكلة الرافضين من أولوياتها.
ما إذا كان الرئيس الأرجنتيني التالي، الذي من المحتمل أن يكون من الحزب البيروني، فعلاً أكثر وديّة تجاه السوق، هذا سؤال مفتوح. مهما حدث، ليست هناك فرصة تذكر، في أن بإمكان فيرنانديز منع قصة الرافضين، من إلقاء ظلالها على إرثها السياسي. وتُشير إلى الفترة منذ عام 2003، عندما أصبح سلفها وزوجها نيستور كيرشنر رئيساً، بأنها “العقد المُنتصر”. تلك الفترة قائمة على أسطورة أن معاملة الزوجين القاسية للدائنين الأجانب، كانت إلى حد كبير مسؤولة عن إحياء الأرجنتين من أزمة عام 2001.
مع اقتراب حقبة كيرشنر على الانتهاء، عادت البلاد إلى نقطة البداية مع عجز جديد واحتمال حدوث أزمة اقتصادية جديدة. ألبيرتو فيرنانديز، رئيس مجلس الوزراء السابق في إدارة كل من فيرنانديز وزوجها، الذي يُشير إلى مشكلات الاقتصاد “الخطيرة جداً”، يقول: إن “مشكلات الأرجنتين كانت موجودة قبل العجز، حتى لو كان ذلك سيجعل الأمور أسوأ. سيكون من الصعب حل هذه المشكلات في الوقت الذي تغادر فيه كريستينا. ففترة رئاستها لن تنتهي بشكل جيد”.
الشيء نفسه قد ينطبق على أسواق الديون الدولية. في العقود الأخيرة، تقول آنا جيلبيرن، أستاذة القانون في جامعة جورجتاون، إن الخطوة نحو حل متفق عليه من أجل البلدان المُثقلة بالديون بشكل خطير، قد كانت بطيئة لكنها واضحة. إلا أن السابقة التي أنشأتها الأرجنتين تهدد بوضعها في الاتجاه المعاكس”.