IMLebanon

الدوافع الإقتصادية للـ «ربيع» العربي

Liwa2

الذي يحل في المنطقة العربية منذ 2010 من ثورات وحركات مضادة مدهش، اذ يؤشر الى وجود حيوية كبيرة مخبأة في المجتمعات ليس فقط عند الرجال وانما خاصة عند النساء والأطفال. بالرغم من أن النتائج لم تكن حتى اليوم بمستوى الطموحات، بل أعادتنا الى الوراء في بعض الدول انما ما جرى ويجري يعطينا الأمل في امكانية التغيير النوعي المستقبلي. منذ الاستقلال العربي في منتصف القرن الماضي، كان هنالك تصور سياسي عقائدي واضح ليس فقط في مصر وانما أيضا في الجزائر وسوريا واليمن وغيرهم. كانت الحركات الاستقلالية واضحة في أهدافها وميولها وتحالفاتها وكيفية عملها، أما اليوم فهنالك تخبط على جميع المستويات ربما لغياب القيادات النوعية أو لأن الظروف الدولية تغيرت كثيرا. بنيت الحركات الاستقلالية في مصر وغيرها على ضرورة التنمية والاهتمام بالفقراء والأرياف وجمع الشمل العربي ليس فقط في السياسة وانما أيضا في الاقتصاد. حتى لو لم تكن النتائج السابقة جيدة، الا أن المحاولات كانت عديدة وفي الاتجاه الصحيح.
أما اليوم فالتخبط لا يقتصر فقط على الرؤيا، وانما أيضا على الأهداف والوسائل وطرق التخاطب والحوار ليس فقط بين الدول وانما أيضا داخل كل دولة. اختلط الدين بالسياسة والتطرف والعرق والمذهب، وأصبحنا لا ندري من يخاطب من بل ما هي هوية المتخاطبين ومصادر دعمهم الحقيقية. لا شك أن نوعية القيادات المتدنية لا تقتصر على المنطقة العربية فقط بل أصبح داء عالمي لأن السياسة ربما تبعد أصحاب الكفاءة والمبادئ وتقرب الفاسدين وغير الكفوئين والعاطلين عن العمل وغيرهم اليها. هل يمكن مقارنة قيادات ديغول وتشرشل وأيزنهاور وخروتشيف وأديناور ونهرو وماو وغيرهم بما يحصل اليوم بالرغم من أن العلوم والأداب والتكنولوجيا تقدمت الى حدود لم يعرفها العالم من قبل.
في منتصف القرن الماضي، كانت القيادات السياسية العربية مدعومة خاصة من الطبقات الوسطى التي شكلت العمود الفقري للاقتصادات. تشرذمت هذه الطبقات الحيوية بل أصبحت فقيرة بسبب سوء الممارسات والسياسات على مستوى الحكومات والمؤسسات الرسمية وغيرها. تشرذمت أو قضي عليها بسبب سياسات التحرير السريعة بل المتسرعة وغير المدروسة في العديد من الدول العربية مما جعل كبار الشركات والثروات أو حيتان المال المرتبطة بالسلطات السياسية تسيطر على الاقتصاد وتلغي الوسط. في نسبة الانفاق العام من الناتج في المنطقة العربية، تدنت من 22% في سنة 1975 الى 14% في سنة 2005 أي أن دور القطاع العام تقلص عربيا على عكس ما حصل في شرق أسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا وحتى في الدول الغربية. عندما ينحدر الانفاق العام بهذا الحجم وهذه السرعة، من يخسر؟ طبعا الطبقات الوسطى وما دون.
قبلت الشعوب بمصيرها لعقود طويلة ولم تحاول التغيير. ما الذي استجد حتى نزلت الى الشارع في تونس ومصر واليمن وسوريا والأردن وغيرهم؟ هل استفاقت الشعوب على حقوقها السياسية وحرياتها، أم أن العوامل الاقتصادية المتدهورة هي التي حركت؟ في رأينا الأسباب وراء ما يعرف بالربيع العربي متعددة ونوجزها كما يلي بالرغم من أن النتائج حتى اليوم لم تعط «ربيعا» لكن الوقت سيشير مستقبلا الى الفشل أو النجاح.
أولا: بدأت التحركات في تونس في 17\12\2010 عندما أحرق محمد بوعزيزي نفسه احتجاجا على الأوضاع العامة في البلاد. كانت الشعوب حاضرة للتحرك لأنها تعبت من سوء ممارسات الحاضر كما الماضي، أي أن لا شيء ستخسره من محاولات التغيير. كانت نسبة النمو في تونس 3,1% في تلك السنة أي نسبة مقبولة وان لم تكن جيدة. اذا الأوضاع السياسية ترافقت مع نتائج اقتصادية غير باهرة ساهمت مجتمعة في تحريك الشارع. في مصر استقال الرئيس حسني مبارك في شباط 2011 وتبعتها تطورات كبيرة في معظم الأقطار العربية. كانت نسبة النمو في مصر في سنة 2010 حوالي 5,1% وهي جيدة بكل المعايير، وان تكن غير كافية لتغيير الأوضاع المعيشية للفقراء والأرياف. الاقتصاد لم يكن العامل الوحيد الدافع للتغيير.
ثانيا: في سنة 2005، قامت مؤسسة «زغبي الدولية» باستفتاء الشعوب العربية في اطار نماذج احصائية علمية تمثلها. سألتها، ما هي أولوياتها بل مما تعاني أكثر؟ كانت الأوجاع الاقتصادية في الطليعة. تركزت الأجوبة على مستوى البطالة وتوافر الصحة والتعليم كما على ضرورة محاربة الفساد. لم تأت الحريات السياسية والديموقراطية الا في أدنى السلم. طبعا لو كانت الحريات السياسية متوافرة، لما شعرت الشعوب بالوجع الاقتصادي كما كان الحال. تراكم المشاكل والاهمال الرسمي دفعا الناس الى الشارع.
ثالثا: مع توافر الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي وتقدم كل ركائز الاتصالات في سرعتها وأسعارها وامتداد الشبكات خاصة الخليوية، أصبحت الشعوب العربية واعية أكثر فأكثر على أوضاعها مقارنة بما يجري في العالم. لماذا يحق للغير ما لا يحق لنا، وبالتالي تراكم الشعور بالغبن مع الوقت. أصبحت الشعوب العربية واعية أكثر فأكثر على مستوى معيشتها وازدياد فجوات الدخل والثروة بين الطبقات الشعبية كما على خطورة الفساد المستشري على حساب الناس ومستقبلها. لا شك أن سوء الخدمات العامة والاجتماعية المقدمة للفقراء ساهمت في دفع غضب المواطنين الى العلن والى حدود لم نشهدها من قبل.
رابعا: سوء السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي استفاد منها الأغنياء بل القسم المرتبط بمصالح الحكام ومتحالف معهم. فالدعم الممارس من قبل العديد من الحكومات العربية للسلع النفطية والمواد الغذائية أرهق الموازنات، وكان الأغنياء المستفيدون الأولون منها لأنهم يستهلكون أكثر. في سنة 2011، بلغت تكلفة دعم الطاقة 41% من ايرادات الدولة المصرية و24% من اليمنية و 22% من الأردنية وبقي القليل للحاجات الأخرى. كانت تكلفة الصحة كبيرة جدا على الموطنين لأن ما تقدمه الدولة لم يكن كافيا. هذا كان حال المواطنين في مصر وتونس حيث يضطر المواطن الى الانفاق على صحته من جيبه الصغيرة أصلا فوق ما تقدمه له الحكومات. تحاول الدول العربية اليوم تخفيف الدعم واعطاء معونات مباشرة للأسر والشركات الصغيرة كي تكون هي المستفيدة من السياسات وليس الميسورين.
خامسا: لم تكن الثورات لتحصل لو بقي مؤيدو الحكام السابقين على تأييدهم لهم. اهتراء الحكومات بالاضافة الى القمع وسوء الاداء أفقد الحكم في مصر وتونس وغيرهما التأييد التقليدي لهم من قبل قطاع الأعمال والطبقات الوسطى. تمادى الحكام في الفساد الذي انعكس سلبا على الاقتصاد وأوضاع الفقراء. كانت أجور موظفي القطاع العام ضئيلة ولا تكفي، في وقت لم يكن اداء المسؤولين موازيا للطموحات الشعبية العامة المتزايدة. تعلق المواطنين المتزايد بالدين المحارب للفساد شجعهم أيضا على الانتفاضة ضد الحكام.
لا أحد ينكر تشابه الأوضاع العربية في سنة 2010 مع ما حصل في الاتحاد السوفياتي والدول المجاورة له بدأ من سنة 1989. تراكمت الأوضاع السياسية مع الاقتصادية والاجتماعية لتفجر الأوضاع وتعزز غضب الشارع. الا أن النتائج المحققة في روسيا ودول أوروبا الشرقية هي لا شك أفضل مما هو الحال عندنا. هنالك انتقال سياسي واقتصادي واضح معزز بالاستقرار في الدول الشيوعية السابقة لم نعرفه بعد عربيا. هنالك تراجع كبير في أوضاع بعض الدول العربية ومنها ليبيا التي تحتوي على طاقات كبرى لكنها تعاني من الفوضى والخراب والدمار والصراعات الذي ستؤخرها سنوات. طبعا لا أسف على معظم القيادات العربية السابقة، انما نتوقع ممارسات أفضل من الحكام الجدد أينما وجدوا.