بروفسور غريتا صعب
وفق المنطق الاقتصادي، من المفترض أن تؤثر السياسة النقدية في الانتاج والاسعار بفترة لا تتجاوز اربعة ارباع، وعلى سبيل المثال اتت السياسة المالية معدومة الفائدة في الولايات المتحدة منذ العام ٢٠٠٨ وقد تركت الاقتصاد مع فجوة في الناتج تقدّر بأكثر من ٣%، وهذا ايضاً ما يحدث حالياً في أوروبا على رغم تسجيل انخفاض اسعار سوق المال الى مستويات متدنّية جداً بلغت ٠،٢% منذ ايلول ٢٠١٢.
وقد يكون التفسير الاقتصادي الوحيد لهكذا حالة هو تأثر السياسات النقدية بعملية تباطؤ الاقراض وضعف النظام المصرفي الذي اصبح غير قادر على اتخاذ ايّ مخاطر وتقديم القروض للشركات والأسر المعيشية. أضف الى ذلك السياسة النقدية المتشدّدة، خصوصاً في منطقة اليورو، التي عطلت وبشكل كبير الحافز النقدي المتأتي مع أسعار فوائد قاربت الصفر.
وما حصل أخيراً بعد اجتماع البنك المركزي الاوروبي في فرانكفورت والذي أعلن خلاله دراغي انه راضٍ عن تدهور اسعار صرف اليورو عارضاً لقائمة طويلة من الاسباب المستحقة لدفع سعر صرفه نحو الانخفاض والذي حسبه وبالاضافة الى زيادة التضخم سوف يشكل حافزاً للنموّ الاقتصادي الهش عبر إنعاش الصادرات.
وهذا في المطلق غير طبيعي إذ إنّ البنوك المركزية عادة ما تنأى بنفسها عن مثل هذه التصريحات عن العملات. وعدّد دراغي مجموعة من هذه العوامل ولا سيما انخفاض تدفقات رأس المال الى منطقة اليورو وهذا شيء منتظر إذ إنّ اميركا في وارد رفع اسعار الفوائد قريباً ما يعني انّ المستثمرين في اتجاه نحو الأسواق الاميركية وزيادة الطلب على الدولار مقابل اليوروـ وهكذا قد يدوم فترةً طويلة ولا سيما انّ دراغي صرّح بأنّ الاسواق المالية ادركت انّ السياسة النقدية في منطقة اليورو والولايات المتحدة ستبقى على اختلاف في المسار ولفترة طويلة.
ولكن ما يبعث على الدهشة هو انّ دراغي كان صريحاً حول اليورو وانخفاضه في الفترة الأخيرة وحسب خبير العملات في الـ UBS((Beat Siegenthaler)، هذه التصريحات تؤكد انّ اليورو كان هدفاً رئيساً عندما قرّر البنك المركزي الاوروبي اطلاق مجموعة تدابير تحفيزية لمواجهة انخفاض التضخم وخطره على الانتعاش الهش.
واقتصادياً وبالمطلق لا يمكن أن يبقى اليورو بهذه القوة عالمياً، فلا الوضع المالي الدولي ولا سياسة اميركا النقدية ولا القدرات التنافسية لأوروبا تسمح بذلك، وبات معها من الطبيعي أن تتراجع العملة امام الدولار نتيجة التفاوت المُتوقع في اسعار الفوائد علماً انّ شركات أوروبية عدّة بدأت تتململ من اسعار صرف بهذه النسب.
وفي مقال سابق أشرنا الى انّ BMW ،Unilever وAirbus صرحت وللعلن انها تعاني من هكذا اسعار وهذا طبيعي ليس فقط لهذه الشركات انما لجميع الصناعات الاوروبية بما فيها السياحة، مع العلم انّ ذلك فد يخلق مشكلات سياسية لدراغي خصوصاً مع المانيا التي لا زالت تتردّد حيال ايّ تدخل للبنك المركزي في الاسواق وهي رؤية لا تؤيّدها فيها فرنسا ولا بلدان المتوسط التي اطلقت العنان لصرخات مطالبة بيورو ضعيف، أضف الى ذلك تزايد الفجوة في معدّلات الأداء الاقتصادي بين دول منطقة اليورو والولايات المتحدة.
وبالمطلق فاذا كنت تؤيّد او لا تؤيّد الرأي في الحاجة الى يورو ضعيف، فإنّ الأمر أخطر من ذلك إذ إنه يتعلق بشفافية ووضوح البنك المركزي الاوروبي والذي يصرّح باستمرار انّ سعر الصرف ليس صرفاً بحدّ ذاته.
وعلى رغم كل التفاوت في وجهات النظر يبقى القول إنّ حسنات يورو ضعيف تفوق والى حدّ بعيد سيئاته كذلك جملة عوامل ولا سيما تباطؤ صافي الفائض التجاري في اوروبا وانخفاض تدفقات رؤوس الاموال القصيرة الاجل.
والسؤال الذي يتبادر الى الاذهان هل انّ ضعف اليورو جاء نتيجة هذه العوامل أم انه نتيجةَ سعي دؤوب للمركزي الاوروبي من أجل تخفيضه؟ والجواب لمَن يراقب أحداث أوروبا الاقتصادية ولا سيما منذ نشوب الازمة المالية في العام ٢٠٠٨ هو أقرب الى القول إنّ اوروبا هي اقرب الى تلقّي الضربات والتفاعل معها من كونها تخطط وبشكل اقتصادي سليم، لانه لو كان الامر كذلك لما تخلّفت عن أميركا وبريطانيا واليابان في طرق معالجة أزمتها الاقتصادية وتباطؤ نموّها وتعثّر مصارفها، ولكانت الآن في مرحلة على الاقل قريبة من وضعية هذه الدول.
ولم يخفِ دراغي قلقه ازاء تباطؤ النشاط وتحدّيات النموّ وخطر التوترات الجيوسياسية علماً انه اشار الى انّ أحداث أوكرانيا ومكافحة العقوبات التي فرضتها روسيا تشكل مصدر قلق وحاجزاً امام ايّ احتمال للخروج من الأزمة الراهنة.
واذا كانت اميركا وبعد ست سنوات من الأزمة المالية العالمية بدأت بالخروج من وضعها المتعثّر، يبقى القول إنّ هنالك سنوات مقبلة في انتظار اوروبا وقد تكون ست اخرى غير قادرة فيها على انعاش اقتصادها وحلّ مشكلات بطالتها وتوقعات تضخمها (في السنة الماضية كانت التوقعات لانهاء انخفاض التضخم متفائلة جداً ولغايته لم تأتِ بمفعول ايجابي إذ إنّ نسبه تدنت الى ٠،٤% أخيراً).
ولا بدّ من التذكير انّ الانتعاش في الاقتصاد العالمي لن يحدث ما لم يستعد ركيزته الاساسية وهي ثقة الإئتمان بين المصارف وبين المصارف والمستهلك، واذا كان الـ LITRO وسيلة جذابة في المطلق إلّا انّ مفاعيله غير مضمونة، وقد ذكرنا ذلك سابقاً، واذا كانت اوروبا في حاجة الى تحرّك أسرع من المركزي الاوروبي، فإنّ الحكومات ضمن منطقة اليورو ملزَمة السير قدماً باصلاحات هيكلية في اقتصاداتها. ولغايته يبقى دراغي متفائلاً في كلامه ولا سيما من ناحية مفاعيل السياسة النقدية والمالية وتوقعاته لتحسّن تكامل أسواق رأس المال في الاتحاد الاوروبي وتركيزه على الاصلاحات الهيكلية وقوله بالحرف «لقد حان الوقت لتقاسم السيادة» .
والاقتصاديون ورجال المال والمستثمرون والذين يراقبون الوضع الاوروبي عن كثب، يرون انّ ما فعله Trichet الحاكم السابق للمركزي الاوروبي والأخطاء التي ارتكبها يكرّرها ذاتها دراغي، وسياسة Trichet وترقبه للأوضاع وتباطؤه في معالجتها اكملها دراغي، وعلى ما يبدو اوروبا لم تتعلّم لا من أميركا ولا اليابان ولا انكلترا ولا من سياسات Trichet المتردّدة، لذلك نراها عاجزة وخياراتها ضعيفة وحلولها لا بدّ من أن تكون عملة ضعيفة لمساعدة دولها في تحفيز نموّ اقتصاداتها.
واذا كانت سياسات المصارف المركزية متفاوتة من حيث التوقيت إلّا انها اتت بالنتائج نفسها: فوائد متدنّية ونسب بطالة مقبولة وضخّ اموال في الاسواق معترفين بانها الوسيلة الوحيدة لاعادة اسواق الائتمان الى ما كانت عليه قبل الانهيار.
يبقى ان تقتنع اوروبا بهذا الامر وبشكل سريع إذ إنها ما زالت تتلكّأ وتَعِد بكلام اصبح مدعاة للمهزلة «سوف نفعل كلّ ما يلزم»، ورهاناتها خاطئة، وضعف اليورو لن تأتي فوائده في الفترات القليلة المقبلة انما قد يأخذ بعض الوقت نتيجة السياسات المتفاوتة للدول، وتراجعه يعد على الاقلّ بنوع من التفاؤل مقارنةً بما يواجه اوروبا من تدهور في الصورة الجغرافية السياسية ولا سيما حرب تجارية محتمَلة مع روسيا ثالث اكبر شريك تجاري للاتحاد الاوروبي.