Site icon IMLebanon

استبدال الدولار كعملة دولية…ولكن بماذا؟

USEconDollar
محمد إبراهيم السقا
ناقشنا في الأسبوع الماضي الدعوة الفرنسية لدول الاتحاد الأوروبي والعالم بالنظر في ضرورة إعادة التوازن لسلة عملات العالم بتخفيض الاعتماد على الدولار الأمريكي والدعوة لاستخدام عملات أخرى بديلة، بصفة خاصة اليورو، وكما ذكرنا هذه ليست الدعوة الأولى، ولن تكون الأخيرة، في هذا المجال.
إرهاصات البحث عن بديل للدولار بدأت بإنشاء الاتحاد النقدي الأوروبي وإصدار العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) وقد كانت هناك آمال بأن يحل اليورو محل الدولار كعملة احتياط للعالم، ولكن الأزمات المتلاحقة للعملة بعد الأزمة، في ظل تصاعد الديون السيادية للدول الأعضاء قضت على هذه الآمال في الوقت الحالي.
عندما أدار العالم ظهره لليورو اتجهت الأنظار إلى الصين مع تصاعد الأهمية التي يلعبها الاقتصاد الصيني في العالم، وقد طورت الصين نظاما لاستخدام اليوان كعملة تسوية دولية، حيث أعلنت أنها بدأت بالسماح لبعض المصارف الأخرى في العالم بالاحتفاظ باليوان وتوفيره لمن يرغب في تمويل المدفوعات مع الصين، كذلك أعلنت روسيا عن تمويل معاملاتها الثنائية مع الصين باليوان، وحاليا تسعى فرنسا إلى تطوير نظام لتبادل اليوان في العالم مركزه في باريس، وذلك لكي تحقق السبق في هذا المجال تطلعا إلى اليوم الذي ينمو فيه الطلب على اليوان وتصبح باريس هي مركزه الأساسي، مثلما هو الحال بالنسبة للندن اليوم.
البنك المركزي الفرنسي هو أكثر المصارف المركزية الأوروبية التي تؤيد فكرة إنشاء نظام للترتيبات النقدية المتبادلة في اليوان بين البنك المركزي الأوروبي والبنك المركزي الصينيECB-PBOC swap ، وقد تم الانتهاء من مذكرة لإنشاء نظام للمقاصة في اليوان يتم إنشاؤه في باريس، وأن باريس تتعاون بشكل لصيق مع الصين في هذا الجانب، كما أن هناك عددا من المصارف في العالم أخذت بالفعل بالتعامل في اليوان.
على الرغم من أن الصين لديها خطط لاستخدام اليوان كعملة تسوية دولية فإن تحقيق هذا الهدف سيتطلب عنصرين مهمين الأول هو الوقت، والثاني هو أن تبدي الصين استعدادها لكي تحقق عجزا ضخما في معاملاتها التجارية مع الدول الأخرى في العالم على النحو الذي يمكن العالم من الحصول على احتياجاته اللازمة من اليوان لكي يستخدم كعملة احتياط أو تسويات، ولا يخفى أن الصين ليست مستعدة لهذا الخيار حاليا على أي نحو، على العكس من ذلك فإن الصين تحرص على أن تكون صاحبة أكبر فائض تجاري في العالم، وتستخدم هذه الفوائض لزيادة احتياطياتها الدولارية التي بلغت نحو أربعة تريليونات دولار حاليا لكي تتأكد من استمرار الطلب مرتفعا على الدولار والحفاظ على قيمة اليوان منخفضة، وبمعنى آخر فإن السياسات التجارية للصين تعاكس المستهدفات الخاصة بتحول اليوان إلى عملة دولية.
كذلك فقد كانت هناك دعوات من الصين وروسيا لاستخدام عملات أخرى غير الدولار في تسوية المعاملات التجارية، على رأسها حقوق السحب الخاصة التي يصدرها صندوق النقد الدولي، ولكن حتى بافتراض حدوث ذلك فإن الدولار الأمريكي سيستخدم في هذه التسويات على نحو ما في نقطة زمنية ما بين هذه المعاملات. إن استخدام العملات في العالم لا يأتي بقرار رسمي من البنوك المركزية وإنما تفرضه الأسواق وتفضيلات المتعاملين فيها حول طبيعة العملة التي يقبلونها في ذلك.
إن تجربة العالم مع العملات الاحتياطية تشير إلى أنه عندما انفصلت العلاقة بين الجنيه الاسترليني والذهب في نهاية العشرينيات من القرن الماضي، أخذ الاسترليني يفقد مركزه كعملة العالم، واحتاج العالم لعقدين تقريبا حتى يصبح الدولار مركز النظام النقدي الدولي، ولكن الاسترليني كان يستخدم لغرضين بشكل أساسي في ذلك الوقت وهما تمويل التجارة وكأصل احتياطي لدى البنوك المركزية. في ذلك الوقت كانت أسواق المال في العالم شبه منعزلة تماما عن بعضها البعض، حيث لم تكن هناك مشتقات مالية ولا مراكز للأوف شور… إلخ. المشكلة في عالم اليوم هي أن جانبا ضخما جدا من المعاملات التي تتم بعملة العالم لا تتم لأغراض تمويل التجارة، وهو الدور الذي يحاول الصينيون أن يرسموه حاليا لليوان، فالطلب على الدولار لتمويل المعاملات التجارية في العالم يعد صغيرا جدا مقارنة بالطلب على الدولار للأغراض الأخرى، بصفة خاصة المالية، ومن ثم فإنه حتى وعلى فرض زعزعة مركز الدولار في تمويل المعاملات التجارية في العالم مثلما تحاول الصين من خلال تطوير نظام لتمويل الصفقات المتبادلة مثلما تأمل روسيا وإيران أن يتم تمويل صفقات النفط والغاز بعملات أخرى غير الدولار، يظل هذا الجزء من المعاملات يمثل قدرا محدودا جدا بالنسبة لتريليونات الدولارات التي يتم تبادلها يوميا عبر الحدود في العالم اليوم. وفقا لأحدث تقارير بنك التسويات الدولية فإن متوسط حجم المعاملات اليومية في أسواق النقد الأجنبي في العالم يتجاوز خمسة تريليونات دولار، وقد وجد أن الدولار يستخدم بنسبة 87 في المائة كأحد أطراف هذه المعاملات، وأن المعاملات التي لا تتضمن استخدام الدولار كعملة مقابلة لا تزيد على 13 في المائة. كذلك فإن أحدث تقارير صندوق النقد الدولي عن مكونات احتياطيات البنوك المركزية من النقد الأجنبي تكشف عن أن إجمالي احتياطيات البنوك المركزية من النقد الأجنبي بلغ في الربع الأول من هذا العام 11.86 تريليون دولار، نحو 61 في المائة منها بالدولار، وهو ما يعكس حقيقة أن المصارف المركزية في العالم لا تفضل تنويع احتياطياتها في الوقت الحالي بعيدا عن الدولار وأنها لا ترى بديلا أكثر أمانا أو سيولة من السندات الأمريكية.
إن ما يعتبره البعض أهم نقاط ضعف الاقتصاد الأمريكي يعتبر في الوقت ذاته أهم مراكز القوة للدولار، فالولايات المتحدة تواجه عجزا ضخما في ميزان مدفوعاتها، ولكن هذا العجز هو الذي يؤدي إلى تراكم الاحتياطيات الدولارية، وينشر استخدام الدولار لدى الكثير من دول العالم. كذلك تعتبر الولايات المتحدة أكبر دولة مدينة في العالم ولكي تستدين تصدر مئات المليارات من الدولارات سنويا في صورة سندات، والذي قد ينظر إليه على أنه إحدى نقاط الضعف للاقتصاد الأمريكي، ولكنه مرة أخرى يعد أحد أهم المزايا التي يتمتع بها الدولار، وبمعنى آخر فإن ما قد ينظر إليه حاليا على أنه نقاط ضعف الوضع الاقتصادي الأمريكي يعد أحد أهم العوامل المساعدة على انتشار استخدام الدولار في العالم، حيث يساعد على استيفاء احتياجات الطلب في العالم على هذه العملة للأغراض المختلفة، وبسبب الوضع العالمي للدولار توجد الكثير من المراكز المالية في العالم التي تساعد على تبادل هذه السندات على المستوى الدولي، على العكس من ذلك فإن سوق السندات الأوروبية المقومة باليورو يعد صغيرا من حيث الحجم، كما أنه يتركز في سندات الديون السيادية للدول الأعضاء في منطقة اليورو، والتي هي في أغلب الأحوال غير سائلة، وتعتمد سيولتها على مدى استعداد البنك المركزي الأوروبي لشرائها. فما هي الدولة المستعدة لأن تلعب هذا الدور بتحمل عجوزات ضخمة في موازين مدفوعاتها لترفع معدلات البطالة بين عمالها ولكي تغلق مصانعها وتهجر شركاتها أسواقها إلى الدول الأخرى في مقابل استخدام عملتها كعملة احتياط بديلة للدولار، سوى أمريكا؟
الدعوة الفرنسية لتنويع عملات التسوية والاحتياط في العالم هي بل شك أمر حيوي للعالم، لكن السؤال الأهم هو كيف السبيل إلى ذلك؟ وما العملة التي يمكن أن تحل محل الدولار أو تسانده في سلة عملات التسويات الدولية للمعاملات الخارجية بالنقد؟ وأين هو سوق النقد الذي يمكن أن يدبر هذا القدر الضخم من السيولة يوميا بعملة أخرى غير الدولار؟ أين هي سوق النقد المدعمة بالأدوات النقدية السائلة التي تمكن المتعاملين في العالم على اختلاف أشكالهم من القيام بذلك؟ وأين هو البنك المركزي الذي يستطيع التدخل بضخ عشرات أو مئات المليارات لتدبير السيولة اللازمة للعالم؟ وما هو البنك المركزي الجاهز لإجراء الترتيبات النقدية المتبادلة SWAPS مع البنوك المركزية الأخرى لمدها بخطوط السيولة التي تحتاج إليها عند الحاجة؟
من الواضح أن الإجابة عن هذه الأسئلة تقودنا إلى سؤال أساسي وهو إذا كانت بعض الدول تسعى إلى استبدال الدولار نستبدل الدولار بماذا؟ إن عدم وجود بديل جاهز في الوقت الحالي أو حتى في المستقبل القريب لكي يحل محل الدولار كعملة تسويات أو عملة احتياط يعني أن هيمنة الدولار على سلة العملات العالمية ستستمر لوقت طويل في المستقبل شئنا أم أبينا.