مكرم صادر
سَرَتْ في الأسابيع الأخيرة ضجَّة بشأن استمرارية عمل المؤسسة العامة للإسكان تلقّفتها بعض وسائل الإعلام بكلامٍ ينمّ عن جهل آلية عمل هذه المؤسسة بذاتها وتعاملها مع المصارف. ما يقتضي منا استعراض مراحل تطور هذه التجربة، والتوقف أخيراً عند مستقبلها.
بالتطور الزمني، نذكّر بأن بروتوكول التعاون، وهو الأول من نوعه بين الجمعية والمؤسسة العامة للإسكان، قد وُقِّعَ في مطلع أيار 1999 أي منذ ما يزيد عن 15 عاماً. ونجح هذا الاتفاق في إطلاق مشروع سكني مشترك يرتكز، من جهة أولى، على تولّي المصارف إقراض طالبي القروض السكنية حتى 15 سنةً، يسدّدون خلالها أصل القرض للمصرف المعني فيما تسدّد المؤسسة بالتوازي الفوائد عن المقترضين للمصارف شهرياً حتى ولو تعثّر المقترض. ويرتكز الاتفاق، من جهة ثانية، على أن يسدّد المقترضون خلال فترة زمنية مماثلة لمدة القرض المبالغ التي سبق للمؤسسة أن دفعتها عنهم مضافاً إليها الفوائد المتوجّبة. أما المرتكز الثالث للاتفاق، فيقوم على اقتطاع المصارف بموافقة ذوي العلاقة نسبة 10 في المئة من القرض توضع في حساب المؤسسة وتستعملها حصراً لتنفيذ التزاماتها تجاه المصارف حتى العام 2013، وقد شكَّل هذا البند مصدر التمويل الأساسي للمؤسّسة!
وأقرَّ مصرف لبنان دعماً للقروض الممنوحة استناداً لهذا البروتوكول إذ جعلها تستفيد بعد موافقته من إنزالها من الاحتياطي الإلزامي بنسبة 60 في المئة، على أن تلتزم المصارف بفوائد مدينة تُحتسب على أساس سند الخزينة لسنتين (5.84 في المئة حاليا) مضافاً إليه هامش قدره 3.5% كحدّ أقصى، أي ما مجموعه 5.836 في المئة. وبعد استنفاد الاحتياطي الإلزامي عند معظم المصارف، وفَّر مصرف لبنان عام 2013 للمصارف قروضاً بحجمٍ محدّد وبفائدة 1 في المئة لتمكينها من الاستمرار في آلية الإقراض السكني هذه، ما جعل الفوائد للمقترضين بمقدار 5.068 في المئة تُحتسب على أساس 20 في المئة من سندات الخزينة لسنتين مضافا إليها 3.9 في المئة .
شروط ميسرة
إن هذا التعاون بين المصارف والمؤسسة مكَّن شريحةً واسعة من ذوي الدخل المحدود ـ من المقدّر أن يكون عددهم فاق السبعين ألفاً منذ العام 1999 مع عددٍ قائمٍ حتى الآن يفوق 50 ألف مقترض محتمل ـ من أن تتملّك شققاً سكنية بشروط ميسَّرة كما أوضحنا أعلاه وبأقساط لثلاثين عاماً تتوزَّع مناصفةً بين المصارف والمؤسّسة. وأهمية هذه الآلية أن المؤسّسة لم تلجأ خلال السنوات الـ15 الماضية إلى خزينة الدولة للدعم أو للسلف! ذلك أن نسبة الـ10 في المئة من القروض الممنوحة من المصارف كانت توضع في حسابات المؤسّسة فتستعملها لتغطية كلفة الفوائد للمرحلة الأولى، على أن يسدّدها لها في المرحلة الثانية المستفيدون من القروض السكنية؛ أي أن المصارف تمدّ المؤسسة بالتدفق النقدي المطلوب للآلية.
فقط عام 2013 وحتى حزيران 2014 انكشف حساب المؤسّسة لدى 24 مصرفاً بما قيمته 35 مليار ل.ل. سيُضاف إليها مبلغ شهري صافٍ قدره 9 مليارات، أي ما قد يصل مع نهاية العام الجاري الى حوالي 90 ملياراً، ما يوازي 60 مليون دولار. طبعاً قد يتجاوز هذه المبلغ بدءاً من العام المقبل مبلغ 124 مليار ل.ل. سنوياً (82 مليون دولار) إذا استمرّ وضع المؤسّسة العامة على حاله! مما سيترتّب عليه توقف العمل بآلية الإقراض السكني من خلال المؤسّسة العامة للإسكان، إلاّ إذا قرّرت الدولة، وتحديداً وزارة المالية، تغطية التزامات المؤسّسة تجاه مصادر التمويل كما نصَّ عليه صراحةً القانون رقم 719/1998. فالمؤسسة العامة للإسكان استناداً إلى القانون المذكور مكفولة من الدولة. ويهدف القانون إلى دعم ذوي الدخل المحدود ليتملّكوا مساكنهم، وهو هدف اجتماعي ضروري ومشروع. ونعجب كيف أن بعض الإعلاميّين «يُغمِّسون خارج الصحن»! عندما يُعيدون الأزمة إلى جشع المصارف وتطلّعهم إلى مزيد من الأرباح، ويفوت هؤلاء أن معدّلات الفوائد المستوفاة على هذا النوع من القروض بالكاد يعادل متوسط الفوائد الدائنة (5.86 في المئة)، أي التي تدفعها المصارف على ودائع الليرة اللبنانية لديها!
ربح المصارف في مجمل هذه الآلية محدود جداً، ويعود إلى عامل الاحتياطي الإلزامي. وبغضّ النظر عن الكلام الجاهل والمغرض من هنا وهناك، يبقى أن حجم القروض القائم حالياً استناداً إلى بروتوكول التعاون بين المؤسّسة والمصارف يبلغ 3800 مليار ليرة. مع ذلك، فإنه لا يمثل سوى 28 في المئة من إجمالي محفظة القروض السكنية لدى المصارف و46 في المئة من عدد المقترضين. إذ تبلغ قيمة هذه المحفظة 13688 مليار ليرة. في نهاية أيار 2014، يستفيد منها ما يقارب 106 آلاف مقترض سكني أي 106 آلاف أسرة متكوّنة أو قيد التكوّن! يعود الفضل في ذلك، من جهة، إلى جهد المقترضين، ومن جهة أخرى، إلى تيسير القروض من قبل إدارات المصارف. وباتت القروض السكنية تشكّل بمجملها 17 في المئة من إجمالي قروض المصارف التجارية في لبنان.
ونعجب لسوء النية والإصرار على تظهير اسم مصرف وهو «لبنان والمهجر» كأنه المشكلة، علماً أن هذا المصرف يأتي في طليعة المصارف الـ24 الموقّعة مع المؤسّسة، وحصته من هذا السوق الإسكاني الخاص تقارب 21 في المئة، أي أنه وفَّر قروضاً ميسَّرة لما يفوق عشرة آلاف أسرة لبنانية!
التفاقم بوتيرة كبيرة
المشكلة ليست مع هذا المصرف أو ذاك، بل في كون التزامات المؤسّسة العامة للإسكان تجاه المصارف ـــ وإذا لم تغطّها وزارة المال ـ مرشّحة للتفاقم بوتيرة كبيرة جداً خلال السنتين المقبلتين بحيث يصعب الاستمرار فيها. وحسناً بادرت الجمعية بطلب من المصارف إلى فتح الملف باكراً، من جهة لحثّ المؤسسة على إجراء وقفة وجردة حساب بمنهجيّة مهنية علماً أنها تفتقد إلى السجلات، ومن جهة ثانية، للتنبيه إلى إمكانية توقف العمل بآلية مهمّة ومفيدة لذوي الدخل المحدود؛ وأخيراً لدفع وزارة الوصاية (الشؤون الاجتماعية) ووزارة المالية الى البحث عن معالجة تسمح للمؤسّسة العامة للإسكان بالاستمرار.
المشكلة ما زالت في بدايتها. والمعالجة ما زالت ممكنة بكلفة متدنية جداً، إذ إننا نتكلّم عمّا يقارب 100 مليار ل.ل. سنوياً (ما أبعدنا عن عجز مؤسسة كهرباء لبنان!). لكنَّ الطامّة الكبرى إذا قصَّرت الوزارات عن المعالجة. فكما ينصّ البروتوكول الموقّع، تكون المصارف قد استردَّت في نهاية المرحلة الأولى القروض (من الزبائن) والفوائد (من المؤسسة). بعدها، أي في المرحلة الثانية، يعني في الـ15 سنة اللاحقة، سيكون على المؤسَّسة أن تعيد جدولة الفوائد وفوائد الفوائد لمصلحتها من الزبائن. ولا علاقة للمصارف بالمرحلة الثانية. وبأمانة، لا أدري (وهذا تساؤل شخصي) إذا كانت المؤسسة قادرة على إدارة المرحلة الثانية في غياب النظم الداخلية التقنية والإدارية لديها وفي غياب الموارد البشرية اللازمة. فالأرقام في المرحلة الثانية ستعادل في المتوسط الأرقام في المرحلة الأولى، أي بضعة مليارات من الدولارات ستقع على عاتق الخزينة. المطلوب إذًا هو التعاون لاستباق الأزمة وتداركها.
صميم المسألة الاجتماعية
فلْيَستفِق المسؤولون على كل المستويات على هذا الواقع المتطور بسرعة. وليتَّقِ الله مَن يكتبون في مواضيع يجهلون ليس فقط مخارجها بل ومداخلها أيضا! القضيّة ليست ألاعيب للتسلية بل هي في صميم المسألة الاجتماعية لجهة تأمين سكن لذوي الدخل المحدود، وهي في صميم إدارة الأموال العامة وتوقُّع الالتزامات المستقبلية للخزينة.
حاشية أخيرة: محفظة القروض السكنية لدى المصارف، بما فيها تلك الممنوحة بالتعاون مع المؤسسة العامة للإسكان، تشهد على مدى حرص المقترضين على الالتزام بالسداد، للمصارف وللمؤسسة، بانتظام ودون مشاكل أو متاعب. إن نسبة التعثّر فيها هي 0.8 في المئة مقارنةً مع متوسط إجمالي القروض للقطاع الخاص، البالغ 7 في المئة! ومعظم المقترضين لئلا نقول كلّهم من ذوي الدخل المحدود. شريحة واحدة تعثّرت موقتاً لمرة واحدة نتيجة عدوان إسرائيل عام 2006. ويومها بلورت لها المصارف إعادة جدولة كاملة حتى يكون هؤلاء المقترضون قد أعادوا إعمار أو ترميم منازلهم المصابة من خلال المساعدات. وللتاريخ، لعب المصرف الذي تصرّ بعض الأقلام على مهاجمته دوراً طليعياً في وضع آلية إعادة جدولة ديون أصحاب الشقق في الضاحية والجنوب والبقاع التي استهدفها العدوان الإسرائيلي. البعض يعمل والبعض يلهو. هذه هي سُنَّة الحياة!