مايا نادر
مع بداية شهر تموز 2014، بدأت المصارف العالمية، العربية واللبنانية تطبيق قانون الامتثال الضريبي”فاتكا” وفقاً للموعد المحدد عالمياً وذلك للتصدي للتهرب الضريبي ورفع مستوى الشفافية المصرفية.
ويطلب القانون من المؤسسات المالية والمصارف وحتى الشركات التجارية والاستثمارية العاملة في الوطن العربي الالتزام بتقديم معلومات وافية ومفصلة عن أموال واستثمارات وممتلكات الاميركيين المقيمين في الخارج، من اجل تحصيل الضرائب المستحقة عليهم ومنعهم من التهرب من تسديدها.
بعيداً عن الخلفيات سياسية التي يمكن أن تـقف خلف هذا القرار الاقتصادي، فان السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو مدى الزامية امتثال المصارف اللبنانية لطلب الحكومة الأمريكية تطبيق هذا القانون وتحت طائلة اية مسؤولية ؟ وما هي الكلفة المادية للتطبيق في لبنان، خاصة مع الحديث عن ضرورة تجهيزها بأنظمة وتكنولوجيا جديدة مستحدثة خصيصاً لهذه الغاية، وكيف جهّزت المصارف اللبنانية نفسها في سبيل الامتثال لهذا القانون؟.
بعد لمحة عن تفاصيل هذا القانون وحيثياته ، فصّل النائب الثالث لحاكم مصرف لبنان محمد بعاصيري في حديث لـ”الاعمار والاقتصاد” طريقة الامتثال المعتمدة لهذا القانون وآلية العمل اضافة الى كيفية المواءمة بين تطبيق هذا القانون ومبدأ السرية المصرفية.
من 2010 الى 2013 الى 2014
أصدرت السلطات التشريعية الأميركية في العام 2010، ما يسمّى “قانون الامتثال الضريبي” على حسابات الأميركيين الخارجية ” ” فاتكا” والذي دخل حيز التنفيذ عام 2013 تمهيداً لبدء التحصيل الفعلي للضرائب في مطلع عام 2014.
baasyriوعلى الرغم من أن مفعول القانون يسري ابتداءً من اول عام 2013، فان تطبيقه يمتد الى سنوات عدة، ووفقاً للتعليمات النهائية حدد الجدول الزمني كالآتي:
في 15 تموز 2013، تم البدء بتسجيل اتفاقيات المؤسسات المالية الأجنبية عبر الانترنت، وهي المؤسسات التي ستتعاون بشأن الضريبة مع الجهات الاميركية.
في أول كانون الثاني 2014، بدات عملية خضوع العملاء الجدد للقانون.
في اول تموز 2014، بدأ احتساب الضريبة لغير المشاركين من المؤسسات المالية الاجنبية.
في نهاية كانون الاول 2014، يتم انجاز تغطية الحسابات التي تبلغ مليون دولار واكثر.
في منتصف آذار 2015، تبدأ عملية اصدار التقارير الاولية لهيئة الضرائب الاميركية.
في نهاية كانون الاول 2015، تبدأ اجراءات انجاز معيار معرفة العميل لجميع العملاء الحاليين الذين تزيد ميزانيتهم على الحد الادنى من المبلغ المفروض كما في 31 كانون الاول 2014.
القانون كما هو !
يلزم هذا القانون جميع الأشخاص الحاملين الجنسية الأميركية والعاملين خارج الولايات المتحدة الأميركية بدفع الضريبة المستحقة عليهم، كما يتوجب على المصارف والمؤسسات المالية في العالم الإبلاغ عن حسابات العملاء الأميركيين لديها ليصار إلى تتبع الضرائب المتوجبة لصالح وزارة الخزانة الأميركية .
وعرّف القانون الأشخاص الأميركيين بأنهم الأشخاص الذين لديهم جنسية مزدوجة من الولايات المتحدة وأي بلد آخر، وهم حاملو جواز السفر الأميركي، حتى لو كانوا مقيمين في الخارج، وحاملو البطاقة الخضراء ، بالإضافة إلى الأشخاص غير الأمريكيين، المقيمون في الولايات المتحدة لمدة ستة أشهر على الأقل باستثناء الدبلوماسيين والأساتذة والطلاب والرياضيين.
كما يخوّل هذا القانون السلطات الضريبية الأميركية والمتمثلة في مصلحة الضرائب ملاحقة المكلفين خارج حدود الدولة باستخدام النظام المصرفي العالمي وغيره من الكيانات التجارية للقيام بدور المتابع والمحصِّل للضرائب من حسابات الأميركيين خارج الولايات المتحدة أسوة بحسابات المواطنين والمقيمين داخل الدولة المذكورة.
المصارف اللبنانية ملزمة .. تحت طائلة المسؤولية
في هذا الاطار، واذ يكرر النائب الثالث لحاكم مصرف لبنان الدكتور محمد بعاصيري تعريف القانون بانه يتعلق بموجبات المصارف والمؤسسات المالية بالتعاون مع مصلحة الضرائب الاميركية في ما يتعلق بالحسابات المصرفية المتعلقة باشخاص اميركيين سواء افراد ام شركات. يؤكد بالدرجة الاولى، أن المصارف اللبنانية ملزمة تطبيق هذا القانون بحكم التعاون الدولي في جميع المجالات ومنها قانون ” فاتكا” تحت طائلة اقتطاع 30 في المئة من التحويلات الواردة إلي المصرف المخالف – ان وجد – من الولايات المتحدة الأمريكية. وتالياً يمكن إيقاف التعامل مع المصرف المعني من قبل النظام المصرفي الأمريكي والمصارف الدائرة في فلكه. أما الأخطر من العقوبة المالية، فهو بحسب بعاصيري، قدرة البنك الاميركي المراسل للمصرف صاحب المخالفة على وقف العمل معه وعدم تسهيل عملياته المالية والمصرفية مع المؤسسات الأجنبية. بالإضافة إلى ضغوط ونفوذ السلطات الأمريكية للتأثير على درجات التقييم الائتماني على هذه البنوك .
وقد تحدثت بعض المعلومات عن أن المستثمرين الخليجيين والذين يحملون الجنسية الأمريكية إضافة إلى جنسيتهم الخليجية، قد يواجهون بدورهم مشكلة تضعهم أمام امرين: إما الخضوع لقانون الـ”فاتكا”، وإما التخلي عن جنسيتهم الأميركية.
الا ان بعاصيري عاد وأكد بأن كافة المؤسسات اللبنانية المالية والمصارف اللبنانية قد تسجّلت في اتفاقية ” فاتكا” ما يبعد شبح المخالفة والعقوبات عنها، الا أن الاشارة الى تداعيات عدم الالتزام بالقانون امر ضروري.
معايير … لضمان عدم التهرب الضريبي
بعاصيري أكد في المقابل ان مسؤولية المصارف اللبنانية ليست سهلة باكتشاف العميل الاميركي اذا لم يصرّح المودع عن نفسه، وتحدث عن معايير عدة يمكن أن تساعد المصارف والمؤسسات المالية على تحديد ما إذا كان العميل أمريكياً أم لا، مثل مكان الولادة وعنوان المراسلات ووكالة ممنوحة لشخص بعنوان في الولايات المتحدة، وتعليمات لتحويل مبالغ إلى الولايات المتحدة، وغيرها من المؤشرات التي يمكن أن تبين صلة العميل بالولايات المتحدة.
في هذا الاطار، اشار بعاصيري الى ان مبدأ قانون “فاتكا” قد بدأ الحديث عنه فعلياً منذ حوالي الثلاث سنوات التي اعتبرها كافية نسبياً بالنسبة للمصارف اللبنانية لتجهيز نفسها تقنياً ولوجستياً بهدف الوصول الى الجهوزية التامة للامتثال لتطبيق هذا القانون …
أما أهم وسائل التحضير لبدء التنفيذ، كانت بحسب بعاصيري التوعية في الدرجة الاولى لان الانسان عدوّ ما يجهل ، فكثرت المؤتمرات والندوات سواء عن طريق جمعية المصارف او المؤسسات المالية.
وفي حين يؤكد اتحاد المصارف العربية ان المصارف اللبنانية هي الأكثر جهوزية لتطبيق القانون الأمريكي، وأن لبنان ما زال يتمتع بثقة المجتمع العربي والدولي انطلاقاً من الخصوصية التي تتميز بها العاصمة اللبنانية بيروت… اشار بعاصيري الى ان لبنان كان اول دولة عربية سارعت للاتصال مع مجموعة “فاتكا” لفهم موجبات المصارف اللبنانية من مختلف النواحي.
في الاطار نفسه، أبدى المسؤول عن ملف العقوبات و”مكافحة غسل الأموال” في وزارة الخزانة الأميركية دانيال غليزر في لقائه وفد “اتحاد المصارف العربية” في واشنطن “ارتياحه المطلق لعمل المصارف العربية على نحو عام، واللبنانية على نحو خاص، التي تنفّذ كافة التعاميم التي يصدرها البنك المركزي جديا”، مشيدا بدور أجهزة الرقابة اللبنانية.
يطال تطبيق القانون شقين، الاول توعوي والثاني تطبيقي مع ما يستلزم من تحضيرات تقنية ولوجستية ابرز ما فيها حسب بعاصيري تجهيز آلات العمل بانظمة تشغيل وبرامج مخصصة لهذا النوع من العمل وتشكيل مخزن معلومات خاص. اما في الشق اللوجستي، فاشار بعاصيري الى أن موظفي المصارف في لبنان والدول العربية قد خضعوا لدورات تدريبية تساعدهم على التعامل الأفضل مع متطلبات القانون الأمريكي.
كلفة مادية
هذه التحضيرات ترتّب على المصارف كلفة مادية معينة، وأثار موضوع المعلومات المطلوبة جدلاً في الأوساط المالية والمصرفية الدولية لجهة كيفية جمعها، والكلفة المترتبة على ذلك، فرغم ان المصارف في معظم البلدان لديها معلومات وافية عن عملائها، إذ أنها تطبق مبادئ وسياسات ”اعرف عميلك” الا أن المعلومات التي تسمح بتحديد ما إذا كان العميل ”شخصا” أمريكيا تتطلب إضافة حقول جديدة في قواعد بيانات المصارف، وعلى المصارف بالتالي العمل لتوسيع قواعد بياناتها لتسهيل عملية استخراج معلومات خاصة بهؤلاء العملاء بغية التصريح عنهم لمصلحة الضرائب الأمريكية.
وأعرب عدد كبير من المصارف العربية عن قلقه من تكلفة تطبيق قانون الـ”فاتكا” ونطاقه، في حين أعلنت سويسرا ان تطبيق هذا القانون سيكلفها حوالي 250 مليون يورو.
ومع غياب رقم يحدد الكلفة المترتبة على لبنان في هذا المجال، الا ان بعاصيري وفي حين تحدث عن كلفة مادية لا يمكن التغاضي عنها، الا انه اكد انه لا بد لهذه الكلفة من ان تكون اقل بكثير من كلفة عدم الامتثال.
بين القانون والسرية المصرفية
تواجه المؤسسات الملزمة تطبيق هذا القانون تعقيدات مختلفة ومتنوعة، ليس أقلها ”السرية المصرفية” ، ففرض السؤال الكبير نفسه عن كيفية المواءمة بين مبدأ السرية المصرفية في لبنان تحديداً وبين متطلبات هذا القانون، فأتى جواب بعاصيري جازماً، بان السرية المصرفية يجب ان لا تشكل حاجزاً او عائقاً للتعاون الدولي مطلقاً. واشار الى القانون رقم 318 المعني بمكافحة تبييض الاموال والذي كرّس هذا المبدأ بحيث لا تكون السرية المصرفية عائقاً امام التعاون الدولي .
واذ اكد الحرص على السرية المصرفية الا انه اعتبر ان على هذا المبدأ حماية الاموال النظيفة وللمصارف اللبنانية آلية معينة تسمح لها بالتعاون ضمن قوانينها دون المس بمبدأ السرية المصرفية كما ان تطبيق هذا القانون يطلب الحصول على إذن من العميل برفع السرية على حساباته تجاه السلطات الضريبية الأمريكية تحديداً.
وعن امكانية التهرّب الممكنة لبعض المودعين، لم ينكر بعاصيري صعوبة ضبط المودعين بشكل تام، الا انه اكد على ضرورة ان يكون للمصرف حسن النية في التطبيق .
آلية التطبيق
رداً على سؤال عن الآلية التي ستتبع في العمل بين بيروت وواشنطن، تحدث بعاصيري عن طريقتين، الأولى تقضي بالتعامل من دولة الى دولة عبر المصرف الاساسي، والثانية عبر البنك المركزي الذي يصبح كصندوق بريد بين المصارف اللبنانية ومصلحة الضرائب الاميركية.
واذ تركت مصلحة الضرائب الاميركية الحرية لكل بلد باختيار الطريقة الانسب له، فإن المصارف اللبنانية قد وقعت بصورة افرادية على تفاهمات مع المصلحة، بأنها ستعمل ضمن مندرجات القانون بكل جدية. ما يعني ان كل مصرف هو رقيب نفسه .
في المقابل، تحدث بعاصيري عن دور لمصرف لبنان عن طريق هيئة التحقيق الخاصة التي لا بد ان تتحرك في حال ورود اي بلاغ من السلطات الاميركية عن شكوك معينة لحسابات معينة، مع بقاء الدور الاساسي للمصارف نفسها في ما خص عملية التصريح.
وتظهر أرقام وزارة الخزانة الأميركية، أن 122 مصرفاً تجارياً أو استثمارياً وشركة تأمين ومؤسسة مالية تعمل في لبنان قد تسجلت لدى مصلحة الضرائب الأميركية بحلول الأول من تموز 2014 ، بما يتطابق مع الفترة الزمنية التي حددها نص “فاتكا”.بين الايجابيات والسلبيات
في الخلاصة، وبين ايجابيات القانون وسلبياته، يؤكد بعاصيري ان لا آثار سلبية الا في عدم الامتثال، خاصة وان اقتصاد لبنان مدولر وثلثي ودائعه هي بالدولار الاميركي بالإضافة الى مجمل تسليفاته .. ما يجعله جزءاً لا يتجزأ من النظام المصرفي العالمي. ومن الطبيعي أن يكون لديه الحرص على التقيد بالمعايير الدولية والامتثال للقوانين والانظمة العالمية، حماية للقطاع المصرفي اللبناني.