Site icon IMLebanon

التجارة الرقمية تواجه حواجز جديدة…نحو صياغة قواعد تمنع موجة سياسة الحمائية

FinancialTimes
شون دونان

ماري هوانج لديها تصوّر مثير لصناعة الأزياء: يتم إنتاج تصاميم أحذيتها من خلال مطابع ثلاثية الأبعاد، بدلاً من عمّال العالم النامي وتتولى روبوتات وضعها في صناديق.
بالنسبة لهوانج، تلبية الطلبات الدولية ينبغي أن تنطوي على إرسال ملفات الإنتاج الرقمية إلى صفوف آلية للمطابع ثلاثية الأبعاد في متاجر في طوكيو أو لندن، وبالتالي تجنّب رسوم الاستيراد والمآزق الأخلاقية للصناعة الضعيفة، بشأن الاستعانة بمصانع العِمالة الرخيصة البعيدة للإنتاج.
تقول هوانج، وهي خريجة تصميم أزياء شابة بدأت شركتها “كونتينوم فاشين” ببيع الأحذية المطبوعة بشكل ثلاثي الأبعاد على الإنترنت من مكتبها في بروكلين هذا العام: “إن ذلك ليس ببعيد. هذا يمكن تحقيقه خلال عام أو عامين، فما السبب في أننا لا ننفذه الآن؟ إنه أمر فعّال بشكل لا يُصدق بالنسبة للأعمال”.
تدفقات البيانات العالمية تزيد و”التجارة الرقمية” تصبح جزءاً مهماً من الاقتصاد العالمي. إذا كان كل من حاوية الشحن الموحدّة والإنترنت قد ساهم في ما يُعرف بعصر “العولمة المفرطة”، فليس بعيداً عن الخيال رؤية المطابع ثلاثية الأبعاد وهي تعمل ليس على إعادة صياغة التصنيع فحسب، بل والعولمة أيضاً.
مع ذلك، حتى مع نموها السريع، تواجه التجارة الرقيمة حواجز جديدة. يتدافع المفاوضون لصياغة قواعد تمنع ما يمكن أن يصبح موجة من سياسة الحمائية. يُجادل البعض أنه دون قواعد تجارة ذات صدقية، فإن الحكومات الحريصة على حماية صناعاتها أو خصوصية مواطنيها، يمكن أن تمنع ملفات الإنتاج الرقمي الخاصة بهوانج، وتلك الخاصة بشركات أخرى، من عبور حدودها. إحباط هوانج لا يقتصر على العمليات الصغيرة.
إريك سبيجل، رئيس فرع “سيمنز” في الولايات المتحدة، وضع تصوّراً ليس بعيداً عن تصوّر هوانج، عندما تحدث في حفل إفطار في واشنطن استضافه معهد ماكينزي جلوبال للاستشارات.
قال إن شركة الهندسة الألمانية سيكون في المتاح لديها في القريب العاجل، إمكانية توصيل قطاع الغيار للزبائن عبر البريد الإلكتروني والمطابع ثلاثية الأبعاد، وكذلك تجنّب الحدود الفعلية والتعقيدات اللوجستية المعتادة من التجارة العالمية.
التقدّم في مجال الأعمال يواجه أيضاً النقاشات الجوهرية بشأن الخصوصية.
لقد أثارت تسريبات إدوارد سنودِن لتطفل الولايات المتحدة على الإنترنت نقاشاً واسع النطاق بشأن الخصوصية والإنترنت. الحصول على اهتمام أقل هو طريقة المفاوضات التجارية الدولية لمحاولة التعامل مع القيود، إن وجدت، التي يجب وضعها على تدفق البيانات في جميع أنحاء العالم، وكيفية الاستعداد لمستقبل رقمي يعتبر بالفعل حقيقة واقعة في بعض القطاعات.
المفاوضات في اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي TPP بين 12 بلداً، أثارت جدلاً في أستراليا ونيوزيلندا حول ما إذا يجب السماح للشركات بتخزين البيانات المصرفية والطبية الشخصية في بلدان خارجية، أو حتى إذا كانت مثل هذه المعلومات الحساسة ينبغي أن تعبر الحدود بحرية.
كذلك تردد الجدل في المحادثات التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في جنيف، حيث يحاول الدبلوماسيون من 24 بلداً تحديث القواعد المستمرة منذ عقدين التي تحكم التجارة العالمية في مجال الخدمات.

يُجادل أنوبام تشاندر، خبير القانون الإلكتروني في جامعة كاليفورنيا في ديفيس، ومؤلف كتاب “طريق الحرير الإلكتروني”، أن ضمان التدفق الحر للبيانات قد أصبح واحداً من أكبر القضايا التي تواجه الأعمال، والمفاوضين التجاريين والمستهلكين الذين غالباً لا يدركون مدى اعتمادهم على حرية الحركة التي من هذا القبيل.
ويشير تشاندر إلى أنه عندما أدى حريق إلى إلحاق الضرر بمركز بيانات شركة سامسونج في كوريا الجنوبية في أيار (مايو) الماضي، فإن المستخدمين لأجهزة التلفزيون “الذكية” في الولايات المتحدة، فوجئوا بانقطاع الخدمة عن تلك الأجهزة نتيجة لذلك. ويقول “إن ’ذكاء‘ تلك التلفزيونات كان في الواقع يقبع في مبنى تجاري في كوريا”.
الابتكار في بعض القطاعات يفوق قواعد التجارة المصممة لحُكمها. ما زلنا نميل إلى تحديد التجارة إما في السلع أو في الخدمات، لكن في العالم هذه الأيام، هناك الكثير مما يجعل منتجات مثل السيارة ذات قيمة هو الخدمات الغنية بالبيانات المُترسخة فيها، سواء كانت الواضحة على الفور، مثل المِلاحة الفضائية، أو أنظمة الاتصالات التي تسمح لشركات التصنيع تعقّب الأداء في الوقت الحقيقي.
يقول تشاندر: “إن الفرق بين أي سلعة أو خدمة يختفي مع ساعة ذكية” وجميع التطبيقات التي تحتويها. ومع ذلك، يُضيف “أن البنية التحية للتجارة العالمية، لا تملك الإطار المفاهيمي للتعامل مع ذلك”.
من الواضح أيضاً أنه، كما أظهر النقاش الذي أطلقته تسريبات سنودِن، لا يشعر الجميع بالراحة مع عواقب العالم الرقمي الجديد.
في “بيان المبادئ المشترك” بشأن المحادثات التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في تموز (يوليو)، طلبت أكبر الاتحادات التجارية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن يحتفظ أي اتفاق تجاري عبر المحيط الأطلسي بقدسية الحق في الخصوصية عبر الإنترنت.
كما طالبت أيضاً بوضع حظر على تدفقات البيانات الحرة عبر الحدود “إذا لم يكُن بالإمكان تطبيق قوانين الخصوصية الوطنية على البيانات الموجودة خارج الحدود الوطنية”.
البرلمان الروسي أقّرّ أخيراً مشروع قانون يُطالب شركات التكنولوجيا مثل جوجل، أن تحتفظ ببيانات المستخدمين الروس داخل البلاد. كما اقترحت البرازيل العام الماضي الشيء نفسه لكنها تراجعت في وقت لاحق. وعلى الأقل هناك مقاطعتان في كندا تطلبان من المقاولين في القطاع العام، إبقاء البيانات الشخصية داخل البلاد.
الولايات المتحدة، في محاولتها لإصلاح الضرر الناتج عن تسريبات سنودِن، تستغل المحادثات الجارية في محاولة لمنع البلدان الأخرى، من اعتماد تدابير مماثلة لحجب التجارة الحرة في البيانات.
روبرت هوليمان، الذي رشّحه الرئيس باراك أوباما ليكون نائب الممثل التجاري الأمريكي للإشراف على العلاقات التجارية في آسيا، ومحادثات الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي والمفاوضات بشأن الخدمات، أمضى 13 عاماً كرئيس لتحالف البرامج التجارية BSA، الذي يمثّل شركات تكنولوجيا ذات الوزن الثقيل مثل أبل وإنتل ومايكروسوفت.
هوليمان أخبر اللجنة المالية في مجلس الشيوخ في تموز (يوليو) أن إحدي أهم أولوياته، إلى جانب تحضير استجابة سريعة لوجود الصين المتنامي في التجارة العالمية، ستكون ضمان أن الولايات المتحدة موجودة في “الطليعة” في شأن تأسيس قواعد التجارة الرقمية.
كما أخبر اللجنة أنه سيُحارب من أجل قواعد تضمن التدفق الحر للبيانات عبر الحدود، وإيقاف التمييز ضد السلع والخدمات التي يتم تداولها على الإنترت بدلاً من تداولها بشكل مادي.
الجهود وراء ذلك تعود في جزء كبير منها إلى المخاوف في صناعة التكنولوجيا في الولايات المتحدة، من أن الاتفاقيات الموجودة حالياً مثل الاتفاق العام للتجارة في الخدمات لحقبة التسعينيات، الذي تمت صياغته في عالم ما قبل الإنترنت، ليس بإمكانه فعل شيء يُذكر لإيقاف حواجز التجارة الرقمية من الظهور.
فيكتوريا إسبينيل، مستشارة البيت الأبيض السابقة للمُلكية الفكرية وخليفة هوليمان في تحالف البرامج، تقول: “من الواضح أن القواعد لا تصلُح لهذه الأيام، وبالتأكيد لن تكون كافية، حيث يتجه الاقتصاد في المستقبل. السؤال هو ماذا ستفعل حيال ذلك؟”
مجموعة البرمجيات، التي طالما طالبت بإدراج قواعد قوية للمُلكية الفكرية في الاتفاقات التجارية، حوّلت اهتمامها إلى تأمين ضمانات على تدفق البيانات الحر عبر الحدود.
لقد شهدت كل من المفاوضات لمنطقة التجارة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، واتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي على ضغط الولايات المتجدة من أجل قواعد قوية حول البيانات.
تُجادل إسبينيل أن هذه الخطوة توفر فرصة لتأسيس مخطط للتأثير في المحادثات العالمية. كما شبّهت أيضاً الوضع الحالي بجولة المفاوضات والجهود التجارية في الأوروجواي في التسعينيات، لإقناع الحكومات بأن مثل هذه الاتفاقيات يجب أن تعالج حقوق المُلكية الفكرية.
تقول إسبينيل، مفاوضة التجارة الأمريكية السابقة: “في كل مرة نفاوض من أجل شيء جديد، يكون ذلك صعباً للغاية. أنت تطلب من المفاوضين … التحدث، والتفكير، بشيء يعتبر مرحلة متطورة جداً.
ليس بالضرورة أن يعتبر مشكلة عليهم التعامل معها في الوقت الراهن. هذا شيء يصعب في الاتفاقيات التجارية، كونها صعبة التفاوض في الأساس”.
الحاجة مُلحّة. فقد ذكر باحثون من معهد ماكينزي العالمي في تقرير هذا العام أن حركة الإنترنت عبر الحدود نمت 18 ضعفاً بين عامي 2005 و2012.
مع الارتفاع المستمر في الاقتصادات الناشئة، يجادل مؤلفو تقرير معهد ماكينزي بأن التجارة الرقمية المتنامية والتكنولوجيات الجديدة، مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد، يمكن أن تجعل التدفقات العالمية لرأس المال والبيانات والسلع والخدمات تزيد أكثر من ثلاثة أضعاف، من 26 تريليون دولار في عام 2012 إلى 85 تريليون دولار بحلول عام 2025.
لقد واجهت التجارة الرقمية حواجز من قبل. وفي حين أن التجارة الإلكترونية، وهي شراء سلع التجزئة عبر الإنترنت، ارتفعت في جميع أنحاء العالم خلال العقدين الماضيين، إلا أنها بقيت في الغالب ظاهرة محلية. فقد أنفق المستهلكون في الولايات المتحدة 384.8 مليار دولار من خلال الإنترنت في عام 2013، إلا أن 40.6 مليار دولار منها فحسب، من ذلك المبلغ كان عبر الحدود.
حتى داخل السوق الموحدة في الاتحاد الأوروبي، فإن الوضع مشابه. في المملكة المتحدة، كتب باحثو معهد ماكينزي أن نحو 70 في المائة من الأشخاص ذكروا أنهم اشتروا شيئاً واحداً على الأقل عبر الإنترنت، لكن 10 في المائة فحسب قالوا إنهم اشتروا أي شيء من بائعين في بلدان أخرى في الاتحاد الأوروبي.
ويُلقى اللوم في الارتفاع البطيء في الحركة على الفجوات اللغوية وخوف المستهلكين من الاحتيال على الإنترنت.
مع ذلك، يستشهد مؤلفو تقرير معهد ماكينزي ببحث من إعداد مجلس التجارة السويدي عام 2012، الذي خلُص إلى أن “الحواجز الجمركية، وتنظيم الضرائب، وقضايا نقل البيانات عبر الحدود كانت جميعها تعتبر أعباء كبيرة على التدفقات عبر الحدود”.
لقد بدأ الباحثون للتو تحديد ما يمكن أن تعنيه حواجز التجارة الرقمية بالنسبة للاقتصاد العالمي.
في إحدى الدراسات التي تدرس تحديد مكان البيانات المقترحة والحالية وقوانين الخصوصية والأمن ذات العلاقة في سبعة بلدان، من ضمنها الصين والاتحاد الأوروبي، وجد محللون في المركز الأوروبي للاقتصاد السياسي الدولي أنها كانت بمثابة عبء كبير على النمو.
في حالة كل من الصين والاتحاد الأوروبي، فإن فرض قيود على التدفق الحر للبيانات من شأنه التسبب في انكماش يبلغ 1.1 نقطة مئوية في معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي.
اعترف مؤلفو تقرير المركز الأوروبي للاقتصاد السياسي الدولي أن الحكومات ربما تشعر بأنها مضطرة لأسباب أمنية إلى كبح تدفقات البيانات عبر الحدود، لكنهم أضافوا: “إن الدليل الاقتصادي مع ذلك يُثبت، أن القيود التجارية من جانب واحد تؤدي إلى نتائج عكسية في سياق الاقتصاد العالمي المترابط اليوم”.
هوسوك لي ماكياما، أحد مؤلفي تقرير المركز الأوروبي للاقتصاد السياسي الدولي، من بين أولئك الذين يجادلون أن النقاش بشأن البيانات والتجارة الرقمية بين الحكومات وبين المفاوضين التجاريين ليست سوى البداية. وعدد قليل جداً من صنّاع السياسة يهتمون بالتأثير الحقيقي لشيء مثل مطابع هوانج ثلاثية الأبعاد.
النقاش الآن هو حول تدفقات البيانات. لكنه يتوقع أنه ستكون هناك طُرق جديدة لحماية الصناعات المحلية والمطالب في المالية العامة. على سبيل المثال، كيف ستفرض حكومة الضرائب على ملفات الإنتاج المُرسلة عبر البريد الإلكتروني؟
من ناحية أخرى، بالنسبة للحكومات، كما هي الحال مع التكنولوجيا والابتكار، التي تكافح الحقيقة الناشئة ربما تصبح في النهاية مسعى عقيماً، يقول لي ماكياما: “إذا كنت تملك التكنولوجيا الموجودة في ستار تريك فلا يوجد شيء فعلياً، يمكن أن توقفه الحواجز التجارية”.