سمير صبح
لم يجد ما تبقى من منظري جماعة الإخوان المسلمين في العالم العربي، بدعم ومساعدة بعض القنوات الفضائية التي تخصص ساعات يومياً للتهجم على التحول الذي حصل في مصر، سوى الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة المصرية الجديدة. هذه الأخيرة، التي يصفها هؤلاء تارة بالتقشفية وتارة أخرى بالتعسفية، أصبحت مادة للانتقادات الحادة البعيدة كل البعد من الموضوعية في علم الاقتصاد، مع التنبؤ لهذه المبادرات بالفشل المحتم وصولاً إلى التبشير بإفلاس البلد.
لكن هؤلاء، الذين لم يعرف المصريون يوماً قدراتهم، ولم يختبروا كفاءاتهم المحلية والدولية، تناسوا انه خلال نحو من سنة على حكم جماعة الإخوان المسلمين، الذين يدافعون عن «سياساتهم الاقتصادية الرشيدة»، وصل الاقتصاد المصري إلى حافة الهاوية كما تدهورت سوقها المالية إلى حدٍ لم تشهده مصر حتى في أحلك الظروف. أما لناحية سمعة الفريق الاقتصادي للحكومة التي كانت موجودة في السلطة في حينه، فقد وصلت هي الأخرى إلى الحضيض، مبعدة عنها المؤسسات المالية الدولية. وفي هذا السياق يجب التذكير بمماطلة صندوق النقد التي استمرت أشهراً لتقديم قرض بـ4 بلايين دولار مكبلاً بشروط تعجيزية، وقت سارع لعرض خط ائتماني من 6.2 بليون دولار للمغرب الذي لم يلجأ لاستخدامه. لكن بعد نجاح ما يسمونه حتى اليوم «الانقلاب العسكري على السلطة الشرعية المنتخبة من قبل الشارع»، قرر الصندوق تجديد عرضه على حكومة الببلاوي للعودة إلى المفاوضات، لكن فريقها الاقتصادي، وعلى رأسه زياد بهاء الدين، أبلغه رفض بلده «مع الشكر» لافتاً إلى أن الدول العربية الشقيقة، وعلى رأسها السعودية والإمارات، سارعت الى تقديم مساعداتها المالية غير المشروطة.
إن هذه الحقبة الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تمر بها مصر لم تنطوِ. ويجب الإقرار بالجرأة المسؤولة، التي اعتمدها الرئيس عبدالفتاح السيسي، بمصارحة الشعب بالحقيقة المرة واضطراره للدعوة إلى تطبيق إجراءات أقل ما يقال فيها إنها غير شعبية لإنقاذ البلد. فالتوجه الاقتصادي الشفاف المدعوم بالأرقام التي أوردها رئيس مصر خلال لقائه مدة ثلاث ساعات رؤساء تحرير الصحف في السادس من هذا الشهر، يجب أخذها في الاعتبار بجدية. فهي مصارحة لم يسبق أن اعتمدها الزعماء والحكام العرب وحتى الغربيون في توجههم الى الشعب، في زمن بات التلاعب بالأرقام والإحصاءات أمراً شبه عادي لتحسين الصورة.
الأهمية الكامنة في مداخلة الرئيس المصري الاقتصادية والاجتماعية البحتة، هي في تصميمه الواضح على وضع الإصبع على الجرح من جهة، ومن جهة أخرى، تفسير الأسباب التي دفعت بالحكومة الحالية لاتخاذ القرارات التي وصفها بعض فئات الشعب المصري بالجائرة لناحية رفع أسعار الوقود وزيادة الضرائب على الدخل والرسوم على بعض السلع المستوردة.
لكن عندما يشرح السيسي أن خدمة الدين تبلغ يومياً 84 مليون دولار، فهذا يعني أن تأجيل قرارات مثل رفع أسعار الوقود يزيد عجز الموازنة ويرفع الدين خلال 4 سنوات إلى 4 تريليونات جنيه مصري أي ما يعادل 560 بليون دولار.
وعندما يتبارى المنظرون الاقتصاديون والسياسيون المعارضون للإجراءات، بغض النظر عن حسن النوايا أو سوئها، في الحديث عن «ذبح الطبقة الوسطى»، يجهل هؤلاء أو يتجاهلون أن هذه النسبة من هذه الشريحة المجتمعية انحسرت في شكل مخيف منذ منتصف عهد الرئيس الراحل أنور السادات، والتي قضي عليها لاحقاً وتدريجاً خلال فترة حكم الرئيس السابق حسني مبارك. وباتت هذه الطبقة التي اعتاد كبار الكتاب والأدباء مثل نجيب محفوظ على تسميتها «ببيضة القبان»، في عداد الطبقة الفقيرة العادية. وهناك أكثر من 30 مليون شخص يعيشون في العشوائيات المتناثرة حول المدن الكبرى او في أماكن لا تصلح للعيش. فهل يعقل أن يؤثر رفع الدعم عن الوقود وزيادة الرسوم، على مستوى عيش هذه الطبقة المعدومة التي لا تجد سقفاً يأويها ولا أدنى مقومات الحياة الكريمة؟
وعندما انبرى هؤلاء «المحللون الاستراتيجيون»، كما يسمون أنفسهم، للتهجم الظالم على الإجراءات، تركوا الشق الايجابي منها. أولى هذه النقاط توفير 42 بليون دولار هي المستحقات العائدة لوزارة الزراعة لدى رجال الإعمال الذين حولوا الأراضي الزراعية إبان حكم حسني مبارك إلى منتجعات سكنية للأغنياء. وتناسوا ارتفاع عدد المستفيدين من المخصصات الاجتماعية بنحو 100 في المئة إلى نحو 3 ملايين أسرة كمرحلة أولى فيما تستهدف الحكومة 10 ملايين أسرة، وكذلك زيادة معاشات الضمان الاجتماعي بنسبة 10 في المئة، إلى غير ذلك من النقاط الإيجابية.
والمهم أخيراً في حوار السيسي انه أراد التأكيد على مصر والمصريين بالاعتماد على أنفسهم واستخدام كل طاقاتهم كي «تحيا مصر» كما قال. هذا معناه وقوف الاقتصاد المصري على قدميه، وتحسين مستوى المعيشة، وخفض معدلات البطالة، وتشجيع الاستثمارات، وامتصاص الدين العام. فالمطلوب اليوم التخفيف من الاعتماد على الأشقاء وألا تكون مصر عبئاً عليهم. هذا ما يحصل اليوم بعد أن أصبحت السعودية المستقبل الأول للصادرات المصرية، ما يعني بالتالي تجنب اللجوء للأسواق المالية الدولية. وهذا لا يتم إلا إذا أصبح الاقتصاد منتجاً.
من يعرف تاريخ مصر لا بد له أن يستذكر الدور الكبير الذي قام به الاقتصادي الفذ، الدكتور طلعت حرب، في ترسيخ دعائم اقتصاد مصر. ولا بد من أن يستنتج أن الرئيس السيسي وفريقه، بدآ يستنبطان الكثير من الأفكار التي وردت في بحوثه ودراساته ومؤلفاته.